فصل: تفسير الآيات (10- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (8):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى} ومن في {مِّمَّنْ خَلَق الأرض} صلة ل {تَنْزِيلاً} أو صفة {لَهُ}، والانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام وتفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، ونسبته إلى المختص بصفات الجلال والإِكرام والتنبيه على أنه واجب الإِيمان به والانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه، ويجوز أن يكون أنزلناه حكاية كلام جبريل والملائكة النازلين معه. وقرئ: {الرحمن} على الجر صفة لمن خلق فيكون {عَلَى العرش استوى} خبر محذوف، وكذا إن رفع {الرحمن} على المدح دون الإِبتداء، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، والثرى الطبقة الترابية من الأرض وهي آخر طبقاتها، و{الحسنى} تأنيث الأحسن، وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)}
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} قفى تمهيد نبوته صلى الله عليه وسلم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة وتبليغ الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.

.تفسير الآيات (10- 20):

{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)}
{إِذْ رَأَى نَاراً} ظرف لل {حَدِيثُ} لأنه حدث أو مفعول لأذكر. قيل إنه استأذن شعيباً عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذا رأى من جانب الطور ناراً. {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا} أقيموا مكانكم. وقرأ حمزة {لأهله امكثوا ها هنا}، وفي (القصص) بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها. {إِنّى آنَسْتُ نَاراً} أبصرتها إبصاراً لا شبهة فيه، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به. {لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} بشعلة من النار وقيل جمرة. {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} هادياً يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم. ولما كان حصولهما مترتباً بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس، فإنه كان محققاً ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه، ومعنى الاستعلاء في {عَلَى النار} أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في: مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه.
{فَلَمَّا أتاها} أي النار وجد ناراً بيضاء تتقد في شجرة خضراء. {نُودِىَ ياموسى}.
{إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} فتحه ابن كثير وأبو عمرو أي بأني وكسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه، وتكرير الضمير للتوكيد والتحقيق. قيل إنه لما نودي قال: من المتكلم قال: إني أنا الله، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات وبجميع الأعضاء. وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام تلقى من ربه كلامه تلقياً روحانياً، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة. {فاخلع نَعْلَيْكَ} أمره بذلك لأن الحفوة تواضع وأدب ولذلك طاف السلف حافين. وقيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال. {إِنَّكَ بالواد المقدس} تعليل للأمر باحترام البقعة والمقدس يحتمل المعنيين. {طُوًى} عطف بيان للوادي ونونه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان. وقيل هو كثني من الطي مصدر ل {نُودِىَ} أو {المقدس} أي: نودي نداءين أو قدس مرتين.
{وَأَنَا اخترتك} اصطفيتك للنبوة وقرأ حمزة {وإنا اخترناك}. {فاستمع لِمَا يُوحَى} للذي يوحى إليك، أو للوحي واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين.
{إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى} بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره.
وقيل: {لِذِكْرِى} لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالثناء، أو {لِذِكْرِى} خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري. وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري» {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ} كائنة لا محالة. {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أريد إخفاء وقتها، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولولا ما في الأخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه، ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} متعلق ب {ءَاتِيَةٌ} أو ب {أُخْفِيهَا} على المعنى الأخير.
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} عن تصديق الساعة، أو عن الصلاة. {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة والسلام عنها، والمراد نهيه أن يصد عنها كقولهم: لا أرينك ها هنا، تنبيهاً على أَن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها، وأنه ينبغي أن يكون راسخاً في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. {واتبع هَوَاهُ} ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها. {فتردى} فتهلك بالانصداد بصده.
{وَمَا تِلْكَ} استفهام يتضمن استيقاظاً لما يريه فيها من العجائب. {بِيَمِينِكَ} حال من معنى الإِشارة، وقيل صلة {تِلْكَ}. {يَا موسى} تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه.
{قَالَ هي عَصَايَ} وقرئ: {عصي} على لغة هذيل. {أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا} أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى} وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي، وقرئ: {أهش} وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته، وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجراً لها. {وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى} حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته، وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به، وإذا قصر الرشاء وصله بها، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، وتصيران دلواً عند الاستقاء، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو، وينبع الماء بركزها، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلاً ومجملاً على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه.
{قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فألقاها فَإِذَا هي حَيَّةٌ تسعى} قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جاناً تارة نظراً إلى المبدأ وثعباناً مرة باعتبار المنتهى، وحية أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين. وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ}

.تفسير الآية رقم (21):

{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)}
{قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} فإنه لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها. {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} هيئتها وحالتها المتقدمة، وهي فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل. قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22)}
{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} كأنها مشعة. {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير عاهة وقبح، كني به عن البرص كما كنى بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه وتنفر عنه. {ءَايَةً أخرى} معجزة ثانية وهي حال من ضمير {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} أو من ضميرها، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك.

.تفسير الآية رقم (23):

{لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)}
{لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة التي دللنا بها، أو فعلنا ذلك {لِنُرِيَكَ} و{الكبرى} صفة {ءاياتنا} أو مفعول {نريك} و{مِنْ ءاياتنا} حال منها.

.تفسير الآية رقم (24):

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)}
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ} بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة. {إِنَّهُ طغى} عصى وتكبر.

.تفسير الآيات (25- 40):

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)}
{قَالَ رَبِّ اشرح لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} لما أمره الله بخطب عظيم وأمر جسيم سأله أن يشرح صدره ويفسح قلبه لتحمل أعبائه والصبر على مشاقه، والتلقي لما ينزل عليه ويسهل الأمر له بإحداث الأسباب ورفع الموانع، وفائدة لي إبهام المشروح والميسر أولاً، ثم رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيداً ومبالغة.
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي} فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه، وذلك أن فرعون حمله يوماً فأخذ بلحيته ونتفها، فغضب وأمر بقتله فقالت آسية: إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت، فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه. ولعل تبييض يده كان لذلك. وقيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ، ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} ومن لم يقل احتج بقوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً} وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقاً بل عقدة تمنع الإِفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر، ومن لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة وأن يكون صلة احلل.
{واجعل لِّّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} يعينني على ما كلفتني به، واشتقاق الوزير إما من الوزير لأنه يحمل الثقل عن أميره، أو من الوزر وهو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره، ومنه الموازرة وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة، فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واواً كقلبها في موازر. ومفعولاً اجعل وزيراً، و{هارون} قدم ثانيهما للعناية به و{لِى} صلة أو حال أو {لّى وَزِيراً} و{هارون} عطف بيان للوزير، أو {وَزِيراً مّنْ أَهْلِى} و{لِى} تبيين كقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}. و{أَخِى} على الوجوه بدل من {هارون} أو مبتدأ خبره.
{اشدد بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِى} على لفظ الأمر وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر.
{كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده.
{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} عالماً بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا، وأن هرون نعم المعين لي فيما أمرتني به.
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أي مسؤولك، فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} أي أنعمنا عليك في وقت آخر.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ} بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك لا على وجه النبوة كما أوحي إلى مريم.
{مَا يوحى} ما لا يعلم إلا بالوحي، أو مما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به.
{أَنِ اقذفيه في التابوت} بأن اقذفيه، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول. {فاقذفيه في اليم} والقذف يقال للإِلقاء وللوضع كقوله تعالى: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} وكذلك الرمي كقوله:
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالحُسْنِ يَافِعاً

{فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمراً واجب الحصول لتعلق الإِرادة به، وجعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض. {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} جواب {فَلْيُلْقِهِ} وتكرير {عَدُوٌّ} للمبالغة، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع. قيل إنها جعلت في التابوت قطناً ووضعته فيه ثم قبرته وألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالساً على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجهاً فأحبه حباً شديداً كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون، ويجوز أن يتعلق {مِنّي} ب {ألقيت} أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره. {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك. وقرئ: {وَلِتُصْنَعْ} بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر {وَلِتُصْنَعَ} بالنصب وفتح التاء أي وليكن عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري.
{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} ظرف ل {ألقيت} أو {لتصنع} أو بدل من {إِذْ أَوْحَيْنَا} على أن المراد بها وقت متسع. {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت {هَلْ أَدُلُّكُمْ} فجاءت بأمه فقبل ثديها. {فرجعناك إلى أُمِّكَ} وفاء بقولنا {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك. {وَلاَ تَحْزَنْ} هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها. {وَقَتَلْتَ نَفْساً} نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإِسرائيلي. {فنجيناك مِنَ الغم} غم قتله خوفاً من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين. {وفتناك فُتُوناً} وابتليناك ابتلاء، أو أنواعاً من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة، فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألاّف، والمشي راجلاً على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره. {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين، ومدين على ثمان مراحل من مصر. {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ} قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء. {يَا موسى} كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.