فصل: تفسير الآيات (26- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (26- 35):

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات والطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات} أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله: {أولئك} يعني أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم. {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام ولم يقرر عليها، وقيل: {الخبيثات} {والطيبات} من الأقوال والإِشارة إلى {الطيبين} والضمير في {يَقُولُونَ} للآفكين، أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو {لِلْخَبِيثِينَ} و{الخبيثات} أي مبرؤون من أن يقولوا مثل قولهم. {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة، ولقد برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه الصلاة والسلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة، وما ذلك إلا لإِظهار منصب الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} التي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضاً لا يدخلان إلا بإذن. {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له، أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا له استأنس، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس. {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل. وعنه عليه الصلاة والسلام: «التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع» {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حييتم صباحاً أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أأستأذن على أمي، قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت، قال: أتحب أن تراها عريانة، قالا: لا، قال: فاستأذن» {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتعملوا بما هو أصلح لكم.
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً} يأذن لكم. {فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها.
{وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} ولا تلحوا. {هُوَ أزكى لَكُمْ} الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإِلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة، أو أنفع لدينكم ودنياكم. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه. {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} كالربط والحوانيت والخانات والخانقات. {فِيهَا مَتَاعٌ} استمتاع. {لَكُمْ} كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها. {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد لمن دخل مدخلاً لفساد أو تطلع على عورات.
{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} أي ما يكون نحو محرم. {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إلا على أزواجهن أو ما ملكت أيمانهم، ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض، وقيل حفظ الفروج هاهنا خاصة سترها. {ذلك أزكى لَهُمْ} أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة. {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون.
{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن} فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} بالتستر أو التحفظ عن الزنا، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا. {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له. {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجاً، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتَحَمُّلِ الشهادة. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} ستراً لأعناقهن. وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم. {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كرره لبيان من يحل له الإِبداء ومن لا يحل له. {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره. {أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن} لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإِخوان لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} يعم الإِماء والعبيد، لما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» وقيل المراد بها. الإِماء وعبد المرأة كالأجنبي منها. {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النساء، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال. {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف. {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت. {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} إذ لا يكاد يخلوا أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه، في الجاهلية فإنه وإن جب بالإِسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقرأ ابن عامر {أيه المؤمنون} وفي (الزخرف) {يا أَيُّهَ الساحر} وفي {الرحمن} {أَيُّهَ الثقلان} بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف، ووقف الباقون بغير الألف. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بسعادة الدارين.
{وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى، و{أيامى} مقلوب أيايم كيتامى، جمع أيم وهو العزب ذكراً كان أو أنثى بكراً كان أو ثيباً قال:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكح وَإِنْ تَتَأْيَّمِي ** وَإِنْ كُنْت أَفْتى مِنْكُم أَتَأَيَّم

وتخصيص {الصالحين} لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه، {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} رد لما عسى يمنع من النكاح، والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح، أو وعد من الله بالإِغناء لقوله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا الغنى في هذه الآية» لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء}
{والله واسع} ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته. {عَلِيمٌ} يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته.
{وَلْيَسْتَغفِفِ} وليجتهد في العفة وقمع الشهوة. {الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أسبابه، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه. {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} فيجدوا ما يتزوجون به. {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجماً بنجوم يضم بعضها إلى بعض. {مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} عبداً كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره. {فكاتبوهم} أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الارفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل. {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف، وقد روي مثله مرفوعاً. وقيل صلاحاً في الدين. وقيل مالاً وضعفه ظاهر لفظاً ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز. {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الذي ءَاتَاكُمْ} أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئاً من أموالهم، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول. وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنياً، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: «هو لها صدقة ولنا هدية» {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم} إماءكم. {عَلَى البغاء} على الزنا، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} تعففاً شرط للإِكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطاً للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإِكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإِماء كالشاذ النادر. {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لهن أوله إن تاب، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإِكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات} يعني الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر في هذا وفي (الطلاق) لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين، أو لأنها بينت الأحكام والحدود. {وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} أو ومثلاً من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم. {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} يعني ما وعظ به في تلك الآيات، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها، وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته.
{الله نُورُ السموات والأرض} النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك: زيد كرم بمعنى ذو كرم، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء. أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه. أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإِدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكاً فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإِدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى إبتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنواراً، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار، الحسية والعقلية وقصور الإِدراكات عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما. {مَثَلُ نُورِهِ} صفة نوره العجيبة الشأن، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة، وهي الكوة الغير النافذة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإِمالة. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم ثاقب، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة. {المصباح في زُجَاجَةٍ} في قنديل من الزجاج. {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدرء أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه، أو بعض ضوئه بعضاً من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل، وقراءة أبي عمرو والكسائي {درئ} كشريب وقد قرئ به مقلوباً.
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ} أي إبتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى {الزجاجة} بحذف المضاف، وقرئ: {توقد} من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب. {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} تقع الشمس عليها حيناً بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائماً فتحرقها أو في مفيأة تغيب عنها دائماً فتتركها نيئاً وفي الحديث: «لا خير في شجرة ولا نبات في مفيأة ولا خير فيهما في مضحى» {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه. {نُّورٌ على نُورٍ} نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه، الأول: أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، ويؤيده قراءة أبي: {مثل نور المؤمن}، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي: الحساسة التي تدرك بها المحسوسات بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى: {ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي: (المشكاة)، و(الزجاجة)، و(المصباح)، و(الشجرة)، و(الزيت)، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لإِضاءتها بالإِدراكات الكلية والمعارف الإِلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإِلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نوراً على نور.
{يَهْدِي الله لِنُورِهِ} لهذا النور الثاقب. {مَن يَشَآء} فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها. {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} إدناء للمعقول من المحسوس توضيحاً وبياناً. {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها وإن لم يكترث بها.