فصل: تفسير الآيات (1- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (62- 64):

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}
{إِنَّمَا المؤمنون} أي الكاملون في الإِيمان. {الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} من صميم قلوبهم. {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ: {أمر جميع}. {لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَئذِنُوهُ} يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن لهم، واعتباره في كمال الإِيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل والفرار، ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فقال: {إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذهاب بغير إذن ليس كذلك. {فَإِذَا استئذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ما يعرض لهم من المهام، وفيه أيضاً مبالغة وتضييق الأمر. {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} تفويض للأمر إلى رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه فكأن المعنى: فأْذن لمن علمت أن له عذراً. {واستغفر لَهُمُ الله} بعد الإِذن فإن الاستئذان ولو لعذر قصور لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين. {أَنَّ الله غَفُورٌ} لفرطات العباد. {رَّحِيمٌ} بالتيسير عليهم.
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً في جواز الإِعراض والمساهلة في الإِجابة والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته عليه الصلاة والسلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة. وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب. {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} ينسلون قليلاً قليلاً من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل. {لِوَاذاً} يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح. {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتاً خلاف سمته، و{عَنْ} لتضمنه معنى الإِعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى، فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر. {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} محنة في الدنيا.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة واستدل به على أن الأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب.
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات والأرض قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيها المكلفون من المخالفة والموافقة والنفاق والإِخلاص، وإنما أكد علمه ب {قَدْ} لتأكيد الوعيد. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء، ويجوز أن يكون الخطاب أيضاً مخصوصاً بهم على طريق الإِلتفات، وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم. {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من سوء الأعمال بالتوبيخ والمجازاة عليه. {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه خافية.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي».
بسم الله الرحمن الرحيم

.سورة الفرقان:

مكية وآيها سبع وسبعون آية.

.تفسير الآيات (1- 10):

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}
{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وترتيبه عن إنزاله {الفرقان} لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه. وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و{الفرقان} مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولاً بعضه عن بعض في الإِنزال، وقرئ: {على عباده} وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله تعالى: {وَقَدْ أَنزَلْنَا اليكم آيات} أو الأنبياء على أن {الفرقان} اسم جنس للكتب السماوية. {لِيَكُونَ} العبد أو الفرقان. {للعالمين} للجن والإِنس. {نَذِيراً} منذراً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإِنكار، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة.
{الذي لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} كزعم النصارى. {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقاً ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أحدثه إحداثاً مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإِنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإِنسان للإِدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك، أو {فَقَدَّرَهُ} للبقاء إلى أجل مسمى. وقد يطلق الخلق لمجرد الإِيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتاً.
{واتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً} لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما. {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم. {وَلاَ يَمْلِكُونَ} ولا يستطيعون. {لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً} دفع ضر. {وَلاَ نَفْعاً} ولا جلب نفع. {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولاً وبعثه ثانياً ومن كان كذلك فبمعزل عن الأُلوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها، وفيه تنبيه على أن الإِله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ} كذب مصروف عن وجهه. {افتراه} اختلقه. {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ} أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} {فَقَدْ جَاءُو ظُلْماً} بجعل الكلام المعجز {إِفك} مختلقاً متلقفاً من اليهود. {وَزُوراً} بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته.
{وَقَالُواْ أساطير الأولين} ما سطره المتقدمون. {اكتتبها} كتبها لنفسه أو استكتبها، وقرئ على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله: اكتتبها كاتب له، فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه. {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب.
{قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض} لأنه أعجزكم عن آخِركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه {أساطير الأولين}. {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صباً.
{وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول} ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم. {يَأْكُلُ الطعام} كما نأكل. {وَيَمْشِي فِي الاسواق} لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} لنعلم صدقه بتصديق الملك.
{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار. {وَقَالَ الظالمون} وضع {الظالمون} موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوه. {إِن تَتَّبِعُونَ} ما تتبعون. {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} سحر فغلب على عقله، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشراً لا ملكاً.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة. {فُضَلُّواْ} عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبط عشواء. {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى.
{تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ} في الدنيا. {خَيْراً مّن ذلك} مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى. {جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} بدل من {خَيْرًا}. {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} عطف على محل الجزاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله:
وَإِنَّ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ ** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُ

ويجوز أن يكون استئنافاً بوعد ما يكون له في الآخرة، وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو.

.تفسير الآيات (11- 20):

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}
{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فطعنوا فيك لفقرك، أو فلذلك كذبوك لا لما تمحلوا من المطاعن الفاسدة، أو فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد الله لك في الآخرة، أو فلا تعجب من تكذيبهم إياك فإنه أعجب منه. {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} ناراً شديدة الاستعار، وقيل هو اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان.
{إِذَا رَأَتْهُمْ} إِذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه السلام: «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم. {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} صوت تغيظ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه، هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر. وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف.
{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً} في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالاً. {ضَيِّقاً} لزيادة العذاب فإن الكرب مع الضيق والروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها كعرض السموات والأرض. {مُقْرَّنِينَ} قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} في ذلك المكان. {ثُبُوراً} هلاكاً أي يتمنون الهلاك وينادونه فيقولون تعال يا ثبوراه فهذا حينك.
{لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} أي يقال لهم ذلك. {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته، أو لأنه يتجدد لقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور.
{قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون} الإِشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى ال {كَنْزٌ} أو ال {جَنَّةُ}، والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة ال {جَنَّةُ} إلى {الخلد} للمدح أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنات الدنيا. {كَانَتْ لَهُمْ} في علم الله أو اللوح، أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع. {جَزَاءً} على أعمالهم بالوعد. {وَمَصِيراً} ينقلبون إليه، ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب لأنهم في مقابلتهم.
{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} ما يشاؤونه من النعيم، ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة.
{خالدين} حال من أحد ضمائرهم. {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} الضمير في {كَانَ} ل {مَا يَشَآءُونَ} والوعد الموعود أي: كان ذلك موعداً حقيقاً بأن يسأل ويطلب، أو مسؤولاً سأله الناس في دعائهم {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} أو الملائكة بقولهم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} وما في {على} من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإِلجاء إلى الإِنجاز، فإن تعلق الإِرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإِنجاز.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} للجزاء، وقرئ بكسر الشين وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء. {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يعم كل معبود سواه تعالى، واستعمال {مَا} إما لأن وضعه أعم ولذلك يطلق لكل شبح يرى ولا يعرف، أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيراً أو اعتباراً لغلبة عبادها، أو يخص الملائكة وعزيراً والمسيح بقرينة السؤال والجواب، أو الأصنام ينطقها الله أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. {فَيَقُولُ} أي للمعبودين وهو على تلوين الخطاب، وقرأ ابن عامر بالنون. {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} لإِخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح، وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة، وأصله {أأضللتم} أو {ضَلُّواْ} فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهه فيه وإلا لما توجه العتاب، وحذف صلة الضل مبالغة.
{قَالُواْ سبحانك} تعجباً مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعاراً بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده، أو تنزيهاً لله تعالى عن الأنداد. {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا} ما يصح لنا. {أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحداً دونك، وقرئ: {نَّتَّخِذَ} على البناء للمفعول من اتخذ الذي له مفعولان كقوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} ومفعوله الثاني {مِنْ أَوْلِيَاء} و{مِنْ} للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي. {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ} بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات. {حتى نَسُواْ الذكر} حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة. {وَكَانُواْ} في قضائك. {قَوْماً بُوراً} هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، أو جمع بائر كعائذ وعوذ.
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإِلزام على حذف القول والمعنى فقد كذبكم المعبودون. {بِمَا تَقُولُونَ} في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا والباء بمعنى في، أو مع المجرور بدل من الضمير، وعن ابن كثير بالياء أي: {كَذَّبُوكُمْ} بقولهم {سبحانك مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا}.
{فَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي المعبودون وقرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين. {صَرْفاً} دفعاً للعذاب عنكم، وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. {وَلاَ نَصْراً} يعينكم عليه. {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} أيها المكلفون. {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} هي النار والشرط وإن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقاً، وهو التوبة والإِحباط بالطاعة إجماعاً وبالعفو عندنا.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} أي إلا رسلاً إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} ويجوز أن تكون حالاً اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم {مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} وقرئ: {يَمْشُونَ} أي تمشيهم حوائجهم أو الناس. {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ} أيها الناس. {لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه بعد نقضه، وفيه دليل على القضاء والقدر. {أَتَصْبِرُونَ} علة للجعل والمعنى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أو حث على الصبر على ما افتتنوا به. {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلى به وغيره.