فصل: تفسير الآيات (1- 2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (20- 24):

{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}
{لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي طرقاً واسعةً جمعُ فجَ وهو الطريقُ الواسعُ وقيلُ هو المسلكُ بينَ الجبلينِ، ومِنْ متعلقةٌ بما قبلَهَا لما فيهِ من مَعْنَى الاتخاذِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من سبلاً أي كائنةً من الأرضِ ولو تأخرَ لكان صفةً لهَا.
{قَالَ نُوحٌ} أعيدَ لفظُ الحكايةِ لطولِ العهدِ بحكايةِ مناجاتِهِ لربِّهِ، أي قالَ مناجياً لهُ تعالَى: {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} أيْ تمُّوا على عصيانِي فيما أمرتُهُم بهِ مع ما بالغتُ في إرشادِهِم بالعظةِ والتذكيرِ. {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} أيْ واستمرُّوا على اتِّباعِ رؤسائِهِم الذينَ أبطرَتْهُم أموالُهُم وغرتْهُم أولادُهُم وصارَ ذلكَ سبباً لزيادةِ خسارِهِم في الآخرةِ فصَارُوا أسوةً لهم في الخسارِ، وفي وصفِهِم بذلكَ إشعارٌ بأنَّهُم إنَّما اتَّبَعُوهُم لوجاهَتِهِم الحاصلةِ لهم بسببِ الأموالِ والأولادِ لما شاهدُوا فيهم من شُبهةٍ مُصححةٍ للاتباعِ في الجُملةِ. وقرئ: {وولده} بالضمِّ والسكونِ على أنَّهُ لغةٌ كالحُزْنِ أو جمعٌ كالأُسْدِ. {وَمَكَرُواْ} عطفٌ على صلةِ من والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أنَّ الإفرادَ في الضمائرِ الأُولِ باعتبارِ لفظِهَا {مَكْراً كُبَّاراً} أي كبيراً في الغايةِ وقرئ بالتخفيفِ والأولُ أبلغُ منْهُ وهُوَ أبلغُ من الكبيرِ وذلكَ احتيالُهُم في الدِّينِ وصدُّهم للنَّاسِ عنْهُ وتحريشُهُم على أذيةِ نوحً عليهِ السَّلامُ {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ} أي لا تتركُوا عبادتَهَا على الإطلاقِ إلى عبادةِ ربِّ نوحٍ {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} أي ولا تذُرنَّ عبادةَ هؤلاءِ، خصُّوها بالذكرِ مع اندراجِهَا فيمَا سبقَ لأنَّها كانتْ أكبرَ أصنامِهِم وأعظَمَهَا قدراً عندهُم وقد انتقلتْ هذه الأصنامُ عنهُم إلى العربِ فكانَ ودُّ لكلبٍ وسواعٌ لهمدانَ ويغوثُ لمذحجَ ويعوقُ لمرادٍ ونسرٌ لحِميْرٍ. وقيلَ هي أسماءُ رجالٍ صالحينَ وكانُوا بينَ أدمَ ونوحٍ، وقيلَ من أولادِ آدمَ عليهِ السَّلامُ ماتُوا فقالَ إبليسُ لمن بعدَهُم لو صوَّرتُم صُورَهُم فكنتُم تنظرونَ إليهِم وتتبركُونَ بهم ففعلُوا فلمَّا ماتَ أولئكَ قالَ لمَنْ بعدَهُم إنَّهم كانُوا يعبدُونَهُم فعبدُوهُم، وقيلَ كان ودٌّ على صورةِ رجلٍ، وسواعٌ على صورةِ امرأةٍ، ويغوثُ على صورة أسدٍ، ويعوقُ على صورةِ فرسٍ، ونسرٌ على صورةِ نسرٍ. وقرئ: {وُداً} بضمِّ الواوِ {ويغوثاً} {ويعوقاً} للتناسبِ، ومنعُ صرفِهِما للعُجْمةِ والعلميةِ. {وَقَدْ أَضَلُّواْ} أي الرؤساءُ {كَثِيراً} خلقاً كثيراً، أو الأصنامُ كقولِهِ تعالَى: {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} عطفٌ على قولِهِ تعالَى: {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} على حكايةِ كلامِ نوحٍ بعدَ قالَ وبعدَ الواوِ النائبةِ عنهُ أيْ قالَ ربِّ إنَّهُم عصَوني، وقالَ لا تزدِ الظالمينَ إلا ضلالاً. ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهِم للتسجيلِ عليهِم بالظلمِ المفرطِ وتعليلِ الدعاءِ عليهِم بهِ. والمطلوبُ هو الضَّلالُ في تمشيةِ مكرِهِم ومصالحِ دُنياهُم أو الضياعُ والهلاكُ كما في قولِهِ تعالَى: {إِنَّ المجرمين فِي ضلال وَسُعُرٍ} ويؤيدُهُ ما سيأتي من دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.

.تفسير الآيات (25- 28):

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
{مّمَّا خطيئاتهم} أي من أجلِ خطيئاتِهِم، ومَا مزيدةٌ بينَ الجارِّ والمجرورِ للتوكيدِ والتفخيمِ، ومَنْ لم يَرَ زيادَتَهَا جعلَهَا نكرةً وجعلَ خطيئاتِهِم بدلاً منهَا. وقرئ: {مِمَّا خَطَاياهُم}، و{مِمَّا خطياتِهِم} أي بسببِ خطيئاتِهِم المعدودةِ وغيرِهَا من خطاياهُم {أُغْرِقُواْ} بالطوفانِ لا بسببٍ آخرَ {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} المرادُ إمَّا عذابُ القبرِ فهو عَقيبَ الإغراقِ، وإنْ كانُوا في الماءِ. عنِ الضحَّاكِ أنَّهُم كانُوا يُغرقونَ من جانبٍ ويُحرقُونَ من جانبٍ أو عذابُ جهنَم والتعقيبُ لتنزيلِهِ منزلةَ المتعقبِ لإغراقِهِم لاقترابِهِ وتحقِقِه لا محالةَ وتنكيرُ النَّارِ إمَّا لتعظيمِهَا وتهويلِهَا، أو لأنَّهُ تعالَى أعدَّ لهُم على حسبِ خطيئاتِهِم نوعاً من النَّارِ. {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً} أي لم يجدْ أحدٌ منهُم واحداً منَ الأنصارِ، وفيه تعريضٌ باتِّخاذِهِم آلهةً من دونِ الله تعالَى وبأنَّها غيرُ قادرةٍ على نَصرِهِم، وتهكمٌ بهِمْ. {وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} عطفٌ على نظيرِهِ السابقِ. وقولُهُ تعالَى: {مّمَّا خطيئاتهم} الخ. اعتراضٌ وسطٌ بين دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أولِ الأمرِ، بأنَّ ما أصابَهُم من الإغراقِ والإحراقِ لم يُصبهُم إلا لأجلِ خطيئاتِهِم التي عدَدَهَا نوحٌ عليهِ السَّلامُ وأشارَ إلى استحقاقِهِم للإهلاكِ لأجلِها لا أنَّها حكايةٌ لنفسِ الإغراقِ والإحراقِ على طريقةِ حكايةِ ما جَرَى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينُهُم من الأحوالِ والأقوالِ وإلا لأُخِّر عن حكايةِ دُعَائِهِ هَذا. وديَّاراً من الأسماءِ المستعملةِ في النَّفيِ العامِّ يقالُ ما بالدارِ ديَّارٌ أو ديُّورٌ كقيَّامِ وقَيُّومِ، أيْ أحدٌ وهو فَيعالٌ من الدُّورِ أو من الدَّارِ أصلُهُ دَيْوَارٌ قدْ فُعِلَ بهِ ما فُعِلَ بأصلِ سيِّدٍ، لا فَعَّالٌ وإلا لكانَ دَوَّاراً.
{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} عليها كلاً أو بعضاً {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} عن طريقِ الحقِّ {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي إلا من سيفجُر ويكفرُ فوصفَهم بما يصيرونَ إليهِ وكأنَّه اعتذارٌ ممًّا عَسَى يردُ عليه مِنْ أنَّ الدعاءَ بالاستئصال معَ احتمال أنْ يكونَ من أخلافِهم مَنْ يؤمنَ منكَرٌ وإنَّما قالَهُ لاستحكام علمِه بما يكونُ منهم ومن أعقابِهم بعدما جرَّبُهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنةٍ {رَّبّ اغفر لِى ولوالدى} أبُوه لمَك بنُ مَتُّوشَلِحَ وأمُّه سمحاء بنتُ إنُوشَ كانَا مؤمنينِ، وقيل: هما آدمُ وحواءُ وقرئ: {ولولديَّ} يريدُ ساماً وحاماً {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} أي مَنزلِي وقيلَ: مسجدِي وقيل: سَفينتي {مُؤْمِناً} بهذا القيدِ خرجتْ امرأتُه وابنُه كنعانُ ولكنْ لم يجزمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بخروجِه إلا بعدَ ما قيلَ له: إنَّه ليسَ من أهلِك وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ هودٍ {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} عمَّهم بالدُّعاءَ إثرَ ما خصَّ بهِ مَنْ يتصلُ به نسباً وديناً {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} أي هلاكاً قيلَ: غرقَ معُهم صبيانُهم أيضاً لكنْ لا على وجهِ العقابِ لهم بلُ لتشديد عذابِ آبائِهم وأمَّهاتِهم بإراءةِ هلاكِ أطفالِهم الذينَ كانُوا أعزَّ عليِهم من أنفسهِم.
قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يهلكونَ مهلكاً واحداً ويصدرونَ مصادرَ شَتَّى» وعنِ الحسنِ أنَّه سُئلَ عنْ ذلِكَ فقالَ علَم الله براءتَهُم فأهلكَهُم بغيرِ عذابٍ، وقيلَ: أعقمَ الله تعالَى أرحامَ نسائِهم وأيبسَ أصلابَ آبائِهم قبلَ الطُّوفانِ بأربعينَ أو سبعينَ سنةً فلم يكُنْ معهُم صبيٌّ حينَ غَرِقُوا.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ نوحٍ كانَ من المؤمنينَ الذينَ تُدركهم دعوةُ نوحٍ عليهِ السَّلامُ».

.سورة الجن:

.تفسير الآيات (1- 2):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}
{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} وقرئ: {أُحيَ} إليَّ أصلُه وُحيَ وقد قرئ كذلكَ منْ وُحيَ إليهِ فقلبتْ الواوُ المضمومةُ همزةٌ كأعدَ وَأزنَ في وَعَدَ ووَزَنَ {أَنَّهُ} بالفتحِ لأنَّه فاعل أُوحي والضمير للشأن {استمع} أي القرآن كما ذكر فِي الأحقافِ وقد حُذِفَ لدلالة ما بعدَهُ عليه {نَفَرٌ مّنَ الجن} النفرُ ما بينَ الثلاثةِ للعشرةِ، والجنُّ أجسام عاقلةٌ خفيةٌ يغلبُ عليهْمِ الناريةُ أو الهوائيةُ، وقيلَ: نوعٌ منَ الأرواحِ المجردةِ وقيلَ: هيَ النفوسُ البشريةُ المفارقةُ عن أبدانِها وفيهِ دِلالةٌ عَلى أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ لم يشُعْر بهمِ وباستماعِهم ولم يقرأْ عليهمْ وإنَّما اتفقَ حضورُهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبره الله تعالى بذلك وقد مر ما فيه من التفصيلِ في الأَحْقَافِ {فَقَالُواْ} لقومِهم عندَ رجوعِهم إليهِم {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَاناً} كتاباً مقرُوءاً {عَجَبًا} بديعاً مبايناً لكلام الناسِ في حسن النظمِ ودقة المَعْنى وهو مصدرٌ وصفَ به للمبالغةِ {يَهْدِى إِلَى الرشد} إلى الحقِّ والصوابِ {فَئَامَنَّا بِهِ} أيْ بذلكَ القرآن {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} حسبمَا نطقَ به مَا فيهِ منْ دلائلِ التوحيدِ.

.تفسير الآيات (3- 8):

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)}
{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} بالفتحِ قالُوا هُوَ وما بعدَهُ من الجمل المصدّرةِ بأنَّ فِي أحدَ عشرَ موضعاً عطفٌ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ في فآمنا به كأنَّه قيلَ: فصدقناهُ وصدقنا أنَّه تعالَى جَدُّ ربِنا أي ارتفعَ عظمتُه، منْ جَدَّ فلانٌ في عَينْي أيْ عظُم تمكنُّهُ أو سلطانُهُ أو غِناهُ على أنه مستعارٌ منَ الجَدِّ الذي هُوَ البَختُ والمَعْنى وصفُهُ بالاستغتاءِ عنِ الصاحبةِ والولدِ لعظمتِه أوْ لسلطانه لغناهُ وقرئ بالكسر وكَذا الجملُ المذكورةُ عطفاً على المحكيِّ بعدَ القولِ وهو الأظهرُ لوضوح اندارجِ كُلِّها تحتَ القولِ، وأما اندارجُ الجملِ الآتيةِ تحتَ الإيمانِ والتصديقِ كما يقتضيهُ العطفُ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ ففيهِ إشكالٌ كَما ستحيطُ به خُبْراً وقوله تعالى: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيانٌ لِحُكمِ تعالِي جَدِّهِ وقرئ: {جَدَّاً ربُّنَا} على التمييزِ وجَدُّ ربِنا بالكسرِ أيْ صدقُ ربوبيتِه وحقُّ إلهيةِ عنِ اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ، وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا القرآنَ ووفقُوا للتوحيدِ والإيمانِ تنبهُوا للخطأِ فيما اعتقدَهُ كفرةُ الجنِّ من تشبيهِ الله تعالَى بخلقِه في اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ فاستعظمُوه ونزهُوه تعالَى عَنْهُ.
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي إبليسُ أو مردةُ الجنِّ {عَلَى الله شَطَطاً} أي قولاً ذَا شططٍ أيْ بعدٍ عن القصدِ ومجاوزةٍ للحدِّ أوْ هُو شططٌ في نفسِه لفرطِ بعدِهِ عن الحقِّ وهُو نسبةُ الصاحبةِ والولدِ إليهِ تعالَى وتعلقُ الإيمانِ والتصديقِ بهذَا القولِ ليسَ باعتبارِ نفسِه فإنهم كانُوا عالمِين بقولِ سفهائِهم منْ قبلُ أيضاً بلْ باعتبارِ كونِه شططاً كأنَّه قيلَ: وصدقنَا أنَّ مَا كَان يقولُه سفيهُنَا في حقِّه تعالَى كانَ شططاً وأما تعلقُهَما يقولِه تعالَى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} فغيرُ ظاهرٍ وهُو اعتذارٌ منْهُم عن تقليدِهم لسفيهِهم أيْ كُنَّا نظنُّ أنه لنْ يكذبَ على الله تعالى أحدٌ أبداً ولذلكَ اتبعنَا قولَهُ وكَذِباً مصدرٌ مؤكدٌ لتقولَ لأنَّه نوعٌ من القولِ أو وصفٌ لمصدرِه المحذوفِ أيْ قولاً كذباً أيْ مكذوباً فيهِ وقرئ: {لنْ تَقوَّلَ} بحذفِ احدَى التاءينِ فكذباً مصدرٌ مؤكدٌ له لأنَّ الكذبَ هو التقولُ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} كان الرجلُ من العربِ إذا أمسَى في وادٍ قفرٍ وخافَ على نفسِه يقولُ أعوذُ بسيدِ هَذَا الوادِي من سفهاءِ قومِه يريدُ الجنِّ وكبيرَهُم فإذا سمعُوا بذلكَ استكبرُوا وَقَالُوا سُدنا الإنسَ والجنَّ وذلكَ قولُه تعالَى: {فَزَادوهُمْ} أيْ زادَ الرجالُ العائدونَ الجِنَّ {رَهَقاً} أي تكبراً وعتواً أو فزادَ الجنُّ العائذينَ غياً بأنْ أضلوهُمْ حتى استعاذُوا بهمْ {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} أيِ الإنسُ {كَمَا ظَنَنتُمْ} إيُّها الجِنُّ على أنَّه كلامُ بعضِهم لبعضٍ {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} وقيل: المَعْنى أنَّ الجنَّ ظنُّوا كما ظننتُمْ أيُّها الكفرةُ إلخ فتكونُ هذهِ الآيةُ وما قبلَها منْ جملة الكلامِ المُوحَى به والأقربُ أنهُمَا كذلكَ علَى كُلِّ تقديرٍ عطفاً على أنه استمَع اذ لاَ معْنَى لادراجهما تحتَ ما ذكرَ من الإيمان والتصديقِ وكذا قولُه تعالَى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} وما بعدَهُ من الجُمَلِ المُصدرةِ بأنَّا ينبغِي أنْ تكونَ معطوفةً على ذلكَ عَلى أنَّ المُوحَى عينُ عبارةِ الجنِّ بطريقِ الحكايةِ كأنَّه قيلَ: قُلْ أُوحيَ إليَّ كيت وكيت وهذهِ العباراتُ أي طلبنَا بلوغَ السماءِ أو خبرَها واللمسُ مستعارٌ من المسِّ للطلبِ كالجسِّ يقال لمسَهُ والتمسَهُ وتلمسَهُ كطلَبُه واطلَبُه وتطلَبُه {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} أي حُراساً اسمُ جمعٍ كخدمٍ، مفردُ اللفظِ، ولذلكَ قيلَ: {شَدِيداً} قوياً وهُم الملائكةُ يمنعونَهُم عنها {وَشُهُباً} جمعُ شهابٍ، وهيَ الشعلةُ المقتبسةُ من نارِ الكواكبِ.

.تفسير الآيات (9- 11):

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)}
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} قبلَ هَذا {مِنْهَا} من السماءِ {مقاعد لِلسَّمْعِ} خاليةً عن الحرسِ والشهبِ أو صالحةٍ للترصدِ والاستماعِ، وللسمعِ متعلقٌ بنقعدَ أي لأجلِ السمعِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لمقاعدَ كائنةً للسمعِ {فَمَن يَسْتَمِعِ الأن} في مقعدٍ من المقاعدِ {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي شهاباً راصداً لهُ ولأجلِه يصدُّه عن الاستماعِ بالرجمِ أو ذوي شهابٍ راصدينَ لهُ على أنَّه اسمٌ مفردٌ في مَعْنى الجمعِ كالحرسِ، قيلَ: حدثَ هذا عندَ مبعثِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والصحيحُ أنه كانَ قبلَ البعثِ أيضاً لكنَّه كثُر الرجمُ بعدَ البعثةِ وزادَ زيادةً حتَّى تنبه لها الإنسُ والجنُّ ومُنعَ الاستراقُ أصلاً فقالُوا ما هذا إلا لأمرِ أراده الله تعالى بأهلِ الأرضِ وذلك قولهم {وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض} بحراسةِ السماءِ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي خيراً، ونسبةُ الخيرِ إلى الله تعالى دونَ الشرِّ من الآداب الشريفةِ القرآنيةِ كما في قولِه تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ونظائرُه {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} أي الموصوفونَ بصلاحِ الحالِ في شأنِ أنفسِهم وفي معاملتِهم مع غيرِهم المائلونَ إلى الخيرِ والصلاحِ حسبما تقتضيهِ الفطرةُ السليمةُ لا إلى الشرِّ والفسادِ كما هو مقتضَى النفوسِ الشريرةِ {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي قومٌ دونَ ذلكَ فحذف الموصوفَ وهم المقتصدونَ في صلاحِ الحالِ على الوجهِ المذكورِ لا في الإيمانِ والتَّقوى كما توهَم فإنَّ هذا بيانٌ لحالِهم قبل استماعِ القرآنِ كما يُعربُ عنه قوله تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} وأمَّا حالُهم بعد استماعِه فسيُحكى بقولِه تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} إلى قولِه تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} أي كُنَّا قبل هذا ذَوِي طرائقَ أي مذاهبَ أو مثلَ طرائقَ في اختلافِ الأحوالِ، أم كانتْ طرائقُنَا طرائقَ قِدداً أي متفرقةً مختلفةً جمعُ قِدَّةٍ من قدَّ كالقِطْعةِ من قَطَع.

.تفسير الآيات (12- 17):

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}
{وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي علمنَا الآنَ {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله} أي أنَّ الشأنَ لنْ نعجزَ الله كائنينَ {فِى الأرض} أينما كُنَّا من أقطارِها {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} هاربينَ منها إلى السماءِ أو لن نعجزَهُ في الأرضِ إنْ أرادَ بنا أمراً ولن نُعجزَهُ هرباً إنْ طلبنَا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} أي القرآنَ الذي هُو الهُدَى بعينِه {ءَامَنَّا بِهِ} من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ} وبما أنزلَهُ {فَلاَ يَخَافُ} فهو لا يخافُ {بَخْساً} أي نقصاً في الجزاءِ {وَلاَ رَهَقاً} ولا أنْ ترهقَهُ ذلةٌ أو جزاءَ بخسٍ ولا رهقٍ إذَا لم يبخسْ أحداً حقَّا ولا رهقَ أحداً ظلماً، فلا يخافُ جزاءَهما وفيهِ دِلالةٌ على أنَّ من حقِّ من آمنَ بالله تعالى أن يجتنبَ المظالمَ. وقرئ: {فلا يخفْ}، والأولُ أدلُّ على تحقيقِ نجاةِ المؤمنِ واختصاصِها بهِ {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} الجائرونَ عن طريقِ الحقِّ الذي هو الإيمانُ والطَّاعةُ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ أسلمَ والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {تَحَرَّوْاْ} توخَّوا {رَشَدًا} عظيماً يبلغُهم إلى دار الثوابِ {وَأَمَّا القاسطون} الجائرونَ عن سنن الإسلامِ {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} تُوقدُ بهم كَما تُوقدُ بكفرةِ الإنسِ {وَإِنَّ لُوطاً استقاموا} أنْ مخففةٌ من الثقيلةِ، والجملةُ معطوفةٌ قطعاً على أنَّه استمعَ والمَعْنى وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ لو استقامَ الجِنُّ والإنسُ أو كلاهُما {عَلَى الطريقة} التي هي ملَّةُ الإسلامِ {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} أيْ لوسَّعنا عليهم الرزقَ وتخصيصُ الماءِ الغدقِ وهو الكثيرُ بالذكر، لأنَّه أصلُ المعاشِ والسَّعةِ ولعزةِ وجودِه بين العربِ وقيل: لو استقامَ الجنُّ على الطريقةِ المُثْلَى أي لو ثبتَ أبُوهم الجانُّ على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعتِه ولم يتكبرْ عن السجود لآدمَ عليه السَّلامُ ولم يكفرُ وتبعه ولدُه في الإسلامِ لأنعمنا عليهم ووسَّعنا رزقَهم {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرَهُم كيفَ يشكرونَهُ وقيل: معناهُ إنَّه لو استقامَ الجنُّ على طريقتِهم القديمةِ ولم يسلموا باستماع القُرآنِ لوسّعنا عليهم الرزقَ استدارجاً لنوقعَهُم في الفتنةِ ونعذبهم في كُفرانِ النعمةِ {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} عن عبادتِه أو عن موعظتِه أو وحيهِ {يَسْلُكْهُ} يُدخله {عَذَاباً صَعَداً} أي شاقَّاً صعباً يعلُو المعذبَ ويغلبُه على أنَّه مصدرٌ وصفَ به مبالغةً.