فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (200):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
{يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اصبروا} على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد. {وَصَابِرُواْ} وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقاً لشدته. {وَرَابِطُواْ} أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو، وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه الصلاة والسلام: «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة». {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة، المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة، والطريقة، والحقيقة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس» والله أعلم.

.سورة النساء:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
{أَيُّهَا الناس} خطاب يعم بني آدم. {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} هي آدم. {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} بيان لكيفية تولدهم منهما، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر، وذكر {كَثِيراً} حملاً على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها. وقرئ: {وخالق} {وباث} على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث. {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ} أي يسأل بعضكم بعضاً تقول أسألك بالله، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها. {والأرحام} بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيد وعمراً، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك، أي مما يتقى أو يتساءل به. وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه. وعنه عليه الصلاة والسلام: «الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} حافظاً مطلعاً.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}
{وَءَاتُواْ اليتامى أموالهم} أي إذا بلغوا، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه، من اليتم وهو الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات. ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى وأسارى، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ. ووروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر، حثاً على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد، ولذلك أمر بابتلائهم صغاراً أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال؛ وآتوهم إذا بلغوا. ويؤيد الأول ما روي: أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير. {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها. وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها، وهذا تبديل وليس بتبدل. {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، أي لا تنفقوهما معاً ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى: {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} {إِنَّهُ} الضمير للأكل. {كَانَ حُوباً كَبِيراً} ذنباً عظيماً. وقرئ حوباً وهو مصدر حاب {حُوباً} وحابا كقال قولاً وقالاً.

.تفسير الآية رقم (3):

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} أي إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن، فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن. إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوجها ضناً بها، فربما يجتمع عنده منهن عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهن. أو إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضاً أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقداراً يمكنكم الوفاء بحقه، لأن المتحرج من الذنب ينبغي أن يتحرج من الذنوب كلها على ما روي: أنه تعالى لما عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولايتهم وما كانوا يتحرجون من تكثير النساء وإضاعتهن فنزلت. وقيل: كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى، فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنى، فانكحوا ما حل لكم. وإنما عبر عنهن بما ذهاباً إلى الصفة أو إجراء لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن، ونظيره {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} وقرئ: {تُقْسِطُواْ} بفتح التاء على أن {لا} مزيدة أي إن خفتم إن تجوروا. {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} معدولة عن أعداد مكررة وهي: ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن كانت أصولها لم تبن لها. وقيل لتكرير العدل فإنها معدولة باعتبار الصفة والتكرير منصوبة على الحال من فاعل طاب ومعناها: الإِذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين كقولك: اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بين هذه الأعداد أيضاً. {فواحدة} فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع. وقرئ بالرفع على أنه فاعل محذوف أو خبره تقديره فتكفيكم واحدة، أو فالمقنع واحدة. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} سوى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم بينهن {ذلك} أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري. {أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أقرب من أن لا تميلوا، يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار، وعول الفريضة الميل عن حد السهام المسماة. وفسر بأن لا تكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم، فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية. ويؤيده قراءة {أن لا تعيلوا} من أعال الرجل إذا كثر عياله، ولعل المراد بالعيال الأزواج وإن أريد الأولاد فلأن التسري مظنة قلة الولد بالإِضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالإِضافة إلى تزوج الأربع.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
{وَءَاتُواْ النساء صدقاتهن} مهورهن. وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف، وبضم الصاد وسكون الدال، جمع صدقة كغرفة، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة. {نِحْلَةً} أي عطية يقال نحله كذا نحلة ونحلاً إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض، ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة. وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلاً منه عليهن فتكون حالاً من الصدقات. وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له، أو حال من الصدقات أي ديناً من الله تعالى شرعه، والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً} للصداق حملاً على المعنى أو جرى مجرى اسم الإِشارة كقول رؤبة:
كَأَنَّه في الجلْد تَوْلِيْعُ البُهَق

إذ سئل فقال: أردت كأن ذاك. وقيل للإِيتاء، ونفساً تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق عن طيب نفس، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز، وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} فخذوه وأنفقوه حلالاً بلا تبعة. والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالاً من الضمير. وقيل الهنيء ما يلذه الإِنسان، والمريء ما تحمد عاقبته. روي: أن ناساً كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئاً مما ساق إليها. فنزلت.

.تفسير الآيات (5- 11):

{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}
{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} نهي للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم، وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة. وقيل نهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطى امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم. وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقولهم واستهجاناً لجعلهم قواماً على أنفسهم وهو أوفق لقوله: {التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي تقومون بها وتنتعشون، وعلى الأول يؤول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً سمي ما به القيام قياماً للمبالغة. وقرأ نافع وابن عامر {قيماً} بمعناه كعوذ بمعنى عياذ. وقرئ: {قواماً} وهو ما يقام به. {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه. {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} عدة جميلة تطيب بها نفوسهم، والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل بالحسن، والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه.
{وابتلوا اليتامى} اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف، بأن يكل إليه مقدمات العقد. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه. {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمس عشرة سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة، كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود» وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ، لأنه يصلح للنكاح عنده. {فَإِن آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} فإن أبصرتم منهم رشداً. وقرئ أحستم بمعنى أحسستم. {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} من غير تأخير عن حد البلوغ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذاً المتضمنة معنى الشرط، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل؛ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد. {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإِسرافكم ومبادرتكم كبرهم. {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} من أكلها. {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدر حاجته وأجرة سعيه، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي، وعنه عليه الصلاة والسلام: «أن رجلاً قال له إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: كل بالمعروف غير متأثل مالاً ولا واق مالك بماله».
وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى. {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبنية وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك خلافاً لأبي حنيفة. {وكفى بالله حَسِيباً} محاسباً فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم.
{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} يريد بهم المتوارثين بالقرابة. {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدل مما ترك بإعادة العامل. {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} نصب على أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} أو حال إذ المعنى: ثبت لهم مفروضاً نصيب، أو على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً مقطوعاً واجباً لهم، وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه. روي: «أن أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت فبعث إليهما: لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت {يُوصِيكُمُ الله} فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابن العم» وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقف الخطاب.
{وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} ممن لا يرث {واليتامى والمساكين فارزقوهم مّنْهُ} فاعطوهم شيئاً من المقسوم تطييباً لقلوبهم. وتصدقاً عليهم، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة. وقيل أمر وجوب، ثم اختلف في نسخه والضمير لما ترك أو ما دل عليه القسمة {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم.
{وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، أو للحاضرين المريض عند الإِيصاء بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرَّ بهم بصرف المال عنهم، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم هل يجوزون حرمانهم، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه، جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم الضياع، وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه، وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديد للمخالف بحال أولاده.
{فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى، إذ لا ينفع الأول دون الثاني، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب، أو للمريض ما يصده عن الإِسراف في الوصية وتضييع الورثة، ويذكره التوبة وكلمة الشهادة، أو لحاضري القسمة عذراً جميلاً ووعداً حسناً، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة.
{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} ظالمين، أو على وجه الظلم. {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ} ملء بطونهم. {نَارًا} ما يجر إلى النار، ويؤول إليها. وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الله قوماً من قبورهم تتأجج أفواههم ناراً» فقيل: من هم؟ فقال: «ألم تر أن الله يقول: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} سيدخلون ناراً وأي نار». وقرأ ابن عامر وابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففاً. وقرئ به مشدداً يقال صلى النار قاسى حرها، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها.
و{يُوصِيكُمُ الله} يأمركم ويعهد إليكم. {فِي أولادكم} في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله. {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به. {فَإِن كُنَّ نِسَاء} أي إن كان الأولاد نساء خلصاً ليس معهن ذكر، الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات. {فَوْقَ اثنتين} خبر ثان، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين. {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} المتوفى منكم، ويدلَ عليه المعنى. {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} أي وإن كانت المولودة واحدة. وقرأ نافع بالرفع على كان التامة، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما. وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان. ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها.
وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى: {فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ}. {وَلأَبَوَيْهِ} ولأبوي الميت. {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس، والتفصيل بعد الإِجمال تأكيداً. {السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ} أي للميت. {وَلَد} ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة، وما بقي من ذوي الفروض أيضاً بالعصوبة. {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فحسب. {فَلأُمّهِ الثلث} مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب، وكأنه قال: فلهما ما ترك أثلاثاً، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب وهو خلاف وضع الشرع. {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس} بإطلاقهِ يدل على أن الإِخوة يردونها من الثلث إلى السدس، وإن كانوا لا يرثون مع الأب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم، والجمهور على أن المراد بالإِخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإِخوة أو الأخوات، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذاً بالظاهر. وقرأ حمزة والكسائي {فَلأُمِّهِ} بكسر الهمزة اتباعاً للكسرة التي قبلها. {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية. أو دين، وإنما قال بأو التي للإِباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد. {آبَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً} أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه. روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته. أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته، أو من لم يوص فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية. {فَرِيضَةً مّنَ الله} مصدر مؤكد، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم. {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بالمصالح والرتب. {حَكِيماً} فيما قضى وقدر.