فصل: تفسير الآية رقم (103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (98- 100):

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}
{فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} إذا أردت قراءته كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} فاسأل الله أن يعيذك من وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة، والجمهور على أنه للاستحباب. وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً، وتعقيبه لذكر العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القبيل. وعن ابن مسعود قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال: «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ» {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلط وولاية {على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} على أولياء الله تعالى المؤمنين به والمتوكلين عليه فإنهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر باستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطاناً.
{إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} يحبونه ويطيعونه. {والذين هُم بِهِ} بالله أو بسبب الشيطان. {مُّشْرِكُونَ}.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظاً أو حكماً. {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ} من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو{يُنَزل} بالتخفيف. {قَالُواْ} أي الكفرة. {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} متقول على الله تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وجواب {إِذَا} {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}، اعتراض لتوبيخ الكفار على قولهم والتنبيه على فساد سندهم ويجوز أن يكون حالاً. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حكمة الأحكام ولا يميزون الخطأ من الصواب.

.تفسير الآية رقم (102):

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} يعني جبريل عليه الصلاة والسلام، وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كقولهم: حاتم الجود وقرأ ابن كثير {رُوحُ القدس} بالتخفيف وفي {ينزل} و{نزله} تنبيه على أن إنزاله مدرجاً على حسب المصالح بما يقتضي التبديل. {مّن رَّبِّكَ بالحق} ملتبساً بالحكمة. {لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ} ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم. {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحكمه، وهما معطوفان على محل {لِيُثَبِّتَ} أي تثبيتاً وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم وقرئ: {لِيُثَبّتَ} بالتخفيف.

.تفسير الآية رقم (103):

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} يعنون جبراً الرومي غلام عامر بن الحضرمي. وقيل جبراً ويساراً كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه. وقيل عائشاً غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب. وقيل سلمان الفارسي. {لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه، مأخوذ من لحد القبر. وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء، لسان أعجمي غير بين. {وهذا} وهذا القرآن. {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} ذو بيان وفصاحة، والجملتان مستأنفتان لإِبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون ما تلقفه منه. وثانيهما: هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعلهما لم يعرفا معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم.

.تفسير الآيات (104- 110):

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} لا يصدقون أنها من عند الله. {لاَ يَهْدِيهِمُ الله} إلى الحق أو إلى سبيل النجاة. وقيل إلى الجنة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة، هددهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم فقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} لأنهم لا يخافون عقاباً يردعهم عنه. {وأولئك} إشارة إلى الذين كفروا أو إلى قريش. {هُمُ الكاذبون} أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب، أو الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة، أو الكاذبون في قولهم: {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ}.
{مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه} بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض، أو من {أولئك} أو من {الكاذبون}، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوفة الجواب دل عليه قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} على الافتراء أو كلمة الكفر، استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإِيمان. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} لم تتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الإِيمان هو التصديق بالقلب. {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} اعتقده وطاب به نفساً. {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إذ لا أعظم من جرمه. روي: «أن قريشاً أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسمية على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا: أنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتلوا ياسراً وهما أول قتيلين في الإِسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر فقال: كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه لما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تقول فيَّ فقال: أنت أيضاً فخلاه، وقال للآخر ما تقول في محمد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال فما تقول في؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» {ذلك} إشارة إلى الكفر بعد الإِيمان أو الوعيد. {بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على} بسبب أنهم آثروها عليها. {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ.
{أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه. {وأولئك هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة إذ أغفلتهم الحالة الراهنة عن تدبر العواقب.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر، و{ثُمَّ} لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، وقرأ ابن عامر فتنوا بالفتح أي من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبراً حتى ارتد ثم أسلم وهاجر. {ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ} على الجهاد وما أصابهم من المشاق. {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد الهجرة والجهاد والصبر. {لَغَفُورٌ}، لما فعلوا قبل. {رَّحِيمٌ} منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد.

.تفسير الآية رقم (111):

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} منصوب ب {رَّحِيمٌ} أو باذكر. {تجادل عَن نَّفْسِهَا} تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي. {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} جزاء ما عملت. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا ينقصون أجورهم.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} أي جعلها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا، فأنزل الله بهم نقمته، أو لمكة. {كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} لا يزعج أهلها خوف. {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أقواتها. {رَغَدًا} واسعاً. {مِّن كُلِّ مَكَانٍ} من نواحيها. {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير:
غمرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكَا ** غلقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ المال

فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لمَّا يلقى عليه، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظراً إلى المستعار له، وقد ينظر إلى المستعار كقوله:
يُنَازِعْني رِدَائي عَبْدُ عَمْرو ** رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرُو بن بَكْرِ

لِي الشَّطرُ الَّذِي مَلَكت يَمِيني ** وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرٍ

استعار الرداء لسيفه ثم قال فاعتجر نظراً إلى المستعار. {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} بصنيعهم.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون} أي حال التباسهم بالظلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد، أو وقعة بدر.

.تفسير الآيات (114- 120):

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَلاً طَيّباً} أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم، صداً لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. {واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تطيعون، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لما أمرهم بتناول ما أحل لهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم، ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ} كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} الآية، ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل: كالسباع والحمر الأهلية، وانتصاب {الكذب} ب {لاَ تَقُولُواْ} و{هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام، أو مفعول {لاَ تَقُولُواْ}، و{الكذب} منتصب ب {تَصِفُ} وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي: لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل، ووصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتكم تصفها وتعرفها بكلامهم هذا، ولذلك عد من تصحيح الكلام كقولهم: وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر. وقرئ: {الكذب} بالجر بدلاً من (ما)، و{الكذب} جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو بمعنى الكلم الكواذب. {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} تعليل لا يتضمن الغرض. {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} لما كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب نفي عنهم الفلاح وبينه بقوله: {متاع قَلِيلٌ} أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
{وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي في سورة (الأنعام) في قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} {مِن قَبْلُ} متعلق ب {قَصَصْنَا} أو ب {حَرَّمْنَا}. {وَمَا ظلمناهم} بالتحريم. {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} بسببها أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة، والسوء يعم الافتراء على الله وغيره.
{ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد التوبة. {لَغَفُورٌ} لذلك السوء. {رَّحِيمٌ} يثيب على الإنابة.
{إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله:
لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ** أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدٍ

وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله، أو لأنه كان وحده مؤمناً وكان سائر الناس كفاراً. وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته كقوله: {إِنّي جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} {قانتا لِلَّهِ} مطيعاً له قائماً بأوامره. {حَنِيفاً} مائلاً عن الباطل. {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} كما زعموا فإن قريشاً كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم.