فصل: تفسير الآيات (9- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (9- 15):

{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}
{أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاسَتحالتهم الإِحياء حتى جعلوه افتراء وهزؤاً، وتهديداً عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقاً، أم السماء، وإنا {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً}، لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات. وقرأ حمزة والكسائي {يَشَإِ} و{يَخْسِفَ} و{يسقط} بالياء لقوله: {فَمَنِ افترى عَلَى الله}. والكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء وحفص {كِسَفًا} بالتحريك. {إِنَّ في ذَلِكَ} النظر والتفكر فيهما وما يدلان عليه. {لآيَةً} لدلالة. {لّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. {ياجبال أَوِّبِى مَعَهُ} رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، أو سيري معه حيث سار. وقرئ: {أوبي} من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه، وهو بدل من {فَضْلاً} أو من {ءَاتَيْنَا} بإضمار قولنا أو قلنا. {والطير} عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على لفظها تشبيهاً للحركة البنائية العارضة بالحركة الإِعرابية أو على {فَضْلاً}، أو مفعول معه ل {أَوّبِى} وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل: ولقد آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال والطير، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها. {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بإِلانته أو بقوته.
{أَنِ اعمل} أمرناه أن اعمل ف {أنِ} مفسرة أو مصدرية. {سابغات} دروعاً واسعات، وقرئ: {صابغات} وهو أول من اتخذها. {وَقَدّرْ في السرد} وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتنخرق. ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة ويؤيده قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد}. {واعملوا صالحا} الضمير فيه لداود وأهله. {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فأجازيكم عليه.
{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريح، وقرئ: {الريح} بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ: {الرياح}. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك، وقرئ: {غدوتها} {وروحتها}.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، ولذلك سماه عيناً وكان ذلك باليمن. {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} عطف على {الريح} {وَمِنَ الجن} حال مقدمة، أو جملة {مِنْ} مبتدأ وخبر. {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمره. {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ} ومن يعدل منهم. {عَنْ أَمْرِنَا} عما أمرناه من طاعة سليمان، وقرئ: {يَزِغْ} من أزاغه. {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} عذاب الآخرة.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب} قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها. {وتماثي} وصوراً هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد. روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. {وَجِفَانٍ} وصحاف. {كالجواب} كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة. {وَقُدُورٍ رسيات} ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. {اعملوا ءالَ دَاوُودَ شاكرا} حكاية عما قيل لهم {وشكراً} نصب على العلة أي: اعملوا له واعبدوه شكراً، أو المصدر لأن العمل له شكراً أو الوصف له أو الحال أو المفعول به. {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشكور} المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى حقه، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهايته، ولذلك قيل الشكور من يرعى عجزه عن الشكر.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي على سليمان. {مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ} ما دل الجن وقيل آله. {إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} أي الأرضة أضيفت إلى فعلها، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال: أرضت الأرضة الخشبة أرضاً فأرضت أرضاً مثل أكلت القوادح الأسنان أكلاً فأكلت أكلاً. {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين، و{منساءته} على مفعالة كميضاءة في ميضاة و{مِنسَأَتَهُ} أي طرف عصاه مستعار من سأة القوس، وفيه لغتان كما في قحة وقحة، وقرأ نافع وأبو عمرو{مِنسَأَتَهُ} بألف بدلاً من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين. {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم. {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين} أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا حولاً في تسخيره إلى أن خرَّ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب. وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به، فأراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخرَّ ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوماً وليلة مقداراً فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة، وعن ابن كثير قلب همزته ألفاً ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب. {فِى مساكنهم} في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها مأرب. بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، وقرأ حمزة وحفص بالإِفراد والفتح، والكسائي بالكسر حملاً على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع. {ءَايَةً} علامة دالة على وجود الصانع المختار، وأنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام. {جَنَّتَانِ} بدل من {ءايَةً} أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين. {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة، أو بستاناً كُلِ رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله. {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ} حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره. وقرئ الكل بالنصب على المدح. قيل كانت أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة.

.تفسير الآيات (16- 24):

{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}
{فَأَعْرِضُواْ} عن الشكر. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم، وعرم إذا شرس خلقه وصعب، أو المطر الشديد أو الجرذ، أضاف إليه ال {سَيْلَ} لأنه نقب عليهم سكراً ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقباً على مقدار ما يحتاجون إليه، أو المسناة التي عقدت سكراً على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة. وقيل اسم وادٍ جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. {وبدلناهم بِجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعماً من مرارة، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له، والتقدير كل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلاً، أو عطف بيان. {وَأَثْلٍ وَشَئ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} معطوفان على {أَكَلَ} لا على {خَمْطٍ}، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له، وقرئا بالنصب عطفاً على {جَنَّتَيْنِ} ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين، وتسمية البدل {جَنَّتَيْنِ} للمشاكلة والتهكم. وقرأ أبو عمرو {ذاتي} أكل بغير تنوين اللام وقرأ الحرميان بتخفيف {أَكَلَ}.
{ذَلِكَ جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ} بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل، إِذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، وتقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. {وَهَلْ يُجْازِى إِلاَّ الكفور} وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص {نُجَازِي} بالنون و{الكفور} بالنصب.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} بالتوسعة على أهلها وهي قرى الشأم. {قُرًى ظاهرة} متواصلة يظهر بعضها لبعض، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام. {سِيرُواْ فِيهَا} على إرادة القول بلسان الحال أو المقال. {لَيَالِىَ وَأَيَّاماً} متى شئتم من ليل أو نهار. {ءَامِنِينَ} لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن.
{فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزود الأزواد، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام {بعد}، ويعقوب {رَبَّنَا باعد} بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه، ومثله قراءة من قرأ {ربنا بعد} أو {بعد} على النداء وإسناد الفعل إلى {بَيْنَ}.
{وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها. {فجعلناهم أَحَادِيثَ} يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ. {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشأم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان. {إِنَّ في ذَلِكَ} فيما ذكر. {لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ} عن المعاصي. {شَكُورٍ} على النعم.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في: {صَدَقَ وَعْدَهُ}. لأنه نوع من القول، وشدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقاً. وقرئ بنصب {إِبْلِيسَ} ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجد ظنه صادقاً، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب، أو سمع من الملائكة قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} فقال: {لأضلنهم} و{لأُغْوِيَنَّهُمْ} {فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتبعوه، وتقليلهم بالإِضافة إلى الكفار، أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون.
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان} تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء. {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكّ} إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقاً يترتب عليه الجزاء، أو ليتميز المؤمن من الشاك، أو ليؤمن من قدر إيمانه ويشك من قدر ضلاله، والمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، في نظم الصلتين نكتة لا تخفى. {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَئ حَفُيظٌ} محافظ والزنتان متآخيتان.
{قُلْ} للمشركين. {ادعوا الذين زَعَمْتُمْ} أي زعمتموهم آلهة، وهما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه، ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاماً ولا {لاَّ يَمْلِكُونَ} لأنهم لا يزعمونه. {مِن دُونِ الله} والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} من خير أو شر. {فِي السموات وَلاَ في الأرض} في أمر ما وذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم. من شركة لا خلقاً ولا ملكاً. {وَمَا لَهُمْ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ} يعينه على تدبير أمرهما.
{وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ} فلا ينفعهم شفاعة أيضاً كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله. {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أذن له أن يشفع، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك، واللام على الأول كاللام في قولك: الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك: جئتك لزيد، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة.
{حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظاراً للإِذن أي: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإِذن، وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمناً. وقرأ ابن عامر ويعقوب {فُزّعَ} على البناء للفاعل. وقرئ: {فرغ} أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني. {قَالُواْ} قال بعضهم لبعض. {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} في الشفاعة. {قَالُواْ الحق} قالوا قال القول الحق وهو الإِذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون، وقرئ بالرفع أي مقوله الحق. {وَهُوَ العلى الكبير} ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السموات والأرض} يريد به تقرير قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ} {قُلِ الله} إذ لا جواب سواه، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإِلزام فهم مقرون به بقلوبهم. {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ} أي وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإِمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين، وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الانصاف المسكت للخصم المشاغب، ونظيره قول حسان:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكفْءٍ ** فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ

وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر، واختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد مناراً ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جواداً يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئاً أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها.