فصل: تفسير الآيات (21- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (9- 20):

{وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}
{وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ} أي لفرعون حين أخرجته من التابوت. {قُرَّتُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ} هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإِنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت، وفي الحديث أنه قال: لك لا لي. ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. {لاَ تَقْتُلُوهُ} خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. {عسى أَن يَنفَعَنَا} فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبناً وبرء البرصاء بريقه. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أو نتبناه فإنه أهل له. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه لغيرنا وقد تبنيناه.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} صفراً من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي خلاء لا عقول فيها، ويؤيده أنه قرئ: {فرغاً} من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه. {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ} أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه. {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} بالصبر والثبات. {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} من المصدقين بوعد الله، أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه. وقرئ موسى إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط، وجواب {لَوْلاَ} محذوف دل عليه ما قبله.
{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ} مريم. {قُصّيهِ} اتبعي أثره وتتبعي خبره. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} عن بعد وقرئ: {عن جانب} {وعن جنب} وهو بمعناه. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنها تقص أو أنها أخته.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} ومنعناه أن يرتضع من المرضعات، جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع، أو موضعه يعني الثدي. {مِن قَبْلُ} من قبل قصها أثره. {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} لأجلكم. {وَهُمْ لَهُ ناصحون} لا يقصرون في إرضاعه وتربيته، روي أن هامان لما سمعه قال: إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها: من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها، فرجعت به إلى بيتها من يومها، وهو قوله تعالى: {فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بولدها.
{وَلاَ تَحْزَنْ} بفراقه. {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} علم مشاهدة. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن وعده حق فيرتابون فيه، أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع، وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ. وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة. {واستوى} قده أو عقله. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي نبوة. {وَعِلْماً} بالدين، أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه، وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة. {وكذلك} ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه. {نَجْزِى المحسنين} على إحسانهم.
{وَدَخَلَ المدينة} ودخل مصر آتياً من قصر فرعون وقيل منف أو حائين، أو عين شمس من نواحيها. {على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط، والإِشارة على الحكاية. {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذى} هو {مِنْ عَدُوّهِ} فسأله أن يغيثه بالإِعانة ولذلك عدى ب {على} وقرئ: {استعانه}. {فَوَكَزَهُ موسى} فضرب القبطي بجمع كفه، وقرئ فلكزه أي فضرب به صدره. {فقضى عَلَيْهِ} فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأموناً فيهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلماً واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة.
{قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بقتله. {فاغفر لِى} ذنبي. {فَغَفَرَ لَهُ} لاستغفاره. {إِنَّهُ هُوَ الغفور} لذنوب عباده. {الرحيم} بهم.
{قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ} أو استعطاف أي بحق إنعامك على أعصمني فلن أكون معيناً لمن أدت معاونته إلى جرم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى، وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك.
{فَأَصْبَحَ في المدينة خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} يترقب الاستقادة. {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه مشتق من الصراخ.
{قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر.
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} لموسى والإِسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل. {قَالَ يَا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} قاله الإِسرائيلي لأنه لما سماه غوياً ظن أنه يبطش عليه، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي. {إِن تُرِيدُ} ما تريد. {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً في الأرض} تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب. {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} يسرع صفة رجل، أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. {قَالَ يَا موسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} يتشاورون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كلاً من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. {فاخرج إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين} اللام للبيان وليس صلة ل {الناصحين} لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول.

.تفسير الآيات (21- 30):

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)}
{فَخَرَجَ مِنْهَا} من المدينة. {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} لحوق طالب. {قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ القوم الظالمين} خلصني منهم واحفظني من لحوقهم.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} قبالة مدين قرية شعيب، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان. {قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} توكلاً على الله وحسن ظن به، وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب عقيبه فأخذوا في الآخرين.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها. {وَجَدَ عَلَيْهِ} وجد فوق شفيرها. {أُمَّةً مّنَ الناس} جماعة كثيرة مختلفين. {يُسْقَوْنَ} مواشيهم. {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} في مكان أسفل من مكانهم. {امرأتين تَذُودَانِ} تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم. {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنكما تذودان. {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء} تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذراً عن مزاحمة الرجال، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر: {يُصْدِرَ} أي ينصرف. وقرئ: {الرعاء} بالضم وهو اسم جمع كالرخال. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطراراً.
{فسقى لَهُمَا} مواشيهما رحمة عليهما. قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم، وقيل كانت بئراً أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها. {ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ} لأي شيء أنزلت إلي. {مّنْ خَيْرٍ} قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام. {فَقِيرٌ} محتاج سائل ولذلك عدى باللام، وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيراً في الدنيا، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك.
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء} أي مستحيية متخفرة. قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي التي تزوجها موسى عليه اسلام. {قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} ليكافئك. {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} جزاء سقيك لنا، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابها ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعاً في الأجر، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاماً فامتنع عنه وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا وأن كل من فعل معروفاً فأهدي بشيء لم يحرم أخذه.
{فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} يريد فرعون وقومه.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} يعني التي استدعته. {ياأبت استأجره} لرعي الغنم. {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين} تعليل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه، جعل {خَيْرٌ} اسماً وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف. روي أن شعيباً قال لها وما أعلمك بقوته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه.
{قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى} أي تأجر نفسك مني أو تكون لي أجيراً، أو تثيبني من أجرك الله. {ثَمَانِىَ حِجَجٍ} ظرف على الأولين ومفعول به على الثالث بإضمار مضاف أي رعية ثماني حجج. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} عملت عشر حجج. {فَمِنْ عِندِكَ} فإتمامه من عندك تفضلاً لا من عندي إلزاما عليك. وهذا استدعاء العقد لا نفسه، فلعله جرى على أجرة معينة وبمهر آخر أو برعية الأجل الأول ووعد له أن يوفي الأخير إن تيسر له قبل العقد، وكانت الأغنام للمزوجة مع أنه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ورأيك في مزاولته. {سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصالحين} في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة.
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ} أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه. {أَيَّمَا الأجلين} أطولهما أو أقصرهما. {قُضِيَتِ} وفيتك إياه. {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان، أو فلا أكون متعدياً بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي. وقرئ: {أَيَّمَا} كقوله:
تَنَظَّرْت نَصْراً وَالسماكين أَيُّمَا ** عَليَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه

وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي: أي الأجلين جردت عزمي لقضائه، وعدوان بالكسر. {والله على مَا نَقُولُ} من المشارطة. {وَكِيلٌ} شاهد حفيظ.
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} بامرأته. روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشراً أخرى ثم عزم على الرجوع. {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} أبصر من الجهة التي تلي الطور. {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّى ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي ءَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ} بخبر الطريق. {أَوْ جَذْوَةٍ} عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن.
قال:
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنُ لَهَا ** جَزلَ الجذى غَيْرَ خوارٍ وَلاَ دَعِرٍ

وقال آخر:
وَأَلْقَى عَلى قَبس مِنْ النَّارِ جَذْوَة ** شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالتِهَابُهَا

ولذلك بينه بقوله: {مِنَ النار} وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات. {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون بها.
{فَلَمَّا أتاها نُودِىَ مِن شَاطِئ الواد الأيمن} أتاه النداء من الشاطئ الأيمن لموسى. {فِى البقعة المباركة} متصل بالشاطئ أو صلة ل {نُودِىَ}. {مِنَ الشجرة} بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت ثابتة على الشاطئ. {أَن يا موسى} أي يا موسى. {إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين} هذا وإن خالف ما في (طه) (والنمل) لفظاً فهو طبقه في المقصود.