فصل: تفسير الآية رقم (117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (116):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} كرره للتأكيد، أو لقصة طعمة. وقيل جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني شيخ منهك في الذنوب ألا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً، وإني لنادم تائب فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى. فنزلت {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى.

.تفسير الآية رقم (117):

{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)}
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا} يعني اللات والعزى ومناة ونحوها، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال:
وَمَا ذَكَرٌ فَإِنْ يَسْمَنْ فَأُنْثَى ** شَدِيد الأزمِ لَيْسَ لَهُ ضُرُوسٌ

فَإِنه عنى القراد وهو ما كان صغيراً سمي قراداً فإذا كبر سمي حلمة، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإِناث لا نفعاً لها، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً لأنه ينفعل ولا يفعل، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم. وقيل المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى، وهو جمع أنثى كرباب وربى، وقرئ: {أنثى} على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث، ووثنا بالتخفيف ووثناً بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة. {وَإِن يَدْعُونَ} وإن يعبدون بعبادتها. {إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها، فكأن طاعته في ذلك عبادة له، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير. وأصل التركيب للملابسة. ومنه {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها.

.تفسير الآية رقم (118):

{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)}
{لَّعَنَهُ الله} صفة ثانية للشيطان. {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} عطف عليه أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله، وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس.
وقد برهن سبحانه وتعالى أولاً على أن الشرك ضلال في الغاية على سبيل التعليل، بأن ما يشركون به ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة، فإن الإله ينبغي أن يكون فاعلاً غير منفعل، ثم استدل عليه بأنه عبادة الشيطان وهي أفظع الضلال لثلاثة أوجه. الأول: أنه مريد منهمك في الضلال لا يعلق بشيء من الخير والهدى، فتكون طاعته ضلالاً بعيداً عن الهدى. والثاني: أنه ملعون لضلاله فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال واللعن. والثالث: أنه في غاية العداوة والسعي في إهلاكهم وموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلاً عن عبادته. والمفروض المقطوع أي نصيباً قدر لي وفرض من قولهم فرض له في العطاء.

.تفسير الآية رقم (119):

{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}
{وَلأُضِلَّنَّهُمْ} عن الحق. {وَلأُمَنّيَنَّهُمْ} الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب. {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام} يشقونها لتحريم ما أحل الله وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم ما أحل ونقص كل ما خلق كاملاً بالفعل أو القوة. {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} عن وجهه وصورته أو صفته. ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم، والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك وعبادة الشمس، والقمر، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإِسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقاً لكن الفقهاء خصوا في خصاء البهائم للحاجة. والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقاً أو أتاه فعلاً. {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله} بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمر الله به ومجاوزته عن طاعة الله سبحانه وتعالى إلى طاعته. {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} إذا ضيع رأس ماله وبدل مكانه من الجنة بمكان من النار.

.تفسير الآية رقم (120):

{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)}
{يَعِدُهُمْ} ما لا ينجزه. {وَيُمَنِّيهِمْ} ما لا ينالون. {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بالخواطر الفاسدة، أو بلسان أوليائه.

.تفسير الآية رقم (121):

{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}
{أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} معدلاً ومهرباً من حاص يحيص إذا عدل وعنها حال منه، وليس صلة له لأنه اسم مكان وإن جعل مصدراً فلا يعمل أيضاً فيما قبله.

.تفسير الآية رقم (122):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً}. أي وعده وعداً وحق ذلك حقاً، فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الإِسمية التي قبله وعد، والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينصب الموصول بفعل يفسره ما بعده، ووعد الله بقوله: {سَنُدْخِلُهُمْ} لأنه بمعنى نعدهم إدخالهم وحقاً على أنه حال من المصدر. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} جملة مؤكدة بليغة، والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغة في توكيده ترغيباً للعباد في تحصيله.

.تفسير الآية رقم (123):

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}
{لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الكتاب} أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون، ولا بأماني أهل الكتاب، وإنما ينال بالإِيمان والعمل الصالح. وقيل: ليس الإِيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. روي أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولي بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة فنزلت. وقيل: الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي: ليس الأمر بأماني المشركين، وهو قولهم لا جنة ولا نار، وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً، ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} ثم قرر ذلك وقال: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أو آجلاً لما روي أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: «أما تحزن أما تمرض أما يصيبك الأراء؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك» {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه.

.تفسير الآية رقم (124):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} بعضها أو شيئاً منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها. {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحال من المستكن في يعمل، و{مِنْ} للبيان أو من الصالحات أي كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور وتنبيهاً على أنه لا اعتداد به دونه فيه. {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} بنقص شيء من الثواب وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالحري أن لا يزاد عقاب العاصي، لأن المجازي أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر {يَدْخُلُونَ الجنة} هنا وفي (غافر) و(مريم) بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.

.تفسير الآية رقم (125):

{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} أخلص نفسه لله لا يعرف لها رباً سواه. وقيل بذل وجهه له في السجود وفي هذا الاستفهام تنبيه على أن ذلك منتهى ما تبلغه القوة البشرية. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} آت بالحسنات تارك للسيئات. {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} الموافقة لدين الإِسلام المتفق على صحتها {حَنِيفاً} مائلاً عن سائر الأديان، وهو حال من المتبع أو من الملة أو إبراهيم. {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيماً لشأنه وتنصيصاً على أنه الممدوح. والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها. وقيل من الخلل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلل الآخر، أو من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يترافقان في الطريقة، أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال. والجملة استئناف جيء بها للترغيب في اتباع ملته صلى الله عليه وسلم والإِيذان بأنه نهاية في الحسن وغاية كمال البشر. روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله: لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت، ولكن يريد للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس فلما أخبروا إبراهيم ساءه الخبر، فغلبته عيناه فنام وقامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت حوارى واختبزت، فاستيقظ إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز فقال: من أين لكم هذا؟ فقالت: من خليلك المصري، فقال: بل هو من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله خليلاً.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} خلقاً وملكاً يختار منهما من يشاء وما يشاء. وقيل هو متصل بذكر العمال مقرر لوجوب طاعته على أهل السموات والأرض، وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال. {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} إحاطة علم وقدرة فكان عالماً بأعمالهم فيجازيهم على خيرها وشرها.

.تفسير الآيات (127- 133):

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء} في ميراثهن إذ سبب نزوله أن عيينة بن حصن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرنا أنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال عليه الصلاة والسلام: «كذلك أمرت» {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} يبين لكم حكمه فيهن والافتاء تبيين المبهم. {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} عطف على اسم الله تعالى، أو ضميره المستكن في يفتيكم وساغ للفصل فيكون الإِفتاء مسنداً إلى الله سبحانه وتعالى وإلى ما في القرآن من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله} ونحوه، والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين مختلفين باعتبارين مختلفين، ونظيره أغناني زيد وعطاؤه، أو استئناف معترض لتعظيم المتلو عليهم على أن ما يتلى عليكم مبتدأ وفي الكتاب خبره. والمراد به اللوح المحفوظ، ويجوز أن ينصب على معنى ويبين لكم ما يملي عليكم أو يخفض على القسم كأنه قيل: وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، ولا يجوز عطفه على المجرور في فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى {فِي يتامى النساء} صلة يتلى إن عطف الموصول على ما قبله أي يتلى عليكم في شأنهن وإلا فبدل من فيهن، أو صلة أخرى ليفتيكم على معنى الله يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كما تقول: كلمتك اليوم في زيد، وهذه الإِضافة بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه. وقرئ: {ييامى} بياءين على أنه أيامى فقلبت همزته ياء. {اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي فرض لهن من الميراث. {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} في أن تنكحوهن أو عن أن تنكحوهن، فإن أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن، وإلا كانوا يعضلونهن طمعاً في ميراثهن والواو تحتمل الحال والعطف، وليس فيه دليل على جواز تزويج اليتيمة إذ لا يلزم من الرغبة في نكاحها جريان العقد في صغرها. {والمستضعفين مِنَ الولدان} عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء. {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} أيضاً عطف عليه أي ويفتيكم أو ما يتلى في أن تقوموا، هذا إذا جعلت في يتامى صلة لأحدهما فإن جعلته بدلاً فالوجه نصبهما عطفاً على موضع فيهن، ويجوز أن ينصب وأن تقوموا بإضمار فعل أي: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم، أو للقوام بالنصفة في شأنهم. {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} وعد لمن آثر الخير في ذلك.
{وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا} توقعت منه لما ظهر لها من المخايل، وامرأة فاعل فعل يفسره الظاهر. {نُشُوزاً} تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها كراهة لها ومنعاً لحقوقها.
{أَوْ إِعْرَاضاً} بأن يقل مجالستها ومحادثتها. {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} أن يتصالحا بأن تحط له بعض المهر، أو القسم، أو تهب له شيئاً تستميله به. وقرأ الكوفيون {أَن يُصْلِحَا} من أصلح بين المتنازعين، وعلى هذا جاز أن ينتصب صالحاً على المفعول به، وبينهما ظرف أو حال منه أو على المصدر كما في القراءة الأولى والمفعول بينهما أو هو محذوف. وقرئ: {يُصْلِحَا} من أصلح بمعنى اصطلح. {والصلح خَيْرٌ} من الفرقة أو سوء العشرة أو من الخصومة. ولا يجوز أن يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من الشرور، وهو اعتراض وكذا قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} ولذلك اغتفر عدم مجانستهما، والأول للترغيب في المصالحة، والثاني لتمهيد العذر في المماكسة. ومعنى إحضار الأنفس الشح جعلها حاضرة له مطبوعة عليه، فلا تكاد المرأة تسمح بالإِعراض عنها والتقصير في حقها ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها. {وَإِن تُحْسِنُواْ} في العشرة. {وَتَتَّقُواْ} النشوز والإِعراض ونقص الحق. {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإِحسان والخصومة. {خَبِيراً} عليماً به وبالغرض فيه فيجازيكم عليه، أقام كونه عالماً بأعمالهم مقام إثابته إياهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة للسبب مقام المسبب.
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} لأن العدل أن لا يقع ميل ألبتة وهو متعذر فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: «هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي على تحري ذلك وبالغتم فيه. {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} بترك المستطاع والجور على المرغوب عنها، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله. {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} التي ليست ذات بعل ولا مطلقة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل». {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما كنتم تفسدون من أمورهن. {وَتَتَّقُواْ} فيم يستقبل من الزمان. {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} يغفر لكم ما مضى من ميلكم.
{وَإِن يَتَفَرَّقَا} وقرئ وإن يفارق كل منهما صاحبه. {يُغْنِ الله كُلاًّ} منهما عن الآخر ببدل أو سلوة. {مِّن سَعَتِهِ} غناه وقدرته. {وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً} مقتدراً متقناً في أفعاله وأحكامه.
{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} تنبيه على كمال سعته وقدرته. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يعني اليهود والنصارى، ومن قبلهم، و{الكتاب} للجنس و{مِنْ} متعلقة ب {وَصَّيْنَا} أو ب {أُوتُواْ} ومساق الآية لتأكيد الأمر بالإِخلاص.
{وإياكم} عطف على الذين. {أَنِ اتقوا الله} بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معنى القول. {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} على إرادة القول أي: وقلنا لهم ولكم أن تكفروا فإن الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم، وإنما وصاكم لرحمته لا لحاجته ثم قرر ذلك بقوله: {وَكَانَ الله غَنِيّاً} عن الخلق وعبادتهم. {حَمِيداً} في ذاته حمد وإن لم يحمد.
{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ذكره ثالثاً للدلالة على كونه غنياً حميداً، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميداً. {وكفى بالله وَكِيلاً} راجع إلى قوله: {يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ}، فإنَّه توكل بكفايتهما وما بينهما تقرير لذلك.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} يفنكم، ومفعول يشأ محذوف دل عليه الجواب. {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} ويوجد قوماً آخرين أو خلقاً آخرين مكان الإِنس. {وَكَانَ الله على ذلك} من الإِعدام والإِيجاد. {قَدِيراً} بليغ القدرة لا يعجزه مراد، وهذا أيضاً تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر به وخالف أمره. وقيل: هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب ومعناه معنى قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} لما روي: «أنه لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا».