فصل: سورة الزمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (61- 70):

{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}
{قَالُواْ} أي الأتباع أيضاً. {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً في النار} مضاعفاً أي ذا ضعف وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين كقوله: {رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} {وَقَالُواْ} أي الطاغوت. {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار} يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلون ويسخرون بهم.
{أتخذناهم سُخْرِيّاً} صفة أخرى ل {رِجَالاً}، وقرأ الحجازيان وابن عامر وعاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي {سُخْرِيّاً} بالضم وقد سبق مثله في (المؤمنين). {أَمْ زَاغَتْ} مالت. {عَنْهُمُ الأبصار} فلا نراهم {أَمْ} معادلة ل {مَا لَنَا لاَ نرى} على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا: أليسوا هاهنا أم زاغت عنهم أبصارنا، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم، أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم.
{إِنَّ ذلك} الذي حكيناه عنهم. {لَحَقُّ} لابد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} وهو بدل من لحق أو خبر محذوف، وقرئ بالنصب على البدل من ذلك.
{قُلْ} يا محمد للمشركين. {إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ} أنذركم عذاب الله. {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد} الذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته. {القهار} لكل شيء يريد قهره.
{رَبّ ُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} منه خلقها وإليه أمرها. {العزيز} الذي لا يغلب إذا عاقب. {الغفار} الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء، وفي هذه الأوصاف تقرير للتوحيد ووعد ووعيد للموحدين والمشركين، وتثنية ما يشعر بالوعيد وتقديمه لأن المدعو به هو الإِنذار.
{قُلْ هُوَ} أي ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذه صفته وأنه واحد في ألوهيته، وقيل ما بعده من نبأ آدم. {نَبَأٌ عَظِيمٌ}.
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة، أما على التوحيد فما مرَّ وأما على النبوة فقوله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فإن إخباره عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصوّر إلا بالوحي، و{إِذْ} متعلق ب {عِلْمٍ} أو بمحذوف إذ التقرير من علم بكلام الملأ الأعلى.
{إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقاً لقوله: {إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ} ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه، وقرئ: {إِنَّمَا} بالكسر على الحكاية.

.تفسير الآيات (71- 88):

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ} بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم عليه السلام، واستحقاقه للخلافة والسجود على ما مر في (البقرة)، غير أنها اختصرت اكتفاء بذلك واقتصاراً على ما هو المقصود منها، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي عليه الصلاة والسلام بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه السلام، هذا ومن الجائز أن يكون مقاولة الله تعالى إياهم بواسطة ملك، وأن يفسر {الملأ الأعلى} بما يعم الله تعالى والملائكة.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} عدلت خلقته. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وأحييته بنفخ الروح فيه، وإضافته الى نفسه لشرفه وطهارته. {فَقَعُواْ لَهُ} فخروا له. {ساجدين} تكرمة وتبجيلاً له وقد مر من الكلام فيه في (البقرة).
{فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}.
{إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر} تعظم. {وَكَانَ} وصار. {مِنَ الكافرين} باستنكاره أمر الله تعالى واستكباره عن المطاوعة، أو كان منهم في علم الله تعالى.
{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم، والثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل، وقرئ على التوحيد وترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم، أو بأنه الذي تشبث به في تركه وهو لا يصلح مانعاً إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص. {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا واستحق التفوق، وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، وقرئ: {اسْتَكْبَرْتَ} بحذف الهمزة لدلالة {أَمْ} عليها أو بمعنى الإخبار.
{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} إبداء للمانع وقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} دليل عليه وقد سبق الكلام فيه.
{قَالَ فاخرج مِنْهَا} من الجنة أو من السماء، أو من الصورة الملكية. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} مر بيانه في (الحجر).
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} فبسلطانك وقهرك. {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} الذين أخلصهم الله لطاعته وعصمهم من الضلالة، أو أخلصوا قلوبهم لله على اختلاف القراءتين.
{قَالَ فالحق والحق أَقُولُ} أي فأحق الحق وأقوله، وقيل: {الحق} الأول اسم الله نصبه بحذف حرف القسم كقوله:
إِنَّ عَلَيْكَ الله أَنْ تُبَايِعَا

وجوابه {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وما بينهما اعتراض وهو على الأول جواب محذوف والجملة تفسير لـ {الحق} المقول، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي، أو الخبر أي أنا {الحق}، وقرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله: كله لم أصنع.
ومجرورين على إضمار حرف القسم في الأول وحكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد، وهو سائغ فيه إذا شارك الأول وبرفع الأول وجره ونصب الثاني وتخريجه على ما ذكرناه، والضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم والمراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين، وقيل للثقلين وأجمعين تأكيد له أو للضميرين.
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي على القرآن أو تبليغ الوحي. {وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين} المتصفين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي فأنتحل النبوة، وأتقول القرآن.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} عظة. {للعالمين} للثقلين. {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} وهو ما فيه من الوعد والوعيد، أو صدقه بإتيان ذلك. {بَعْدَ حِينِ} بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإِسلام وفيه تهديد.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (ص) كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات، وعصمه الله أن يصر على ذنب صغير أو كبير».

.سورة الزمر:

مكية إلا قوله: قل يا عبادي الآية وآيها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية.

.تفسير الآيات (1- 8):

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}
{تَنزِيلُ الكتاب} خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره. {مِنَ الله العزيز الحكيم} وهو على الأول صلة ل {تَنزِيلَ}، أو خبر ثان أو حال عمل فيها الإِشارة أو ال {تَنزِيلَ}، والظاهر أن {الكتاب} على الأول السورة وعلى الثاني القرآن، وقرئ: {تَنزِيلَ} بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} ملتبساً بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله. {فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} ممحصاً له الدين من الشرك والرياء، وقرئ برفع {الدين} عن الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكداً وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم، وهو مبتدأ خبره على الأول. {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} بإضمار القول. {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وهو متعين على الثاني، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالاً أو بدلاً من الصلة و{زلفى} مصدر أو حال، وقرئ: {قالوا ما نعبدهم} و{ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله} حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و{نَعْبُدُهُمْ} بضم النون اتباعاً. {فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى} لا يوفق للاهتداء إلى الحق. {مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ} فإنهما فاقدا البصيرة.
{لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} كما زعموا. {لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء} إذ لا موجود سواه إلا هو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله: {سبحانه هُوَ الله الواحد القهار} فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للواحدة الذاتية، وهي تنافي المماثلة فضلاً عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة، والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد، ثم استدل على ذلك بقوله: {خَلَقَ السموات والأرض بالحق يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل} يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة، أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة.
{وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} هو منتهى دوره أو منقطع حركته. {إِلاَّ هُوَ العزيز} القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء. {الغفار} حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.
{خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوء به من خلق الإِنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات: خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما. و{ثُمَّ} للعطف على محذوف هو صفة {نَفْسٌ} مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها، أو على {خَلَقَكُمْ} لتفاوت ما بين الآيتين، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية. وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء. {وَأَنزَلَ لَكُمْ} وقضى أو قسم لكم، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار. {مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} ذكر وأنثى من الإِبل والبقر والضأن والمعز. {يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أمهاتكم} بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون. {خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ} حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف. {فِى ظلمات ثلاث} ظلمة البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن. {ذلكم} الذي هذه أفعاله. {الله رَبُّكُمُ} هو المستحق لعبادتكم والمالك. {لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا يشاركه في الخلق غيره. {فأنى تُصْرَفُونَ} يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.
{إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ} عن إِيمانكم. {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} لاستضرارهم به رحمة عليهم. {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} لأنه سبب فلا حكم، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمحاسبة والمجازاة. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه.
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أعطاه من الخول وهو التعهد، أو الخول وهو الافتخار. {نِعْمَةً مّنْهُ} من الله. {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ربه الذي كان يتضرع إليه و{مَا}؛ مثل الذي في قوله: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} {مِن قَبْلُ} من قبل النعمة. {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، والضلال والإِضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين. {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله: {إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} على سبيل الاستئناف للمبالغة.