فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (29):

{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإِبط والاستحداد عند الإِحلال. {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} ما ينذرون من البر في حجهم، وقيل مواجب الحج. وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء. {وَلْيَطَّوَّفُواْ} طواف الركن الذي به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث، وقيل طواف الوداع. وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما. {بالبيت العتيق} القديم لأنه أول بيت وضع للناس، أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى، وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه.

.تفسير الآية رقم (30):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)}
{ذلك} خبر محذوف أي الأمر ذلك وهو وأمثاله تطلق للفصل بين كلامين. {وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله} أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه، أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف. وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم. {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فالتعظيم {خَيْرٌ لَّهُ}. {عِندَ رَبّهِ} ثواباً. {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إلا المتلو عليكم تحريمه، وهو ما حرم منها لعارض: كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تخرجوا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة. {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها. {واجتنبوا قَوْلَ الزور} تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك رداً لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والإِفتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك. وقيل شهادة الزور لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عدلت شهادة الزور الإِشراك بالله تعالى ثلاثاً وتلا هذه الآية» و{الزور} من الزور وهو الإِنحراف كما أن الإِفك من الأفك وهو الصرف، فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع.

.تفسير الآية رقم (31):

{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}
{حُنَفَاء للَّهِ} مخلصين له. {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وهما حالان من الواو. {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} لأنه سقط من أوج الإِيمان إلى حضيض الكفر. {فَتَخْطَفُهُ الطير} فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره، وقرأ نافع وحده {فَتَخْطَفُهُ} بفتح الخاء وتشديد الطاء. {أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح في مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة أو للتخيير كما قوله تعالى: {أَوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السماء} أو للتنويع فإن المشركين من لا خلاص له أصلاً، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد، ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى: ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكاً يشبه أحد الهلاكين.

.تفسير الآية رقم (32):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}
{ذلك وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده، وتعظيمها أن تختارها حساناً سماناً غالية الأثمان. روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار. {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما.

.تفسير الآية رقم (33):

{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}
{لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر، ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم، و{ثُمَّ} تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة، أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها، وهو على الأولين إما متصل بحديث {الأنعام} والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى أجل مسمى هو الموت، ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الذي ترفع إليه الأعمال أو يكون فيها ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة، وعلى الثاني {لَكُمْ فِيهَا منافع} التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإِحلال بطواف الزيارة.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)}
{وَلِكُلّ أُمَّةٍ} ولكل أهل دين. {جَعَلْنَا مَنسَكًا} متعبداً أو قرباناً يتقربون به إلى الله، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر أي موضع نسك. {لِّيَذْكُرُواْ اسم الله} دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه، علل الجعل به تنبيهاً على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود. {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعماً. {فإلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإِشراك. {وَبَشّرِ المخبتين} المتواضعين أو المخلصين فإن الإِخبات صفتهم.

.تفسير الآية رقم (35):

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} هيبة منه لإِشراق أشعة جلاله عليها. {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} من الكلف والمصائب. {وَالمُقيمي الصَّلاَةِ} في أوقاتها، وقرئ: {والمقيمين للصلاة} على الأصل. {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في وجوه الخير.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
{والبدن} جمع بدنة كخشب وخشبة، وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإِبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة، ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في أجزائها عن سبعة بقوله عليه الصلاة والسلام: «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» تناول اسم البدنة لها شرعاً.
بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره. {جعلناها لَكُمْ} ومن رفعه جعله مبتدأ. {مِن شَعَائِرِ الله} من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} منافع دينية ودنيوية. {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. {صَوَافَّ} قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، وقرئ: {صوافن} من صفن الفرس إذا قام على ثلاث. وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وقرئ: {صوافنا} بإبدال التنوين من حرف الإِطلاق عند الوقف و{صوافي} أي خوالص لوجه الله، و{صوافي} بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقاً كقولهم: أعط القوس باريها. {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع} الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة {القنع}، أو السائل من قنعت إليه قنوعاً إذا خضعت له في السؤال. {والمعتر} والمعترض بالسؤال، وقرئ: {والمعتري} يقال عره وعراه واعتره واعتراه. {كذلك} مثل ما وصفنا من نحرها قياماً. {سخرناها لَكُمْ} مع عظمها وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إنعامنا عليكم بالتقرب والإِخلاص.

.تفسير الآية رقم (37):

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
{لَن يَنَالَ الله} لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول. {لُحُومُهَا} المتصدق بها. {وَلاَ دِمَاؤُهَا} المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء. {ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقرب إليه والإِخلاص له، وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى فهم به المسلمون فنزلت. {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} كرره تذكيراً للنعمة وتعليلاً له بقوله: {لِتُكَبِّرُواْ الله} أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء. وقيل هو التكبير عند الإِحلال أو الذبح. {على مَا هَدَاكُمْ} أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، و{مَا} تحتمل المصدرية والخبرية و{على} متعلقة ب {لِتُكَبِّرُواْ} لتضمنه معنى الشكر. {وَبَشِّرِ المحسنين} المخلصين فيما يأتونه ويذرونه.

.تفسير الآية رقم (38):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}
{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءَامَنُواْ} غائلة المشركين، وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون {يُدَافِعُ} أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة الله. {كَفُورٍ} لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم.

.تفسير الآية رقم (39):

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
{أُذِنَ} رخص، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي على البناء للفاعل وهو الله. {لِلَّذِينَ يقاتلون} المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء أي الذين يقاتلهم المشركون. {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت. وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية. {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.

.تفسير الآيات (40- 50):

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)}
{الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} يعني مكة. {بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير موجب استحقوه به. {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} على طريقة قول النابغة:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ

وقيل منقطع. {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين. {لَّهُدّمَتْ} لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، وقرأ نافع {دفاع} وقرأ نافع وابن كثير {لَّهُدّمَتْ} بالتخفيف. {صوامع} صوامع الرهبانية. {وَبِيَعٌ} بيع النصارى. {وصلوات} كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت. {ومساجد} مساجد المسلمين. {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلاً. {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} من ينصر دينه، وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم. {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على نصرهم. {عَزِيزٌ} لا يمانعه شيء.
{الذين إِنْ مكناهم في الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء، وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين. وقيل بدل ممن ينصره. {وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} فإن مرجعها إلى حكمه، وفيه تأكيد لما وعده.
{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب مَدْيَنَ} تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأحودي في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. {وَكُذِّبَ موسى} غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع. {فَأمْلَيْتُ للكافرين} فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكاً والعمارة خراباً.
{فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} بإهلاك أهلها، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم. {وَهِىَ ظالمة} أي أهلها. {فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقاً ب {خَاوِيَةٌ}، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي: مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها، والجملة معطوفة على {أهلكناها} لا على {وَهِىَ ظالمة} فإنها حال والإِهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره {أهلكناها} وإن رفعته بالإِبتداء فمحلها الرفع. {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطف على {قَرْيَةٍ} أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله.
{وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} خالية مع بقاء عروشها، وقيل المراد ب {بئر} بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال. {أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم. {فَإِنَّهَا} الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار. وفي {تَعْمَى} راجع إليه والظاهر أقيم مقامه. {لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد، وذكر {الصدور} للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر. قيل لما نزل {وَمَن كَانَ في هذه أعمى} قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} المتوعد به. {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة. {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء.
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإِعراب، ورجع للضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو، لأن الأولى بدل من قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} وهذه في حكم ما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى. {أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمهلتكم. {وَهِىَ ظالمة} مثلكم. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب. {وَإِلَىَّ المصير} وإلى حكمي مرجع الجميع.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أوضح لكم ما أنذركم به، والاقتصار على الإِنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم.
{فالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لما بدر منهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هي الجنة وال {كَرِيمٌ} من كل نوع ما يجمع فضائله.