فصل: تفسير الآيات (48- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (30- 47):

{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)}
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين} من استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
{مِن فِرْعَوْنَ} بدل من {العذاب} على حذف المضاف، أو جعله عذاب لإِفراطه في التعذيب، أو حال من المهين بمعنى واقعاً من جهته، وقرئ: {مِن فِرْعَوْنَ} على الاستفهام تنكير له لنكر ما كان عليه من الشيطنة. {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} متكبراً. {مِّنَ المسرفين} في العتو والشرارة، وهو خبر ثان أي كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في {عَالِياً} أي كان رفيع الطبقة من بينهم.
{وَلَقَدِ اخترناهم} اخترنا بني إسرائيل. {على عِلْمٍ} عالمين بأنهم أحقاء بذلك، أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بَعض الأحوال. {عَلَى العالمين} لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم.
{وءاتيناهم مِنَ الآيات} كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى. {مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ} نعمة جلية أو اختبار ظاهر.
{إِنَّ هَؤُلآء} يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة، والإِنذار عن مثل ما حل بهم. {لَيَقُولُونَ}.
{إِنْ هي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك: حج زيد الحجة الأولى ومات. وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم موتة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى، أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى. {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين.
{فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا} خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين. {إِن كُنتُمْ صادقين} في وعدكم ليدل عليه.
{أَهُمْ خَيْرٌ} في القوة والمنعة. {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند. وقيل هدمها وكان مؤمناً وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه. وعنه عليه الصلاة والسلام: «ما أدري أكان تبع نبياً أم غير نبي» وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيلون. {والذين مِن قَبْلِهِمْ} كعاد وثمود. {أهلكناهم} استئناف بمآل قوم تبع، {والذين مِن قَبْلِهِمْ} هدد به كفار قريش أوحال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به. {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} بيان للجامع المقتضي للإهلاك.
{وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} وَمَا بين الجنسين وقرئ: {وما بينهن}. {لاَعِبِينَ} لاهين، وهو دليل على صحة الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها.
{مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق} إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإيمان والطاعة، أو البعث والجزاء. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لقلة نظرهم.
{إِنَّ يَوْمَ الفصل} فصل الحق عن الباطل، أو المحق عن المبطل بالجزاء، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه.
{ميقاتهم} وقت موعدهم. {أَجْمَعِينَ} وقرئ: {ميقاتهم} بالنصب على أنه الاسم أي إن ميعاد جزائهم في {يَوْمُ الفصل}.
{يَوْمَ لاَ يُغْنِى} بدل من {يَوْمُ الفصل} أو صفة ل {ميقاتهم}، أو ظرف لما دل عليه الفصل لاله الفصل. {مَوْلَى} من قرابة أو غيرها. {عَن مَّوْلًى} أي مولى كان. {شَيْئاً} من الاغناء. {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الضمير ل {مَوْلَى} الأول باعتبار المعنى لأنه عام.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، ومحله الرفع على البدل من الواو والنصب على الاستثناء {إِنَّهُ هُوَ العزيز} لا ينصر منه من أراد تعذيبه. {الرحيم} لمن أراد أن يرحمه.
{إِنَّ شَجَرَة الزقوم} وقرئ بكسر الشين ومعنى {الزقوم} سبق في (الصافات).
{طَعَامُ الأثيم} الكثير الآثام، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه.
{كالمهل} وهو ما يمهل في النار حتى يذوب. وقيل دردي الزيت. {يَغْلِي في البطون} وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء على أن الضمير لل {طَعَامٌ}، أو {الزقوم} لا {للمهل} إذ الأظهر أن الجملة حال من أحدهما.
{كَغَلْىِ الحميم} غلياناً مثل غليه.
{خُذُوهُ} على إرادة القول والمقول له الزبانية. {فاعتلوه} فجروه والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر، وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب بالضم وهما لغتان. {إلى سَوَاءِ الجحيم} وسطه.

.تفسير الآيات (48- 59):

{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
{ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} كان أصله يصب من فوق رؤوسهم الحميم فقيل يصب من {فَوْقَ} رؤوسهم {عَذَابِ} هو {الحميم} للمبالغة، ثم أضيف ال {عَذَابِ} إلى {الحميم} للتخفيف وزيد من الدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.
{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي وقولوا له ذلك استهزاء به وتفريعاً على ما كان يزعمه، وقرأ الكسائي {أنك} بالفتح أي ذق لأنك أو {عَذَابِ} {إِنَّكَ}.
{إِنَّ هَذَا} إن هذا ال {عَذَابِ}. {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكون وتمارون فيه.
{إِنَّ المتقين في مَقَامٍ} في موضع إقامة، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم {أَمِين} يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال.
{فِى جنات وَعُيُونٍ} بدل من مقام جيء به للدلالة على نزاهته، واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب.
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف، والسندس ما رَقَّ من الحرير والاستبرق ما غلظ منه معرب استبره، أو مشتق من البراقة. {متقابلين} في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض. {كذلك} الأمر كذلك أو آتيناهم مثل ذلك. {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} قرناهم بهن ولذلك عدي بالباء، والحوراء البيضاء والعيناء عظيمة العينين، واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها.
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة} يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا بزمان. {ءامِنِينَ} من الضرر.
{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} بل يحيون فيها دائماً، والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة و{الموت} أول أحوالها، أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها، أو الإِستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع {الموت} فكأنه قال: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت} إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل. {ووقاهم عَذَابَ الجحيم} وقرئ: {ووقاهم} على المبالغة.
{فَضْلاً مّن رَّبّكَ} أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلاً منه. وقرئ بالرفع أي ذلك فضل. {ذلك هُوَ الفوز العظيم} لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب.
{فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ} سهلناه حيث أنزلناه بلغتك وهو فذلكة السورة. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لعلهم يفهمونه فيتذكرون به ما لم يتذكروا.
{فارتقب} فانتظر ما يحل بهم. {إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} منتظرون ما يحل بك. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفوراً له».

.سورة الجاثية:

.تفسير الآيات (1- 12):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}
{حم تَنزِيلُ الكتاب} إن جعلت {حم} مبتدأ خبره {تَنزِيلُ الكتاب} احتجت إلى إضمار مثل ذلك {تَنزِيلُ} {حم}، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان {تَنزِيلُ} مبتدأ خبره: {مِنَ الله العزيز الحكيم} وقيل: {حم} مقسم به و{تَنزِيلُ الكتاب} صفته وجواب القسم: {إِنَّ في السموات والأرض لأيات لّلْمُؤْمِنِينَ} وهو يحتمل أن يكون على ظاهره وأن يكون المعنى إن في خلق السموات لقوله: {وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ} وَلاَ يحسن عطف ما على الضمير المجرور بل عطفه على المضاف إليه بأحد الاحتمالين، فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما به يتم معاشه إلى غير ذلك دلائل على وجود الصانع المختار. {ءَايَاتٍ لِقَوْمٍ يُوقنُونَ} محمول على محل إن واسمها، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملاً على الاسم.
{واختلاف اليل والنهار وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ} من مطر وسماه رزقاً لأنه سببه. {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {وَتَصْرِيفِ الرياح} باختلاف جهاتها وأحوالها، وقرأ حمزة والكسائي {وتصريف الريح}. {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فيه القراءتان ويلزمهما العطف على عاملين في والابتداء، أو أن إلا أن يضمر في أو ينصب {آيات} على الاختصاص أو يرفع بإضمار هي، ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.
{تِلْكَ آيات الله} أي تلك الآيات دلائله {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} حال عاملها معنى الإِشارة. {بالحق} ملتبسين به أو ملتبسة به. {فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ تُؤمِنُونَ} أي بعد {آيات اللهِ}، وتقديم اسم {الله} للمبالغة والتعظيم كما في قولك أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث {الله} وهو في القرآن كقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} و{ءاياته} دلائله المتلوة أو القرآن، والعطف لتغاير الوصفين. وقرأ الحجازيان وحفص وأبو عمرو وروح {يُؤْمِنُونَ} بالياء ليوافق ما قبله.
{وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ} كذاب. {أَثِيمٍ} كثير الآثام.
{يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ} يقيم على كفره. {مُسْتَكْبِراً} عن الإِيمان بالآيات و{ثُمَّ} لاستبعاد الإِصرار بعد سماع الآيات كقوله:
يَرَى غَمَرات ثُمَّ يَزُورهَا

{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي كأنه فخففت وحذف ضمير الشأن والجملة في موضع الحال، أي يصر مثل غير السامع. {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} على إصراره والبشارة على الأصل أو التهكم.
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً} وإذا بَلغه شيء من {ءاياتنا} وعلم أنه منها. {اتخذها هُزُواً} لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، والضمير ل {ءاياتنا} وفائدته الإِشعار بأنه إذا سمع كلاماً وعلم أنه من الآيات بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه، أو لشيء لأنه بمعنى الآية. {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
{مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} من قدامهم لأنهم متوجهون إليها، أو من خلفهم لأنها بعد آجالهم. {وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفع عنهم. {مَّا كَسَبُواْ} من الأموال والأولاد. {شَيْئاً} من عذاب الله. {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي الأصنام. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يتحملونه.
{هذا هُدًى} الإِشارة إلى القرآن ويدل عليه قوله: {والذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ} وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع {أَلِيمٌ} وال {رِجْزَ} أشد العذاب.
{الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه. {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} بتسخيره وأنتم راكبوها. {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} التجارة والغوص والصيد وغيرها. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم.

.تفسير الآيات (13- 21):

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)}
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً} بأن خلقها نافعة لكم. {مِنْهُ} حال من ما أي سخر هذه الأشياء كائنة منه، أو خبر لمحذوف أي هي جميعاً منه، أو ل {مَا فِي السموات} {وَسَخَّرَ لَكُمُ} تكرير للتأكيد أو ل {مَّا في الأرض}، وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل {سَخَّرَ} على الإِسناد المجازي أو خبر محذوف. {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في صنائعه.
{قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ} حذف المقول لدلالة الجواب عليه، والمعنى قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا. {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} لاَ يتوقعون وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم، أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. والآية نزلت في عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهم أن يبطش به، وقيل إنها منسوخة بآية القتال. {لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} علة للأمر، والقوم هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو الشيوع، والكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {لنجزي} بالنون وقرئ: {لِيَجْزِىَ} قوم {وليجزي قوماً} أي ليجزي الخير أو الشر أو الجزاء، أعني ما يجزى به لا المصدر فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف.
{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} أي لها ثواب العمل وعليها عقابه. {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} فَيجازيكم على أعمالكم.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب} التوراة. {والحكم} والحكمة النظرية والعملية أو فصل الخصومات. {والنبوة} إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} مما أحل الله من اللذائذ. {وفضلناهم عَلَى العالمين} حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.
{وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر} أدلة في أمر الدين ويندرج فيها المعجزات. وقيل آيات من أمر النبي عليه الصلاة والسلام مبينة لصدقه. {فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمر. {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقة الحال. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} عداوة وحسداً. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بالمؤاخذة والمجازاة.
{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} طريقة {مِنَ الأمر} من أمر الدين. {فاتبعها} فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش قالوا له ارجع إلى دين آبائك.
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} مما أراد بك. {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالهم باتباع أهوائهم. {والله وَلِىُّ المتقين} فواله بالتقى واتباع الشريعة.
{هذا} أي القرآن أو اتباع الشريعة. {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} بينات تبصرهم وجه الفلاح. {وهدى} من الضلالة. {وَرَحْمَةٌ} وَنعمة من الله. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يطلبون اليقين.
{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة. {أَن نَّجْعَلَهُمْ} أن نصيرهم. {كالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله: {سَوَاءً محياهم ومماتهم} بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول لأن المماثلة فيه إذ المعنى انكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص {سَوَآء} بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف، أو المفعولية والكاف حال وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للانكار، وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني، وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة، أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال، وقرئ: {مَمَاتَهُمْ} بالنصب على أن {محياهم ومماتهم} ظرفان كمقدم الحاج. {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ساء حكمهم هذا أو بئس شيئاً حكموا به ذلك.