فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (8):

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
{عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد المرة الآخرة. {وَإِنْ عُدتُّمْ} نوبة أخرى. {عُدْنَا} مرة ثالثة إلى عقوبتكم وقد عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين هذا لهم في الدنيا. {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا} محبساً لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد. وقيل بساطاً كما يبسط الحصير.

.تفسير الآية رقم (9):

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}
{إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ} للحالة أو الطريقة التي هي أقوم الحالات أو الطرق. {وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} وقرأ حمزة والكسائي {وَيُبَشّرُ} بالتخفيف.

.تفسير الآية رقم (10):

{وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)}
{وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} عطف على {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}، والمعنى أنه يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم، أو على {يُبَشّرُ} بإضمار يخبر.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}
{وَيَدْعُ الإنسان بالشر} ويدعو الله تعالى عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، أو يدعوه بما يحسبه خيراً وهو شر. {دُعَاءهُ بالخير} مثل دعائه بالخير. {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته. وقيل المراد آدم عليه الصلاة والسلام فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط. روي: أنه عليه السلام دفع أسيراً إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت كتافه، فهرب فدعا عليها بقطع اليد ثم ندم فقال عليه السلام: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت. ويجوز أن يريد بالإِنسان الكافر وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء كقول النضر بن الحارث: اللهم انصر خير الحزبين، {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} الآية. فأجيب له فضرب عنقه صبراً يوم بدر.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)}
{وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ} تدلان على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد بإمكان غيره. {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل} أي الآية التي هي الليل، بالإِشراق والإِضافة فيهما للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود. {وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النهار مُبْصِرَةً} مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر، أو مبصراً أهله كقولهم: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء. وقيل الآيتان القمر والشمس، وتقدير الكلام وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين ومحو آية الليل التي هي القمر جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور، أو نقص نورها شيئاً فشيئاً إلى المحاق، وجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها. {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم. {وَلِتَعْلَمُواْ} باختلافهما أو بحركاتهما. {عَدَدَ السنين والحساب} وجنس الحساب. {وَكُلَّ شئ} تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا. {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بيناه بياناً غير ملتبس.
{وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ} عمله وما قدر له كأنه طير إليه من عش الغيب ووكر القدر، لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروحه، استعير لما هو سبب الخير والشر من قدر الله تعالى وعمل العبد. {فِى عُنُقِهِ} لزوم الطوق في عنقه. {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا} هي صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالاً ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات، ونصبه بأنه مفعول أو حال من مفعول محذوف، وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة يعقوب، و{يخرح} من خرج و{يخرج} وقرئ و{يخرج} أي الله عز وجل {يلقاه مَنْشُوراً} لكشف الغطاء، وهما صفتان للكتاب، أو {يلقاه} صفة و{مَنْشُوراً} حال من مفعوله. وقرأ ابن عامر{يلقاه} على البناء للمفعول من لقيته كذا.

.تفسير الآية رقم (14):

{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}
{اقرأ كتابك} على إرادة القول. {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي كفى نفسك، والباء مزيدة و{حَسِيباً} تمييز وعلى صلته لأنه إما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي فوضع موضع الشهيد، لأنه يكفي المدعي ما أهمه، وتذكيره على أن الحساب والشهادة مما يتولاه الرجال أو على تأويل النفس بالشخص.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لا ينجي اهتداؤه غيره ولا يردي ضلاله سواه. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ولا تحمل نفس حاملة وزراً وزر نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها. {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} يبين الحجج ويمهد الشرائع فيلزمهم الحجة، وفيه دليل على أن لا وجوب قبل الشرع.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق، أو دنا وقته المقدر كقولهم: إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة. {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} متنعميها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان، فيدل على الطاعة من طريق المقابلة، وقيل أمرناهم بالفسق لقوله: {فَفَسَقُواْ فِيهَا} كقولك أمرته فقرأ، فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالقراءة على أن الأمر مجاز من الحمل عليه، أو التسبب له بأن صب عليهم من النعم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق، ويحتمل أن لا يكون له مفعول منوي كقولهم: أمرته فعصاني. وقيل معناه كثرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته فأمر إذا كثرته، وفي الحديث: «خير المال سكة مأبورة، ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج. وهو أيضاً مجاز من معنى الطلب، ويؤيده قراءة يعقوب {آمرنا} ورواية {أَمْرُنَا} عن أبي عمرو، ويحتمل أن يكون منقولاً من أمر بالضم أمارة أي جعلناهم أمراء، وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور. {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} يعني كلمة العذاب السابقة بحلوله، أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم في المعاصي. {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم.

.تفسير الآية رقم (17):

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} وكثيراً أهلكنا. {مّنَ القرون} بيان لكم وتمييز له. {مِن بَعْدِ نُوحٍ} كعاد وثمود. {وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} يدرك بواطنها وظواهرها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه.

.تفسير الآية رقم (18):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}
{مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} مقصوراً عليها همه. {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإِرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واجد جميع ما يهواه وليعلم أن الأمر بالمشيئة والهم فضل. {وَلَمَنِ نُرِيدُ} بدل من له بدل البعض. وقرئ: {ما يشاء} والضمير فيه لله تعالى حتى يطابق المشهورة. وقيل: {لِمَنْ} فيكون مخصوصاً بمن أراد الله تعالى به ذلك. وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها. {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} مطروداً من رحمة الله تعالى.

.تفسير الآيات (19- 24):

{وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}
{وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا} حقها من السعي وهو الإِتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام اعتبار النية والإِخلاص. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إيماناً صحيحاً لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة. {فَأُوْلَئِكَ} الجامعون للشروط الثلاثة. {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} من الله تعالى أي مقبولاً عنده مثاباً عليه، فإن شكر الله الثواب على الطاعة.
{كُلاًّ} كل واحد من الفريقين، والتنوين بدل من المضاف إليه. {نُّمِدُّ} بالعطاء مرة بعد أخرى ونجعل آنفه مدداً لسالفه. {هَؤُلاء وَهَؤُلاء} بدل من {كُلاًّ}. {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} من معطاه متعلق ب {نُّمِدُّ}. {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا} ممنوعاً لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر تفضلاً.
{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} في الرزق، وانتصاب {كَيْفَ} ب {فَضَّلْنَا} على الحال. {وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي التفاوت في الآخرة أكبر، لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها.
{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته أو لكل أحد. {فَتَقْعُدَ} فتصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أو فتعجز من قولهم قعد عن الشيء إذا عجز عنه. {مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} جامعاً على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من الله تعالى، ومفهومه أن الموحد يكون ممدوحاً منصوراً.
{وقضى رَبُّكَ} وأمر أمراً مقطوعاً به. {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} بأن لا تعبدوا. {إِلاَّ إِيَّاهُ} لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإِنعام، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة. ويجوز أن تكون {ءانٍ} مفسرة و{لا} ناهية. {وبالوالدين إحسانا} وبأن تحسنوا، أو وأحسنوا بالوالدين إحساناً لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإِحسان لأن صلته لا تتقدم عليه. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} {أَمَّا} هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيداً ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل، وأحدهما فاعل {يَبْلُغَنَّ} ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف {يبلغان} الراجع إلى (الوالدين)، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً ولذلك لم يجز أن يكون تأكيداً للألف، ومعنى {عِندَكَ} أن يكونا في كنفك وكفالتك. {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما، وهو صوت يدل على تضجر. وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافعٍ وحفص للتنكير. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالفتح على التخفيف. وقرئ به منوناً وبالضم للاتباع كمنذ منوناً وغير منون، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الايذاء قياساً بطريق الأولى.
وقيل عرفاً كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإِحسان بهما. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ. وقيل النهي والنهر والنهم أخوات. {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر. {قَوْلاً كَرِيمًا} جميلاً لا شراسة فيه.
{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} تذلل لهما وتواضع فيهما، وجعل للذل جناحاً كما جعل لبيد في قوله:
وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كشفت وَقرة ** إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

للشمال يداً أو للقرة زماماً، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل. وقرئ: {الذل} بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول. {مِنَ الرحمة} من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس. {وَقُل رَّبّ ارحمهما} وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما: {كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين. روي: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبوي بلغا من الكبر أني أَلي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما. قال: لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما.