فصل: تفسير الآية رقم (40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (40):

{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} لا يبقى غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك، أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإِفناء والإِهلاك توفي الوارث لإِرثه. {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يردون للجزاء.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}
{واذكر في الكتاب إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} ملازماً للصدق، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله. {نَبِيّاً} استنبأه الله.

.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}
{إِذْ قَالَ} بدل من {إِبْرَاهِيمَ} وما بينهما اعتراض، أو متعلق ب {كَانَ} أو ب {صِدّيقاً نَّبِيّاً}. {لأَبِيهِ ياأبت} التاء معوضة من ياء الإِضافة ولذلك لا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا، وإنما تذكر للاستعطاف ولذلك كررها. {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك. {وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً} في جلب نفع أو دفع ضر، دعاه إلى الهدى وبين ضلاله واحتج عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب، حيث لم يصرح بضلاله بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصريح ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي غاية التعظيم، ولا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإِنعام العام وهو الخالق الرازق المحيي المميت المعاقب المثيب، ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح، والشيء لو كان حياً مميزاً سميعاً بصيراً مقتدراً على النفع والضر ولكن كان ممكناً، لاستنكف العقل القويم من عبادته وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة، فكيف إذا كان جماداً لا يسمع ولا يبصر، ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق القويم والصراط المستقيم لما لم يكن محظوظاً من العلم الإِلهي مستقلاً بالنظر السوي فقال:

.تفسير الآيات (43- 50):

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}
{ياأبت إِنّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} ولم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق، ثم ثبطه عما كان عليه بأنه مع خلوه عن النفع مستلزم للضر، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان من حيث إنه الآمر به فقال: {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} ولما استهجن ذلك بين وجه الضر فيه بأن الشيطان مستعص على ربك المولي للنعم كلها بقوله: {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجر إليه فقال: {ياأبت إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً} قريناً في اللعن والعذاب تليه ويليك، أو ثابتاً في موالاته فإنه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب. وذكر الخوف والمس وتنكير العذاب إما للمجاملة أو لخفاء العاقبة، ولعل اقتصاره على عصيان الشيطان من بين جناياته لإِرتقاء همته في الربانية، أو لأنه ملاكها أو لأنه من حيث إنه نتيجة معاداته لآدم وذريته منبه عليها.
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم} قابل استعطافه ولطفه في الارشاد بالفظاظة وغلظة العناد فناداه باسمه ولم يقابل {يَا أبَتِ}: بيا بني، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإِنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب، كأنها مما لا يرغب عنه عاقل ثم هدده فقال: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن مقالك فيها أو الرغبة عنها. {لأَرْجُمَنَّكَ} بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت، أو تبعد مني. {واهجرنى} عطف على ما دل عليه {لأَرْجُمَنَّكَ} أي فاحذرني واهجرني. {مَلِيّاً} زماناً طويلاً من الملاوة أو ملياً بالذهاب عني.
{قَالَ سلام عَلَيْكَ} توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة، أي لا أصيبك بمكروه ولا أقول لك بعد ما يؤذيك ولكن: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِِّي} لعله يوفقك للتوبة والإِيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر إستدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته وقد مر تقريره في سورة التوبة {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً} بليغاً في البر والإِلطاف.
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} بالمهاجرة بديني. {وَأَدْعُو رَبِّى} وأعبده وحده. {عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّى شَقِيّا} خائباً ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتم، وفي تصدير الكلام ب {عَسَى} التواضع وهضم النفس، والتنبيه على أن الإِجابة والإِثابة تفضل غير واجبتين، وأن ملاك الأمر خاتمته وهو غيب.
{فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بالهجرة إلى الشام. {وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} بدل من فارقهم من الكفرة، قيل إنه لما قصد الشام أتى أولاً حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد منه يعقوب، ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسمعيل بفضله على الانفراد. {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} وكلا منهما أو منهم.
{وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّنْ رَّحْمَتِنَا} النبوة والأموال والأولاد. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم، استجابة لدعوته {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ في الآخرين} والمراد باللسان ما يوجد به، ولسان العرب لغتهم وإضافته إلى الصدق وتوصيفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتحول الدول وتبدل الملل.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)}
{واذكر في الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} موحداً أخلص عبادته عن الشرك والرياء، أو أسلم وجهه لله وأخلص نفسه عما سواه، وقرأ الكوفيون بالفتح على أن الله أخلصه. {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم {رَسُولاً} مع أنه أخلص وأعلى.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)}
{وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} من ناحيته اليمنى من اليمين، وهي التي تلي يمين موسى من جانبه الميمون من اليمن بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة. {وَقَرَّبْنَاهُ} تقريب تشريف شبهه بمن قربه الملك لمناجاته. {نَجِيّاً} مناجياً حال من أحد الضميرين. وقيل مرتفعاً من النجوة وهو الارتفاع. لما روي أنه رفع فوق السموات حتى سمع صرير القلم.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا. {أَخَاهُ} معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته {واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى} فإنه كان أسن من موسى، وهو مفعول أو بدل على تقدير أن تكون {مِنْ} للتبعيض. {هارون} عطف بيان له. {نَبِيّاً} حال منه.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}
{واذكر في الكتاب إسماعيل إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} ذكره بذلك لأنه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره، وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فقال: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} فوفى. {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} اشتغالاً بالأهم وهو أن يقبل الرجل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه بالتكميل، قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} وقيل أهله أمته فإن الأنبياء آباء الأمم. {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} لاستقامة أقواله وأفعاله.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)}
{واذكر في الكتاب إِدْرِيسَ} وهو سبط شيث وجد أبي نوح عليهم الصلاة والسلام، واسمه أخنوخ واشتقاق إدريس من الدرس يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلقب به لكثرة درسه، إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأنه أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب. {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} يعني شرف النبوة والزلفى عند الله. وقيل الجنة. وقيل السماء السادسة أو الرابعة.

.تفسير الآية رقم (58):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
{أولئك} إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم الصلاة والسلام. {الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} بأنواع النعم الدينية والدنيوية {مِنَ النبيين} بيان للموصول. {مِن ذُرّيَّةِ ءَادَمَ} بدل منه بإعادة الجار، ويجوز أن تكون {مِنْ} فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية. {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي ومن ذرية من حملنا خصوصاً، وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح. {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} الباقون. {وإسراءيل} عطف على {إِبْرَاهِيمَ} أي ومن ذرية إسرائيل، وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} ومن جملة من هديناهم إلى الحق. {واجتبينا} للنبوة والكرامة. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيًّا} خبر ل {أولئك} إن جعلت الموصول صفته، واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى. وعن النبي الصلاة والسلام: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا» والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد. وقرئ: {يتلى} بالياء لأن التأنيث غير حقيقي، وقرأ حمزة والكسائي {بِكياً} بكسر الباء.

.تفسير الآية رقم (59):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء يقال خلف صدق بالفتح، وخلف سوء بالسكون. {أَضَاعُواْ الصلاة} تركوها أو أخروها عن وقتها. {واتبعوا الشهوات} كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في المعاصي. وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله: {واتبعوا الشهوات}. من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} شراً كقوله:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمِد النَاس أَمْرَه ** وَمَنْ يَغْو لاَ يعْدَمْ عَلَى الغَيِّ لاَئِماً

أو جزاء غي كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً} أو غياً عن طريق الجنة، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها.

.تفسير الآية رقم (60):

{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)}
{إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} يدل على أن الآي في الكفرة. {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب على البناء للمفعول من أدخل. {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ولا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم، ويجوز أن ينتصب {شَيْئاً} على المصدر، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم.

.تفسير الآيات (61- 65):

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
{جنات عَدْنٍ} بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها، أو منصوب على المدح، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعدن لأنه المضاف إليه في العلم أو علم للعدن بمعنى الإِقامة كبرة ولذلك صح وصف ما أضيف إليه بقوله: {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} أي وعدها إياهم وهي غائبة عنهم، أو وهم غائبون عنها، أو وعدهم بإيمانهم بالغيب. {إِنَّهُ} إن الله. {كَانَ وَعْدُهُ} الذي هو الجنة. {مَأْتِيّاً} يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة، وقيل هو من أتى إليه إحساناً أي مفعولاً منجزاً.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} فضول كلام. {إِلاَّ سلاما} ولكن يسمعون قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة، أو تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض على الاستثناء المنقطع، أو على أن معنى التسليم إن كان لغواً فلا يسمعون لغواً سواه كقوله:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِم غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكتَائِبِ

أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه فهو من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدته الإِكرام. {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة، وقيل المراد دوام الرزق ودروره.
{تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه، والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع، ولا تبطل برد ولا إسقاط. وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا زيادة في كرامتهم، وعن يعقوب {نورث} بالتشديد.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه بأبطأ عليه خمسة عشر يوماً، وقيل أربعين يوماً حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه، ثم نزل ببيان ذلك. والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى وما ننزل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وقرئ: {وما يتنزل} بالياء والضمير للوحي. {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} تاركاً لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه.
وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه، وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسياً لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها وقوله: {رَبُّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} بيان لامتناع النسيان عليه، وهو خبر محذوف أو بدل من {ربك} {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مرتب عليه، أي لما عرفت ربك لأنه لا ينبغي له أن ينساك، أو أعمال العمال فأقبل على عبادته واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفر، وإنما عدي باللام لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} مثلاً يستحق أن يسمى إلهاً أو أحداً سمي الله فإن المشتركين وإن سموا الصنم إلهاً لم يسموه الله قط، وذلك لظهور أحديته تعالى، وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة، وهو تقرير للأمر أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.