فصل: تفسير الآيات (15- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (12- 14):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)}
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ الشِّركِ وهو لقمانُ بنُ باعُوراء من أولادِ آزرَ بنِ أختِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ أو خالتِه وعاشَ حتَّى أدركَ داودَ عليه السَّلامُ وأخذ عنْهُ العلمَ وكان يُفتي قبل مبعثِه وقيل: كان قاضياً في بني إسرائيلَ. والجمهورُ على أنَّه كانَ حكيماً ولم يكُنْ نبيِّاً، والحكمةٌ في عُرفِ العُلماءِ: استكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ باقتباسِ العُلوم النَّطريةِ واكتسابِ المَلَكة التَّامةِ على الأفعالِ الفاضلةِ على قدرِ طاقتِها. ومن حكمتِه أنَّه صحبَ داودَ عليه السَّلام شُهوراً وكان يسرد الدِّرعَ فلم يسألْه عنها فلمَّا أتمَّها لبسها وقال نعمَ لبوسُ الحربِ أنتِ فقال: (الصَّمتُ حكمةٌ وقليلٌ فاعلُه) فقال له داودُ عليه السَّلامُ: بحقَ ما سُمِّيت حكيماً وأنَّ داودَ قال له يوماً كيفَ أصبحتَ فقال أصبحتُ في يَدَيْ غيرِي فتفكَّر داودُ فيه فصعِق صعقةً. وأنَّه أمرَه مولاهُ بأنْ يذبحَ شاةً ويأتي بأطيبِ مُضغتينِ منها فأتى باللِّسانِ والقلبِ، ثمَّ بعد أيَّامٍ أمره بأنْ يأتيَ بأخبثِ مُضغتينِ منها فأتى بِهما أيضاً فسأله عن ذلك فقالَ: هُما أطيبُ شيءٍ إذا طَابَا وأخبثُ شيءٍ إدا خُبثا. ومعنى {أَنِ اشكر للهِ} أي اشكُر له تعالى على أنَّ أنْ مفسِّرةٌ فإنَّ إيتاءَ الحكمةِ في معنى القَولِ وقوله تعالى: {وَمَن يَشْكُرْ} إلخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله موجبٌ للامتثالِ بالأمر أي ومَن يشكُرْ له تعالى {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ منفعتَهُ التي هي ارتباطُ العتيدِ واستجلابُ المزيدِ مقصورةٌ عليها {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ} عن كلِّ شيءٍ فلا يحتاجُ إلى الشُّكرِ ليتضررَ بكفرِ مَن كفَرَ {حَمِيدٌ} حقيقٌ بالحمد وإنْ لم يحمدْهُ أحدٌ أو محمودٌ بالفعل ينطقُ بحمدِه جميعُ المخلوقاتِ بلسانِ الحالِ. وعدمُ التَّعرضِ لكونِه تعالى مشكُوراً لما أنَّ الحمدَ متضمنٌ للشكرِ بل هو رأسُه، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الحمدُ رأسُ الشُّكرِ لم يشكرِ الله عبدٌ لم يحمدْهُ» فإثباتُه له تعالى إثباتٌ للشكرِ له قطعاً.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} أنعمَ وقيل أشكمَ وقيل ماثانَ {وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى} تصغيرُ إشفاقٍ. وقرئ: {يا بنيْ} بإسكانِ الياءِ وبكسرِها {لاَ تُشْرِكْ بالله} قيل: كانَ ابنُه كافراً فلم يزلْ به حتَّى أسلم ومن وقفَ على لا تُشركْ جعلَ بالله قسماً {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} تعليلٌ للنَّهي أو للانتهاءِ عن الشِّركِ {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه} إلخ كلامُ مستأنفٌ اعترض به على نهجِ الاستطرادِ في أثناءِ وصيَّةِ لقمانَ تأكيداً لما فيها من النَّهيِ عن الشِّركِ. وقولُه تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلى قولِه في عامينِ اعتراضٌ بين المفسَّر والمفسِّر. وقولُه تعالى: {وَهْناً} حالٌ من أمِّه أي ذاتَ وهنٍ أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِ هو الحالُ أي تهِنُ وَهْناً. وقولُه تعالى: {على وَهْنٍ} صفة للمصدرِ أي كائناً على وَهنٍ أي تضعُف ضعفاً فوقَ ضعفٍ فإنَّها لا تزالُ يتضاعفُ ضعفُها.
وقرئ: {وَهَنا على وَهَن} بالتَّحريك يقالُ وَهِن يَهِنُ وَهَنا ووَهَن يَوْهِنُ وَهْناً {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي فطامُه في تمامِ عامينِ وهي مدَّةُ الرَّضاعِ عند الشَّافعيِّ وعند أبي حنيفةَ رحمهما الله تعالى هي ثلاثُون شهراً. وقد بُيِّن وجهُه في موضعِه. وقرئ: {وفَصْلُه}. {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} تفسيرٌ لوصَّينا وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للوصيِّةِ في حقِّها خاصَّة ولذلك قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمن قالَ له مَن أبرُّ؟ «أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ ثمَّ أباكَ» {إِلَىَّ المصير} تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ أي إليَّ الرُّجوع لا إلى غيرِي فأجازيك على ما صَدَر عنْك من الشُّكرِ والكُفرِ.

.تفسير الآيات (15- 17):

{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}
{وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} أي بشركتِه له تعالى في استحقاقِ العبادةِ {عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك {وصاحبهما فِي الدنيا مَعْرُوفاً} أي صحاباً معروفاً يرتضيِه الشَّرعُ وتقتضيه المروءةُ. {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} بالتَّوحيدِ والإخلاصِ في الطَّاعةِ {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُك ومرجعُهما ومرجعُ من أناب إليَّ {فَأُنَبِئُكُم} عند رجوعِكم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بأنْ أجازيَ كُلاًّ منكم بما صدَر عنه من الخيرِ والشرِّ. وقوله تعالى: {يَا بَنِى} إلخ شروعٌ في حكايةِ بقيةِ وصايا لقمانَ إثرَ تقريرِ ما في مطلعِها من النَّهيِ عن الشِّركِ وتأكيدهِ بالاعتراضِ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي إنَّ الخصلةَ من الإساءةِ أو الإحسانِ إنْ تكُ مثلاً في الصِّغرِ كحَّبةِ الخردلِ، وقرئ برفعِ مثقال على أنَّ الضَّميرَ للقصَّةِ وكانَ تامَّةٌ. والتَّانيثُ لإضافةِ المثقالِ إلى الحبَّةِ كما في قولِ مَن قالَ:
كَما شرِقتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ

أو لأنَّ المرادَ به الحسنةُ أو السيِّئةُ {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الارض} أي فتكُن مع كونِها في أقصى غاياتِ الصِّغرِ والقَماءةِ في أخفى مكانٍ وأحرزه كجوفِ الصَّخرةِ أو حيثُ كانتْ في العالمِ العُلويِّ أو السُّفليِّ {يَأْتِ بِهَا الله} أي يُحضرها ويُحاسبُ عليها {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصلُ علمُه إلى كلِّ حفيَ {خَبِيرٌ} بكُنهِه وبَعْدَ ما أمرَهُ بالتَّوحيدِ الذي هُو أولُ ما يجبُ على الإنسانِ في ضمنِ النَّهي عن الشِّركِ ونبَّهه على كمالِ علمِ الله تعالى وقدرتِه أمرَه بالصَّلاة التي هي أكملُ العباداتِ تكميلاً له من حيثُ العملُ بعد تكميلِه من حيثُ الاعتقادُ فقال مستميلاً له {يَا بَنِىَّ أَقِمِ الصلاة} تكميلاً لنفسِك {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} تكميلاً لغيرِك {واصبر على مَا أَصَابَكَ} من الشَّدائدِ والمحنِ لاسيما فيما أُمرت به {إِنَّ ذلك} إشارةٌ إلى كلِّ ما ذُكر، وما فيهِ من معنى البُعد مع قُرب العهدِ بالمشارِ إليه لما مرَّ مراراً من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الفضل {مِنْ عَزْمِ الامور} أي ممَّا عزمَهُ الله تعالى وقطَعه على عبادِه من الأمورِ لمزيدِ مزيَّتِها، مصدرٌ أُطلق على المفعولِ، وقد جُوِّز أنْ يكونَ بمعنى الفاعلِ من قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الامر} أي جدَّ والجملةُ تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ بما سبقَ من الأمرِ والنَّهي وإيذانٌ بأنَّ ما بعدها ليس بمثابتِه.

.تفسير الآيات (18- 20):

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)}
{وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ. من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ. وقرئ: {ولا تُصاعرْ}. وقرئ: {ولا تَصْعِرْ} من الإفعالِ والكلُّ بمعنى مثل عَلاَهُ وعَالاَهُ وأعَلاَهُ {وَلاَ تَمْشِ فِي الارض مَرَحًا} أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ أو مصدرُ مؤكِّدٌ لفعلِ هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه، وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا رعايةً للفواصلِ. {واقصد فِي مَشْيِكَ} بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بين الدبيبِ والإسراعِ وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ» وقولُ عائشةَ في عمرَ رضي الله عنهما: كانَ إذا مشَى أسرعَ فالمرادُ به ما فوقَ دبيبِ المتماوتِ. وقرئ بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ. {واغضض مِن صَوْتِكَ} وانقُص منه واقصُر {إِنَّ أَنكَرَ الاصوات} أي أوحشَها {لَصَوْتُ الحمير} تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ، وتمثيلِ أصواتِهم بالنُّهاقِ وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه، وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بيانَ حالِ صوتِ كلِّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ.
وقولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الارض} رجوعٌ ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبيخٌ لهم على إصرارِهم على ما هُم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ، والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمًّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكونُ كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غيرِ أن يكونَ له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً أو مَعَاداً، وإما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ من الكائناتِ مسخرةٌ لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ، وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ. وقرئ: {أصبغَ} بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقرئ: {نعمةً} {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله} في توحيدِه وصفاتِه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفادٍ من دليلٍ {وَلاَ هُدًى} من جهةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ.

.تفسير الآيات (21- 24):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لمن يجادلُ، والجمعُ باعتبار المعنى {اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} يُريدون به عبادةَ الأصنامِ {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل: فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك، أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك {إلى عَذَابِ السعير} فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه، والجملةُ في حيِّز النَّصبِ على الحاليَّةِ وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى: {أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} من سُورة البقرةِ بما لا مزيدَ عليهِ {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته، وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ. وقرئ بالتَّشديدِ. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه {وإلى الله} لا إلى أحدٍ غيرِه {عاقبة الامور} فيجازيه أحسنَ الجزاء. {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنَّه لا يضُّرك في الدُّنيا ولا في الآخرةِ. وقرئ: {فلا يُحزِنك} من أحزَن المنقولِ من حَزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} لا إلى غيرِنا {فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ. والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَن كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ {نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد أمدٍ طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق.

.تفسير الآيات (25- 29):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله} لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل: لا يعلمون أنَّ ذلك يلزمُهم {للَّهِ مَا فِي السموات والارض} فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه. {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن العالمينَ {الحميد} المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمدْهُ أحدٌ أوالمحمودُ بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ {وَلَوْ أَنَّ مَّا فِي الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو أن الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ نفاده {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمدُّه الأبحرُ السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله {مَا نَفِدَتْ كلمات الله} ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} وقرئ: {يُمدُّه} من الإمدادِ بالياء والتاءِ. وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ ومنابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً. وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يُعجزه شيءٌ {حَكِيمٌ} لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفذُ كلماتُه المؤسسةُ عليهما {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولةِ التَّأنِّي إذ لا يشغلُه شأنٌّ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يفصحُ عنه قولُه تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {إِنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ كلَّ مسموعٍ {بَصِيرٌ} يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ.
{أَلَمْ تَرَ} قيل: الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقيل: عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممّن يصلحُ للخطابِ وهو الأوفقُ لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علماً قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ {أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أنُّ إيلاجَ أحد المَلَوين في الآخرِ متجددٌ في كلِّ حينٍ، وأما تسخيرُ النَّيِّرينِ فأمرٌ لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل {كُلٌّ يَجْرِى} أي يحسبِ حركتِه الخاصَّة وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قدَّره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله: فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطرقِ الاستطرادِ، وعلى تقديرِ اختصاصِه به عليه الصَّلاة والسَّلام يجوزُ أن يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيِّز رؤيتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحدٍ المَلَوين في الآخرِ وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمتِ الرَّأسِ وذلك عند بلوغِها رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمتِ الرَّأسِ قلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطفٌ على أنَّ الله يُولج إلخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عزَّ وجلَّ محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها.