فصل: تفسير الآيات (9- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (9- 12):

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع. {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى. {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} تعدت عليها. {فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله} ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين. {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصل ما بينهما على ما حكم الله، وتقييد الإِصلاح بالعدل هاهنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة. {وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا في كل الأمور. {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} يحمد فعلهم بحسن الجزاء. والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة.
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإِيمان الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإِصلاح ولذلك كرره مرتباً عليه بالفاء فقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج. وقرئ: {بين إخوتكم} و{إخوانكم}. {واتقوا الله} في مخالفة حكمه والإِهمال فيه. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} على تقواكم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مّن نّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ} أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و{عَسَى} باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإِغناء الاسم عنه. وقرئ: {عسوا أن يكونا} و{عسين أن يكن} فهي على هذا ذات خبر. {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أي ولا يغتب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. واللمز الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضم. {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفاً.
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإِيمان واشتهارهم به، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق وإلى المؤمنين خصوصاً إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام» أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح. {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى عنه. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن} كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يحالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية. {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس. وفي الحديث: «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته» {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته. وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان وجعل المأكول أخاً وميتاً وتعقيب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} تقريراً وتحقيقاً لذلك. والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، وانتصاب {مَيْتًا} على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع. {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، والمبالغة في ال {تَوَّابٌ} لأنه بليغ في قبول التوبة إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم، روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً، وكان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما»، فقالا: ما تناولنا لحماً، فقال: «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.

.تفسير الآيات (13- 18):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. ويجوز أن يكون تقريراً للأخوة المانعة عن الاغتياب. {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ} الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل. والقبيلة تجمع العمائر. والعمارة تجمع البطون. والبطن تجمع الأفخاذ. والفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيلة. وقبل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب. {لتعارفوا} ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر بالآباء والقبائل. وقرئ: {لتعارفوا} بالإِدغام و{لتتعارفوا} و{لتعرفوا}. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفاً فليلتمسه منها كما قال عليه الصلاة والسلام: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وقال عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله» {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ} ببواطنكم.
{قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا} نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون. {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} إذ الإِيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإِسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة. {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} فإن الإِسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا}، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإِيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً. {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} توقيت ل {قُولُواْ} فإنه حال من ضميره أي: {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بالإِخلاص وترك النفاق. {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم} لا ينقصكم من أجورها. {شَيْئاً} من لات يليت ليتا إذا نقص، وقرأ البصريان {لا يألتكم} من الألت وهو لغة غطفان. {إِنَّ الله غَفُورٌ} لما فرط من المطيعين. {رَّحِيمٌ} بالتفضل عليهم.
{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإِيمان عنهم، و{ثُمَّ} للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإِيمان ليس حال الإِيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله: {ثُمَّ استقاموا} {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها. {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} الذين صدقوا في إدعاء الإِيمان.
{قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أتخبرونه به بقولكم {آمنا}. {والله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاؤوا وخلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. وقيل النعمة الثقيلة من المن. {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال. {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، وقرئ: {إن هَداكُمْ} بالكسر و{إِذْ هَداكُمْ}. {إِن كُنتُمْ صادقين} في ادعاء الإِيمان، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيماناً ومنوا به فنفى أنه إيماٌن وسماه إسلاماً بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإِيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} ما غاب فيهما. {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، وقرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه».

.سورة ق:

مكية وهي خمس وأربعون آية.

.تفسير الآيات (1- 13):

{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)}
{ق والقرءان المجيد} الكلام فيه كما مر في {ص والقرءان ذِى الذكر} و{المجيد} ذو المجد والشرف على سائر الكتب، أو لأنه كلام المجيد، أو لأن من علم معانيه وامتثل أحكامه مجد.
{بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ} إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم أحد من جنسهم أو من أبناء جلدتهم. {فَقَالَ الكافرون هذا شَئ عَجِيبٌ} حكاية لتعجبهم، وهذا إشارة إلى اختيار الله محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة، وإضمار ذكرهم ثم إظهاره للاشعار بتعنتهم بهذا المقال، ثم التسجيل على كفرهم بذلك أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، والمبالغة فيه بوضع الظاهر موضع ضميرهم وحكاية تعجبهم مبهماً إن كانت الإِشارة إلى منهم يفسره ما بعده، أو مجملاً إن أهون مما يشاهدون من صنعه.
{أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} أي أنرجع إذا متنا وصرنا تراباً، ويدل على المحذوف قوله: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} أي بعيد عن الوهم أو العادة أو الإِمكان. وقيل الرجع بمعنى المرجوع.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} ما تأكل من أجساد موتاهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه، وقيل إنه جواب القسم واللام محذوف لطول الكلام. {وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، والمراد إما تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه، أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} يعني النبوة الثابتة بالمعجزات، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآن. {لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ} وقرئ: {لَّمّاً} بالكسر. {فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} مضطرب من مرج الخاتم في أصبعه إذا خرج، وذلك قولهم تارة أنه {شَاعِرٌ} وتارة أنه {ساحر} وتارة أنه كاهن.
{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} حين كفروا بالبعث. {إِلَى السماء فَوْقَهُمْ} إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم. {كَيْفَ بنيناها} رفعناها بلا عمد. {وزيناها} بالكواكب. {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} فتوق بأن خلقها ملساء متلاصقة الطباق.
{والأرض مددناها} بسطناها. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت. {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ} أي من كل صنف. {بَهِيجٍ} حسن.
{تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه، وهما علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبنا عن الفعل الأخير.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} كثير المنافع {فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات} أشجاراً وأثماراً. {وَحَبَّ الحصيد} وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبر والشعير.
{والنخل باسقات} طوالاً أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من أفعل فهو فاعل، وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها.
وقرئ لأجل القاف. {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.
{رّزْقاً لّلْعِبَادِ} علة ل {أَنبَتْنَا} أو مصدر، فإن الإِنبات رزق. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} بذلك الماء. {بَلْدَةً مَّيْتاً} أرضاً جدبة لا نماء فيها. {كذلك الخروج} كما حييت هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ} أراد بفرعون إياه وقومه ليلائم ما قبله وما بعده. {وإخوان لُوطٍ} أخدانه لأنهم كانوا أصهاره.