فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (99):

{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}
{فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} ذكر بكلمة الإِطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه. {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً}.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً} متحولاً من الرغام وهو التراب. وقيل طريق يراغم قومه بسلوكه أي يفارقهم على رغم أنوفهم وهو أيضاً من الرغام. {واسعة} في الرزق وإظهار الدين. {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} وقرئ: {يُدْرِكْهُ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه وبالنصب على إضمار أن كقوله:
سَأَتْرُك مَنْزِلِي بِبَني تَمِيم ** وَأَلْحَقُ بالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحا

{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى: ثبت أجره عند الله تعالى ثبوت الأمر الواجب. والآية الكريمة نزلت في جندب بن ضمرة حمله بنوه على سرير متوجهاً إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله فقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايع عليه رسولك صلى الله عليه وسلم فمات.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} سافرتم. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر: «وأن عائشة رضي الله تعالى عنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت فقال: أحسنت يا عائشة». وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر». فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإِجزاء، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية. بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان، فسمي الإتيان بهما قصراً على ظنهم. ونفي الجناح فيه لتطبيب به نفوسهم، وأقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا وستة عند أبي حنيفة. قرئ: {تَقْصُرُواْ} من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي: شيئاً من الصلاة عند سيبويه، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش. {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضاً في حال الأمن. وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم: وهو القتال والتعرض بما يكره.

.تفسير الآية رقم (102):

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضل الجماعة، وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره. {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى تجاه العدو. {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} أي المصلون حزماً. وقيل الضمير للطائفة الأخرى، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم. {فَإِذَا سَجَدُواْ} يعني المصلين. {فَلْيَكُونُواْ} أي غير المصلين. {مِن وَرَائِكُمْ} يحرسونكم يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، فغلب المخاطب على الغالب. {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ} لاشتغالهم بالحراسة. {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} ظاهره يدل على أن الإِمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائماً حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو، وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية. ثم ينتظر قاعداً حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة، ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة} تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة، وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب. {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو. {إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى.

.تفسير الآية رقم (103):

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أديتم وفرغتم منها. {فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} فداوموا على الذكر في جميع الأحوال، أو إذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف فأدوها كيفما أمكن، قياماً مسايفين ومقارعين، وقعوداً مرامين وعلى جنوبكم مثخنين. {فَإِذَا اطمأننتم} سكنت قلوبكم من الخوف. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وائتوا بها تامة. {إِنَّ الصلاة كَانَت عَلى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} فرضاً محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال، وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة وأنها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة، وتعليل للأمر بالإِيتاء بها كيفما أمكن. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلي المحارب حتى يطمئن.

.تفسير الآية رقم (104):

{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
{وَلاَ تَهِنُواْ} ولا تضعفوا. {فِي ابتغاء القوم} في طلب الكفار بالقتال. {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} إلزام لهم وتقريع على التواني فيه، بأن ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختص بهم، وهم يرجون من الله بسببه من إظهار الدين واستحقاق الثروات ما لا يرجو عدوهم، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها. وقرئ: {إِن تَكُونُواْ} بالفتح بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون، ويكون قوله فإنهم يألمون علة للنهي عن الوهن لأجله. والآية نزلت في بدر الصغرى. {وَكَانَ الله عَلِيماً} بأعمالكم وضمائركم. {حَكِيماً} فيما يأمر وينهي.

.تفسير الآية رقم (105):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)}
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر، سرق درعا من جارهُ قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل {بِمَا أَرَاكَ الله} بما عرفك الله وأوحى به إليك وليس من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل. {وَلاَ تَكُن لّلْخَائِنِينَ} أي لأجلهم والذب عنهم {خَصِيماً} للبرآء.

.تفسير الآيات (106- 115):

{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
{واستغفر الله} مما همت به. {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} لمن يستغفر.
{وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها، أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلماً عليها، والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإِثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} مبالغاً في الخيانة مصراً عليها. {أَثِيماً} منهمكاً فيها. روي: أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} يستترون منهم حياء وخوفاً. {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} ولا يستحيون منه وهو أحق بأن يستحيا ويخاف منه. {وَهُوَ مَعَهُمْ} لا يخفي عليه سرهم فلا طريق معه إلا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه. {إِذْ يُبَيّتُونَ} يدبرون ويزورون. {مَا لاَ يرضى مِنَ القول} من رمي البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور. {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}. لا يفوت عنه شيء.
{هَا أَنتُمْ هؤلاء} مبتدأ وخبر. {جادلتم عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} جملة مبينة لوقوع أولاء خبراً أو صلة عند من يجعله موصولاً. {فَمَن يجادل الله يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} محامياً يحميهم من عذاب الله.
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} قبيحاً يسوء به غيره. {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به ولا يتعداه. وقيل المراد بالسوء ما دون الشرك، وبالظلم الشرك. وقيل: الصغيرة والكبيرة. {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} بالتوبة. {يَجِدِ الله غَفُوراً} لذنوبه. {رَّحِيماً} متفضلاً عليه، وفيه حث لطعمة وقومه على التوبة والاستغفار.
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} فلا يتعداه وباله كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} فهو عالم بفعله حكيم في مجازاته.
{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} صغيرة أو ما لا عمد فيه. {أَوْ إِثْماً} كبيرة أو ما كان عن عمد. {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} كما رمى طعمة زيداً، ووحد الضمير لمكان أو. {فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة، ولذلك سوى بينهما وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بإعلام ما هم عليه بالوحي، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي من بني ظفر. {أَن يُضِلُّوكَ} عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال، والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل إلى نفي تأثيره فيه. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لأنه ما أزلك عن الحق وعاد وباله عليهم. {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} فإن الله سبحانه وتعالى عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم، ومن شيء في موضع النصب على المصدر أي شيء من الضرر {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خفيات الأمور، أو من أمور الدين والأَحكام.
{وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} إذ لا فضل أعظم من النبوة.
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} من متناجيهم كقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} أو من تناجيهم فقوله: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل. وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به. {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} أو إصلاح ذات البين. {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغاء مَرْضَاتَ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيراً رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجراً. ووصف الأجر بالعظم تنبيهاً على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا. وقرأ حمزة وأبو عمرو {يؤتيه} بالياء.
{وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} يخالفه، من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر. {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات. {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل. {نُوَلّهِ مَا تولى} نجعله والياً لما تولى من الضلال، ونخل بينه وبين ما اختاره. {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} وندخله فيها. وقرئ بفتح النون من صلاة. {وَسَاءتْ مَصِيراً} جهنم، والآية تدل على حرمة مخالفة الإِجماع، لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهما أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً كان اتباع سبيلهم واجباً، لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم، وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام.