فصل: تفسير الآية رقم (48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (41):

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}
{والذين هاجروا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم، وقوله. {فِي الله} أي في حقه ولوجهه. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةًً} مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة. {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ} مما يعجل لهم في الدنيا. وعن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل. {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.

.تفسير الآية رقم (42):

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}
{الذين صَبَرُواْ} على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الوطن، ومحله النصب أو الرفع على المدح. {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} منقطعين إلى الله مفوضين إليه الأمر كله.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ} رد لقول قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، أي جرت السنة الإِلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشراً يوحي إليه على ألسنة الملائكة، والحكمة في ذلك وقد ذكرت في سورة (الأنعام) فإن شككتم فيه. {فاسألوا أَهْلَ الذكر} أهل الكتاب أو علماء الأخبار ليعلموكم. {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكاً للدعوة العامة وقوله: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} معناه رسلاً إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. ورد بما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل صلوات الله عليه على صورته التي هو عليها مرتين». وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.

.تفسير الآية رقم (44):

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}
{بالبينات والزبر} أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب، كأنه جواب: قائل قال: بم أرسلوا؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً في الاستثناء مع رجالاً أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، أو صفة لهم أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإِلزام. {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن وإنما سمي ذكراً لأنه موعظة وتنبيه. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه، أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس. ودليل العقل. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وإرادة أن يتأملوا فيه فيتنبهوا للحقائق.

.تفسير الآية رقم (45):

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)}
{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} أي المكرات السيئات وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه عن الإِيمان. {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} كما خسف بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط.

.تفسير الآية رقم (46):

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)}
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم. {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}.

.تفسير الآية رقم (47):

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} على مخافة بأن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون، أو على أن ينقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأحوالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته. روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: ما تقولون فيها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:
تَخَوَّفَ الرَحْلُ مِنْهَا بَامكاً قَرَداً ** كَمَا تَخَوِّفَ عُود النَبْعَةِ السُّفُنُ

فقال عمر عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة.

.تفسير الآية رقم (48):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه، وما موصولة مبهمة بيانها. {يَتَفَيَّؤُا ظلاله} أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة. وقرأ حمزة والكسائي {تَروْا} بالتاء وأبو عمرو {تتفيؤ} بالتاء. {عَنِ اليمين والشمآئل} عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها، استعارة من يمين الإِنسان وشماله، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} وهما حالان من الضمير في ظلاله، والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال {وَهُمْ داخرون} حال من الضمير. والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضاً داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها، وجمع {داخرون} بالواو لأن من جملتها من يعقل، أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء. وقيل المراد ب {اليمين والشمآئل} يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع وشماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض، فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض، وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)}
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي ينقاد انقياداً يعم الانقياد لإرادته وتأثيره طبعاً والانقياد لتكليفه وأمره طوعاً ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض وقوله: {مِن دَابَّةٍ} بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كانت في أرض أو سماء. {والملائكة} عطف على المبين به عطف جبريل على الملائكة للتعظيم، أو عطف المجردات على الجسمانيات، وبه احتج من قال إن الملائكة أرواح مجردة أو بيان لما في الأرض والملائكة تكرير لما في السموات وتعيين له إجلالاً وتعظيماً، أو المراد بها ملائكتها من الحفظة وغيرهم، وما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليباً للعقلاء. {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته.

.تفسير الآية رقم (50):

{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
{يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} يخافونه أن يرسل عذاباً من فوقهم، أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} والجملة حال من الضمير في {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}، أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} من الطاعة والتدبير، وفيه دليل على أَنَّ الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}
{وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه، أو إيماءِ بأن الاثنينية تنافي الألوهية كما ذكر الواحد في قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإِلهية، أو للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإِلهية. {فإياي فارهبون} نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحاً بالمقصود فكأنه قال: فأنا ذلك الإِله الواحد فإياي فارهبون لا غير.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}
{وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض} خلقاً وملكاً. {وَلَهُ الدين} أي الطاعة. {وَاصِبًا} لازماً لما تقرر من أنه الإله وحده والحقيق بأن يرهب منه. وقيل: {وَاصِبًا} من الوصب أي وله الدين ذا كلفة. وقيل الدين الجزاء أي وله الجزاء دائماً لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر. {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} ولا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال تعالى.

.تفسير الآيات (53- 66):

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}
{وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله، {وَمَا} شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإِخبار دون الحصول، فإن استقرار النعمة بهم يكون سبباً للإِخبار بأنها من الله لا لحصولها منه. {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم} وهم كفاركم. {بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} بعبادة غيره، هذا إذا كان الخطاب عاماً، فإن كان خاصاً بالمشركين كان من للبيان كأنه قال: إذا فريق وهم أنتم، ويجوز أن تكون من للتبعيض على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة، أو إنكار كونها من الله تعالى. {فَتَمَتَّعُواْ} أمر تهديد. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أغلظ وعيده، وقرئ: {فيمتعوا} مبنياً للمفعول عطفاً على {لِيَكْفُرُواْ}، وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد والفاء للجواب.
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير {لِمَا}، أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف، أو لجهلهم على أن ما مصدرية والمجعول له محذوف للعلم به. {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الزروع والأنعام. {تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من أنها آلهة حقيقة بالتقرب إليها وهو وعيد لهم عليه.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله. {سبحانه} تنزيه له من قولهم، أو تعجب منه. {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يعني البنين، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} أخبر بولادتها. {ظَلَّ وَجْهُهُ} صار أو دام النهار كله. {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياء من الناس. واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير. {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء غيظاً من المرأة.
{يتوارى مِنَ القوم} يستخفى منهم. {مِن سُوء مَا بُشِّرَ بِهِ}. من سوء المبشر به عرفاً. {أَيُمْسِكُهُ} محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه. {على هُونٍ} ذل {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} أي يخفيه فيه ويئده، وتذكير الضمير للفظ {مَا} وقرئ بالتأنيث فيهما. {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم.
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهاراً بهم وكراهة الإِناث ووأدهن خشية الإِملاق.
{وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقين. {وَهُوَ العزيز الحكيم} المنفرد بكمال القدرة والحكمة.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم. {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض، وإنما أضمرها من غير ذكر للدلالة الناس والدابة عليها. {مِن دَابَّةٍ} قط بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة. وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء. {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا. {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة، ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة، والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال. {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} مع ذلك وهو. {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي عند الله كقوله: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} وقرئ: {الكذب} جمع كذوب صفة للألسنة. {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} رد لكلامهم وإثبات لضده. {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإِفراط في المعاصي. وقرئ بالتشديد مفتوحاً من فرطته في طلب الماء ومكسوراً من التفريط في الطاعات.
{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ} فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} أي في الدنيا، وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين كان يزين لهم، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، ويجوز أن يكون الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم ويغويهم، وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم، والولي القرين أو الناصر فيكون نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في القيامة.
{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} للناس. {الذي اختلفوا فِيهِ} من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال. {وَهُدَىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين.
{والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر وإنصاف.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم. {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ} استئناف لبيان العبرة، وإنما ذكر الضمير ووحده هاهنا للفظ وأنثه في سورة (المؤمنين) للمعنى، فإن {الأنعام} اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى، فإن المراد به الجنس.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب {نُّسْقِيكُمْ} بالفتح هنا وفي (المؤمنين). {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفارة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقي ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضماً ثانياً فيحدث أخلاطاً أربعة معها مائية، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولاً إلى الرحم لأجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبناً، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته، و{مِنْ} الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك: سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإِسقاء وهي متعلقة ب {نُّسْقِيكُمْ} أو حال من {لَّبَنًا} قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة. {خَالِصًا} صافياً لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في حلقهم، وقرئ: {سِّيغاً} بالتشديد والتخفيف.