فصل: تفسير الآيات (170- 176):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (169):

{إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}
{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً} لجرى حكمه السابق ووعده المحتوم على أن من مات على كفره فهو خالد في النار وخالدين حال مقدرة. {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لا يصعب عليه ولا يستعظمه.

.تفسير الآيات (170- 176):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
{يأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ} لما قرر أمر النبوة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإِجابة والوعيد على الرد. {فَآمِنُوا خَيراً لَكُمْ} أي إيماناً خيراً لكم أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم عليه. وقيل تقديره يكن الإِيمان خيراً لكم ومنعه البصريون لأن كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لابد منه ولأنه يؤدي إلى الشرط وجوابه. {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات والأرض} يعني وإن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، ونبه على غناه بقوله: {للَّهِ مَا فِي السموات والأرض} وهو يعم ما اشتملتا عليه وما ركبتا منه. {وَكَانَ الله عَلِيماً} بأحوالهم. {حَكِيماً} فيما دبر لهم.
{يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} الخطاب للفريقين، غلت اليهود في حط عيسى عليه الصلاة والسلام حتى رموه بأنه ولد من غير رشدة، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً. وقيل الخطاب للنصارى خاصة فإنه أوفق لقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} يعني تنزيهه عن الصاحبة والولد. {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} أوصلها إليها وخصَّها فيها. {وَرُوحٌ مّنْهُ} وذو روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له، وقيل سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ} أي الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله تعالى: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمّيَ إلهين مِن دُونِ الله} أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله ثلاثة أقانيم الأب والابن وروح القدس، ويريدون بالأب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة. {انتهوا} عن التثليث. {خَيْراً لَّكُمْ} نصبه كما سبق. {إِنَّمَا الله إله واحد} أي واحد بالذات لا تعدد فيه بوجه ما. {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد فإنه يكون لمن يعادله مثل ويتطرق إليه فناء. {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ملكاً وخلقاً لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولداً. {وكفى بالله وَكِيلاً} تنبيه على غناه عن الولد فإن الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلقه أو يعينه.
{لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} لن يأنف، من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك كيلا يرى أثره عليك. {أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} من أن يكون عبداً له فإن عبوديته شرف يتباهى به، وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره. روي: «أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه الصلاة والسلام، قال عليه السلام: وأي شيء أقول قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله، قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله، قالوا: بلى».
فنزلت {وَلاَ الملائكة المقربون} عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، واحتج به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال مساقه لرد قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة فلا يتجه ذلك وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} ومن يرتفع عنها، والاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وإنما يستعمل من حيث الاستحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون بالاستحقاق. {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} فيجازيهم.
{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِياً وَلاَ نَصِيراً} تفصيل للمجازاة العامة المدلول عليها من فحوى الكلام، وكأنه قال فسيحشرهم إليه جميعاً يوم يحشر العباد للمجازاة، أو لمجازاتهم فإن إثابة مقابلهم والإِحسان إليهم تعذيب لهم بالغم والحسرة.
{يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن، أي قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة، وقيل: البرهان الدين أو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن.
{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ} في ثواب قدره بإزاء إيمانه وعمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب. {وَفَضَّلَ} إحسان زائد عليه {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} إلى الله سبحانه وتعالى. وقيل إلى الموعود. {صراطا مُّسْتَقِيماً} هو الإِسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة. {يَسْتَفْتُونَكَ} أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه. روي: «أن جابر بن عبد الله كان مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني كلالة فكيف أصنع في مالي» فنزلت وهي آخر ما نزل من الأحكام.
{قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} سبق تفسيرها في أول السورة. {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ارتفع {امرؤ} ارتفع إمرؤ بفعل يفسره الظاهر، وليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك، والواو في {وَلَهُ} يحتمل الحال والعطف، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة وابن الأم لا يكون عصبة، والولد على ظاهره فإن الأخت وإن ورثت مع البنت عند عامة العلماء غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكنها لا ترث النصف.
{وَهُوَ يَرِثُهَا} أي والمرء يرث إن كان الأمر بالعكس. {إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} ذكراً كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها، وإلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ، والآية كما لم تدل على سقوط الإِخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب وكذا مفهوم قوله: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} إن فسرت بالميت. {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى، وفائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما. {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر. {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه، أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا. وقيل لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين. {والله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة، وورث ميراثاً وأعطي من الأجر كمن اشترى محرراً، وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم».

.سورة المائدة:

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
{يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإِيفاء والعقد العهد الموثق قال الحطيئة:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهمُ ** شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الكَرَبا

وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال، ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب. {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} تفصيل للعقود، والبهيمة كل حي لا يميز. وقيل كل ذات أربع، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك: ثوب خز، ومعناه البهيمة من الأنعام. وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء وبقر الوحش. وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه. {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه. {غَيْرَ مُحِلّي الصيد} حال من الضمير في {لَكُمْ} وقيل من واو {أَوْفُواْ} وقيل استثناء وفيه تعسف و{الصيد} يحتمل المصدر والمفعول. {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} حال مما استكن في {مُحِلّي}، وال {حُرُمٌ} جمع حرام وهو المحرم. {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من تحليل أو تحريم.
{يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} يعني مناسك الحج، جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعاراً سمى به أعمال الحج ومواقفه لأنها علامات الحج وأعلام النسك. وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} أي دينه. وقيل فرائضه التي حدها لعباده. {وَلاَ الشهر الحرام} بالقتال فيه أو بالنسيء. {وَلاَ الهدي} ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح. {وَلاَ القلائد} أي ذوات القلائد من الهدي، وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي، أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له. {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قاصدين لزيارته. {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا} أن يثيبهم ويرضى عنهم، والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له، لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل، وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه والتنبيه على المانع له. وقيل معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة، وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة.
وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} إذن في الاصطياد بعد زوال الإِحرام ولا يلزم من إرادة الإِباحة هاهنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإِباحة مطلقاً. وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جداً. وقرئ: {أحللتم} يقال حل المحرم وأحل {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم أو لا يكسبنكم. {شَنَآنُ قَوْمٍ} شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل. وقرأ ابن عامر وإسماعيل عن نافع وابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضاً مصدر كليان أو نعت بمعنى: بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران. {أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} لأن صدوكم عنه عام الحديبية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم. {أَن تَعْتَدُواْ} بالانتقام، وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. ومن قرأ {يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء جعله منقولاً من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين. {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} على العفو والإِغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} للتشفي والانتقام. {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ} فانتقامه أشد.
{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} بيان ما يتلى عليكم، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية. {والدم} أي الدم المسفوح لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها. {وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه. {والمنخنقة} أي التي ماتت بالخنق. {والموقوذة} المضروبة بنحو خشب، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته. {والمتردية} التي تردت من علو أو في بئر فماتت. {والنطيحة} التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل. {وَمَا أَكَلَ السبع} وما أكل منه السبع فمات، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل. {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع. والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة. وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام. وقيل هو جمع والواحد نصاب. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح. مكتوب على أحدها، أمرني ربي. وعلى الآخر: نهاني ربي. والثالث غفل، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانياً، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام.
وقيل: هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد. {ذلكم فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام، وكونه فسقاً لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم. {اليوم} لم يرد به يوماً بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية. وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع. {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أن يظهروا عليكم. {واخشون} وأخلصوا الخشية لي. {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد. {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} اخترته لكم ديناً من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير. {فَمَنِ اضطر} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإِسلام المرضي والمعنى: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذاً أو مجاوزاً حد الرخصة كقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بأكله.
{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة، وقد سبق الكلام في {مَاذَا} وإنما قال لهم ولم يقل لنا على الحكاية، لأن {يَسْأَلُونَكَ} بلفظ الغيبة وكلا الوجهين سائغ في أمثاله، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم كأنهم لما تلي عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم. {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ومن مفهومه حرم مستخبثات العرب، أو ما لم يدل نص ولا قياس على حرمته. {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطف على {الطيبات} إن جعلت {مَا} موصولة على تقدير وصيد ما علمتم، وجملة شرطية إن جعلت شرطاً وجوابها {فَكُلُواْ} و{الجوارح} كواسب الصيد على أهلها من سباع ذوات الأربع والطير {مُكَلِّبينَ} معلمين إياه الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح ومضر بها بالصيد. مشتق من الكلب، لأن التأديب يكون أكثر فيه وآثر، أو لأن كل سبع يسمى كلباً لقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك».
وانتصابه على الحال من علمتم وفائدتها المبالغة في التعليم. {تُعَلّمُونَهُنَّ} حال ثانية أو استئناف. {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من الحيل وطرق التأديب، فإن العلم بها إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه سبحانه وتعالى، أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وأن ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه. {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهو ما لم تأكل منه لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم: «وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه» وإليه ذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم: لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر، وقال آخرون لا يشترط مطلقاً. {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} الضمير لما علمتم والمعنى: سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن بمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته. {واتقوا الله} في محرماته. {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} فيؤاخذكم بما جل ودق.
{اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} يتناول الذبائح وغيرها، ويعم الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، واستثنى علي رضي الله تعالى عنه نصارى بني تغلب وقال: ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر. ولا يلحق بهم المجوس في ذلك وإن ألحقوا بهم في التقرير على الجزية لقوله عليه الصلاة والسلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا عليكم أن تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك. {والمحصنات مِنَ المؤمنات} أي الحرائر أو العفائف، وتخصيصهن بعث على ما هو الأولى. {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وإن كن حربيات وقال ابن عباس لا تحل الحربيات. {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى. وقيل المراد بإيتائها التزامها {مُّحْصِنِينَ} أعفاء بالنكاح. {غَيْرَ مسافحين} غير مجاهرين بالزنا. {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى. {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يريد بالإِيمان شرائع الإِسلام وبالكفر إنكاره والامتناع عنه.