فصل: تفسير الآيات (34- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (11):

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)}
{وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} كما يفعل هؤلاء، وهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام و{مَا} للحال لا يدخل إلا مضارعاً بمعنى الحال، أو ماضياً قريباً منه وهذا على حكاية الحال الماضية.

.تفسير الآية رقم (12):

{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)}
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} ندخله. {فِى قُلُوبِ المجرمين} والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء. وفيه دليل على أن الله يوجد الباطل في قلوبهم. وقيل ل {الذكر} فإن الضمير الآخر في قوله:

.تفسير الآية رقم (13):

{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} له وهو خال من هذا الضمير، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً غير مؤمن به، أو بيان للجملة المتضمنة له، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالاً من المجرمين، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه. {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاولين} أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيداً لأهل مكة.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)}
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} أي على هؤلاء المقترحين. {بَاباً مِنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون، أو تصعد الملائكة وهم يشاهدونهم.

.تفسير الآية رقم (15):

{لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
{لَقَالُواْ} من غلوهم في العناد وتشكيكهم في الحق. {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبصارنا} سدت عن الأبصار بالسحر من السكر، ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف، أو حيرت من السكر ويدل عليه قراءة من قرأ {سكرت}. {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} قد سحرنا محمد بذلك كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات، وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)}
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السماء بُرُوجًا} اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد والتجربة مع بساطة السماء. {وزيناها} بالأشكال والهيئات البهية. {للناظرين} المعتبرين المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها.

.تفسير الآية رقم (17):

{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)}
{وحفظناها مِن كُلِّ شيطان رَّجِيمٍ} فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس إلى أهلها ويتصرف في أمرها ويطلع على أحوالها.

.تفسير الآية رقم (18):

{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}
{إِلاَّ مَنِ استرق السمع} بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاسه سراً، شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من كلها بالشهب. ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع. {فَأَتْبَعَهُ} فتبعه ولحقه. {شِهَابٌ مُّبِينٌ} ظاهر للمبصرين، والشهاب شعلة نار ساطعة، وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)}
{والأرض مددناها} بسطناها. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالاً ثوابت. {وَأَنبَتْنَا فِيهَا} في الأرض أو فيها وفي الجبال. {مِن كُلِّ شَئ مَّوْزُونٍ} مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته، أو مستحسن، مناسب من قولهم كلام موزون، أو ما يوزن ويقدر أو له وزن أبواب النعمة والمنفعة.

.تفسير الآيات (20- 29):

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} تعيشون بها من المطاعم والملابس. وقرئ: {معائش} بالهمزة الى التشبيه بشمائل: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} عطف على {معايش} أو على محل {لَكُمْ}، ويريد به العيال والخدم والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظناً كاذباً، فإن الله يرزقهم وإياهم، وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه، ثم بالغ في ذلك وقال: {وَإِن مِّن شَئ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. {وَمَا نُنَزِّلُهُ} من بقاع القدرة. {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} حده الحكمة وتعلقت به المشيئة، فإن تخصيص بعضها بالإِيجاد في بعض الأوقات مشتملاً على بعض الصفات والحالات لابد له من مخصص حكيم.
{وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} حوامل، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله:
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَوَائِحُ

وقرئ: {وَأَرْسَلْنَا الرياح} على تأويل الجنس. {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فجعلناه لكم سقيا. {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} قادرين متمكنين من إخراجه، نفى عنهم ما أثبته لنفسه، أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، وذلك أيضاً يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لابد له من سبب مخصص.
{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِِي} بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها. {وَنُمِيتُ} بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. {وَنَحْنُ الوارثون} الباقون إذا مات الخلائق كلها.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} من استقدم ولادة وموتاً ومن استأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد، أو من تقدم في الإِسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وقيل رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت. وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت.
{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} لا محالة للجزاء، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة ب {إِنَّ} لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ} باهر الحكمة متقن في أفعاله. {عَلِيمٌ} وسع علمه كل شيء.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صلصال} من طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. وقيل هو من صلصل إذا أنتن تضعيف صل. {مّنْ حَمَإٍ} طين تغير وأسود من طول مجاورة الماء، وهو صفة صلصال أي كائن {مِّنْ حَمَإٍ}. {مَّسْنُونٍ} مصور من سنه الوجه، أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإن ما يسيل بينهما يكون منتناً ويسمى السنين.
{والجآن} أبا الجن. وقيل ابليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإِنسان، لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وانتصابه بفعل يفسره. {خلقناه مِن قَبْلُ} من قبل خلق الإنسان. {مِن نَّارِ السموم} من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي، وقوله: {مّن نَّارٍ} باعتبار الغالب كقوله: {خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول للجمع والإِحياء.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} واذكر وقت قوله: {للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه الحيوانية فيسري حاملاً لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في (النساء). {فَقَعُواْ لَهُ} فاسقطوا له. {ساجدين} أمر من وقع يقع.

.تفسير الآية رقم (30):

{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)}
{فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، وقيل أكد بالكل للإِحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة، وفيه نظر إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالاً لا تأكيداً.

.تفسير الآية رقم (31):

{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)}
{إِلاَّ إِبْلِيسَ} إن جعل منقطعاً اتصل به قوله: {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} أي ولكن ابليس أبى وإن جعل متصلاً كان استئنافاً على أنه جواب سائل قال هلا سجد.

.تفسير الآية رقم (32):

{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)}
{قَالَ يَا إِبْلِيسَ مالك أَلاَّ تَكُونَ} أي غرض لك في أن لا تكون. {مَعَ الساجدين} لآدم.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)}
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ} اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد. {لِبَشَرٍ} جسماني كثيف وأنا ملك روحاني. {خَلَقْتَهُ مِن صلصال مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وهو أخس العناصر وخلقتني من نار وهي أشرفها، استنقص آدم عليه السلام باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة (الأعراف).

.تفسير الآيات (34- 46):

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46)}
{قَالَ فاخرج مِنْهَا} من السماء أو الجنة أو زمر الملائكة. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود من الخير والكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان يرجم بالشهب، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة} هذا الطرد والإِبعاد. {إلى يَوْمِ الدين} فإنه منتهى أمد اللعن، فإنه يناسب أيام التكليف ومنه زمان الجزاء وما في قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} بمعنى آخر ينسى عنده هذه. وقيل إنما حد اللعن به لأنه أبعد غاية يضر بها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائل.
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى} فأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف دل عليه {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أراد أن يجد فسحة في الإِغواء أو نجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني.
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} المسمى فيه أجلك عند الله، أو انقراض الناس كلهم وهو النفخة الأولى عند الجمهور، ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولاً بيوم الجزاء لما عرفته وثانياً بيوم البعث، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل، وثالثاً بالمعلوم لوقوعه في الكلامين، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإِهانة والإِذلال.
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} الباء للقسم وما مصدرية وجوابه. {لأُزَيّنَنَّ لَهُمْ في الأرض} والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض} وفي انعقاد القسم بأفعال لله تعالى خلاف. وقيل للسببية والمعتزلة أَوَلُو الاغواء بالنسبة إلى الغي، أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه السلام، أو بالإِضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له، وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أو لم يمهل، وأن في إمهاله تعريضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب، وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب. {وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ولأحملنهم أجمعين على الغواية.
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم كيدي. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالكسر في كل القرآن أي الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى.
{قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ} حقٌ علي أن أراعيه. {مُّسْتَقِيم} لا انحراف عنه، والإِشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه، أو الإِخلاص على معنى أنه طريق {عَلَىَّ} يؤدي إِلى الوصول إليَّ من غير اعوجاج وضلال.
وقرئ: {على} من علو الشرف.
{إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} تصديق لإِبليس فيما استثناه وتغيير الوضع لتعظيم {المخلصين}، ولأن المقصود بيان عصمتهم وانقطاع مخالب الشيطان عنهم، أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطاناً على من ليس بمخلص من عباده، فإن منتهى تزيينه التحريض والتدليس كما قال: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، وعلى الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثني أقل من الباقي لإِفضائه إلى تناقض الاستثناءين.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} لموعد الغاوين أو المتبعين. {أَجْمَعِينَ} تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدراً على تقدير مضاف، ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل.
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يدخلون منها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي: جهنم ثم لظى، ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، ولعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ومتابعة القوة الشهوية والغضبية، أو لأن أهلها سبع فرق. {لِكُلّ بَابٍ مِّنْهُمْ} من الأتباع. {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أفرز له، فأعلاها للموحدين العصاة، والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين، وقرأ أبو بكر {جُزْء} بالتثقيل. وقرئ: {جز} على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الزاي، ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى الوقف، ومنهم حال منه أو من المستكن في الظرف لا في {مَّقْسُومٌ} لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها.
{إِنَّ المتقين} من أتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفرة. {فِى جنات وَعُيُونٍ} لكل واحد جنة وعين أو لكل عدة منهما كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} ثم قوله: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وقوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} الآية، وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وهشام {وَعُيُونٍ} بضم العين حيث وقع والباقون بكسر العين. {ادخلوها} على إرادة القول، وقرئ بقطع الهمزة وكسر الخاء على أنه ماض فلا يكسر التنوين. {بِسَلامٍ} سالمين أو مسلماً عليكم. {ءامِنِينَ} من الآفة والزوال.