فصل: تفسير الآيات (22- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (22- 25):

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}
{وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} أي أهلُ مكةَ ولم يُصالِحوكُم، وقيلَ: حلفاءُ خيبرَ {لَوَلَّوُاْ الأدبار} مُنهزمينَ {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحرسُهم {وَلاَ نَصِيراً} ينصرُهم {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ الله غلبةَ أنبيائِه سنةً قديمةً فيمَنْ مَضَى منَ الأممِ. {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي تغييراً {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي أيديَ كُفارِ مكةَ {عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي في داخلِها {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وذلكَ (أنَّ عكرمةَ بنَ أبي جهلٍ خرجَ في خمسائةٍ إلى الحديبيةِ فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليدِ على جندٍ فهزَمَهُم حتى أدخلَهُم حيطانَ مكةَ ثم عادَ) وقيلَ: كانَ يومَ الفتحِ وبه استشهدَ أبو حنيفةَ على أنَّ مكةَ فتحتْ عنوةً لا صُلحاً. {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من مقاتَلتهم وهزمِهم أولاً والكفِّ عنهم ثانياً لتعظيمِ بيتِه الحرامِ. وقرئ بالياءِ. {بَصِيراً} فيجازيكُم بذلكَ أو يجازِيهم {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى} بالنصبِ عطفاً على الضميرِ المنصوبِ في صدُّوكم. وقرئ بالجرِّ عطفاً على المسجدِ بحذفِ المضافِ أي ونحرِ الهَدْي، وبالرفعِ على معنى وصُدَّ الهَدْيُ، وقوله تعالى: {مَعْكُوفاً} حالٌ من الهَدْي أي محبوساً.
وقولُه تعالَى: {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بدلُ اشتمالٍ من الهَدْي أو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي محبوساً من أنْ يبلغَ مكانَهُ الذي يحلُّ فيهِ نحرُه، وبه استدلَّ أبُو حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى على أنَّ المُحَصَر مَحِلُّ هديهِ الحرمُ، قالُوا بعضُ الحديبيةِ منَ الحرمِ. ورَويَ أنَّ خيامَهُ صلى الله عليه وسلم كانت في الحلِّ ومصلاَّهُ في الحرمِ. وهناكَ نحرتْ هداياهُ صلى الله عليه وسلم والمرادُ صدُّها عن محلَّها المعهودِ الذي هُو مِنىً.
{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفُوهم بأعيانِهم لاختلاطِهم وهو صفةٌ لرجالٌ ونساءٌ. وقولُه تعالى: {أَن تَطَئُوهُمْ} أي تُوقعوا بهم وتُهلِكوهُم بدلُ اشتمالٍ منهُم أو من الضميرِ المنصوبِ في تعلمُوهم {فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ} أي من جهتِهم {مَّعَرَّةٌ} أي مشقةٌ ومكروهٌ كوجوبِ الديةِ أو الكفارةِ بقتلِهم والتأسفِ عليهم وتعييرِ الكفارِ وسوءِ قالتِهم والإثمِ بالتقصيرِ في البحثِ عنهم وهي مَفْعَلةٌ من عَرَّهْ إذا عَرَاهُ ودَهَاهُ ما يكرهُهُ. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بأنْ تطؤهم أي غيرَ عالمينَ بهم وجوابُ لَولا محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليهِ، والمَعْنى لولا كراهةُ أن تُهلكُوا ناساً مؤمنينَ بين الكافرينَ غبرَ عالمينَ بهم فيصيبَكُم بذلكَ مكروهٌ لَمَا كفَّ أيديَكُم عنْهم. وقوله تعالى: {لّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ الجوابُ المحذوفُ كأنَّه قيل عَقِيبَهُ لكن كفَّها عنهُم ليُدخلَ بذلك الكفِّ المؤدِّي إلى الفتحِ بلا محذورٍ في رحمتِه الواسعةِ بقسميَها.
{مَن يَشَآء} وهم المؤمنونَ فإنَّهم كانُوا خارحينَ من الرحمةِ الدنيويةِ التي منْ جُمْلتِها الأمنُ مستضعفينَ تحت أيدِي الكفرةِ، وأما الرحمةُ الأخرويةُ فهم وإن كانُوا غيرَ محرومينَ منها بالمرةِ لكنهم كانُوا قاصرينَ في إقامةِ مراسمِ العبادةِ كما ينبغي فتوفيقُهم لإقامتِها على الوجهِ الأتمِّ إدخالٌ لهم في الرحمةِ الأخرويةِ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ من يشاءُ عبارةً عمنْ رغبَ في الإسلامِ من المشركينَ ويأباهُ قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} إلخ فإن فرضَ التنزيلِ وترتيبَ التعذيبِ عليه يقتضي تحققَ المباينةِ بين الفريقينِ بالإيمانِ والكفرِ قبلَ التزيلِ حتماً أي لو تفرقُوا وتميَّز بعضُهم من بعضٍ. وقرئ: {لو تزايلُوا} {لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} بقتلِ مقاتِلِتهم وسبيِ ذرارِيهم. والجملةُ مُستأنفةٌ مقررةٌ لما قبلَها.

.تفسير الآية رقم (26):

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}
{إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ باذكُرْ على المفعوليةِ، أو بعذَّبنَا على الظرفيةِ، وقيلَ: بمضمرٍ هو أحسنَ الله إليكم وأياً ما كان فوضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيزِ الصلةِ وتعليلِ الحكمِ بهِ. والجعلُ إمَّا بمعنى الإلقاءِ فقولُه تعالى: {فِى قُلُوبِهِمُ الحمية} أي الأنفةَ والتكبرَ متعلقٌ بهِ أو بمعنى التصييرِ فهوُ متعلقٌ بمحذوفٍ هو مفعولٌ ثانٍ له أي جعلُوها ثابتةً راسخةً في قلوبِهم {حَمِيَّةَ الجاهلية} بدلٌ من الحميةَ أي حميةٍ الملَّةِ الجاهليةِ أو الحميةَ الناشئةَ من الجاهليةِ. وقولُه تعالَى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} على الأولِ عطف على جعلَ والمرادُ تذكيرُ حسنِ صنيعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ بتوفيقِ الله تعالَى وسوءِ صنيعِ الكفرةِ وعلى الثَّانِي على ما يدلُّ عليهِ الجملةُ الامتناعيةُ كأنَّه قيلَ: لم يتزيّلوا فلمْ نعذبْ فأنزلَ إلخ. وعلى الثالثِ على المضمرِ تفسيرٌ له. والسكينةُ الثباتُ والوقارُ. يُروى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلَ الحديبيةَ بعثتْ قريشٌ سهيلَ بْنَ عمروٍ القُرشيَّ وحُويطبَ بنَ عبدِ العُزَّى ومكرزَ بنَ حفصِ بنِ الأحنفِ على أنْ يعرضُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يرجعَ من عامهِ ذلكَ عَلى أنْ تخليَ له قريشٌ مكةَ من العامِ القابلِ ثلاثةَ أيامٍ ففعلَ ذلكَ وكتبُوا بينهم كتاباً فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ لعليَ رضيَ الله عنْهُ اكتبْ بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ فقالُوا ما نعرفُ ما هَذَا اكتبْ باسمِك اللَّهم ثم قالَ اكتبُ هذا ما صالحَ عليه رسولُ الله أهلَ مكةَ فقالُوا لو كُنَّا نعلمُ أنَّك رسولُ الله ما صددناكَ عن البيتِ وما قاتلناكَ اكتُبْ هَذا ما صالحَ عليه محمدُ بن عبدِ اللَّهِ أهلَ مكةَ فقال صلى الله عليه وسلم اكتُبْ ما يُريدونَ فهمَّ المؤمنونَ أن يأْبَوا ذلكَ ويبطشُوا بهم فأنزلَ الله السكينةَ عليهم فتوقَّروا وحَلِمُوا. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} أي كلمةَ الشهادةِ، أو بسْم الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ، أو محمدُ رسولُ الله وقيلَ: كلمةُ التَّقوى هي الوفاءُ بالعهدِ والثباتُ عليهِ وإضافتُها إلى التَّقوى لأنَّها سببُ التَّقوى وأساسُها أو كلمةُ أهلِها. {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} متصفينَ بمزيدِ استحقاقٍ لَها على أنَّ صيغةَ التفصيلِ للزيادة مُطلقاً، وقيلَ أحقُّ بَها منَ الكُفارِ {وَأَهْلُهَا} أي المستأهلَ لها {وَكَانَ الله بِكُلّ شيء عَلِيماً} فيعلم حقَّ كلِّ شيءٍ فيسوقه إلى مستحقِّهِ.

.تفسير الآيات (27- 28):

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا} رَأَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ خروجِه إلى الحُديبيةِ كأنَّه وأصحابَهُ قد دخلُوا مكةَ آمنينَ وقد حلقُوا رؤوسَهُم وقصَّروا فقصَّ الرؤيا على أصحابهِ ففرحوا واستبشرُوا وحسبُوا أنَّهم داخلُوها في عامِهم فلمَّا تأخرَ ذلكَ قال عبدُ اللَّهِ بنُ أُبيَ وعبدُ اللَّهِ بن نُفيلٍ ورفاعةُ بنُ الحارثِ والله ما حلقنَا ولا قصَّرنَا ولا رأينا المسجد الحرامَ فنزلتْ أي صدَقه صلى الله عليه وسلم في رُؤياهُ كَما في قولِهم صَدَقنِي سِنُّ بَكْرِهِ وتحقيقُه أراهُ الرؤيا الصادقةَ. وقوله تعالى: {بالحق} إما صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أي صدقاً ملتبساً بالحقِّ أي بالغرضِ الصحيحِ والحكمةِ البالغةِ التي هيَ التمييزُ بين الراسخِ في الإيمانِ والمتزلزلِ فيه، أو حالٌ من الرُّؤيا أي ملتبسةً بالحقِّ ليستْ من قبيلِ أضغاثِ الأحلامِ وقد جُوِّزَ أن يكونَ قسماً بالحقِّ الذي هُو من أسماءِ الله تعالى أو بنقيضِ الباطلِ. وقولُه تعالَى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} جوابُه وهو عَلى الأولينِ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لتدخلنَّ إلخ. وقولُه تعالَى: {إِن شَاء الله} تعليقٌ للعِدَة بالمشيئةِ لتعليمِ العبادِ للإشعارِ بأنَّ بعضَهُم لا يدخلونَهُ لموتٍ أو غَيبةٍ أو غيرِ ذلكَ أو هيَ حكايةٌ لما قالَهُ ملكُ الرُّؤيا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأصحابِه {ءامِنِينَ} حالٌ من فاعلِ لتدخُلنَّ والشرطُ معترضٌ وكذا قولُه تعالَى: {مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ} أي مُحلِّقاً بعضُكم ومُقصِّراً آخرونَ، وقيلَ: مُحلِّقينَ حالٌ منْ ضميرِ آمنينَ فتكون متداخلةً {لاَ تخافون} حالٌ مؤكدةٌ من فاعلِ لتدخُلنَّ إو آمنينَ أو محلِّقينَ أو مقصِّرينَ، أو استئنافٌ أيْ لا تخافونَ بعدَ ذلكَ {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} عطفٌ على صدقَ، والمرادُ بعلمِه تعالَى العلمُ الفعليُّ المتلعقُ بأمرٍ حادثٍ بعد المعطوفِ عليه، أي فعلمَ عَقيبَ ما أراهُ الرؤيا الصادقةَ ما لم تعلمُوا منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى تقديمِ ما يشهدُ بالصدقِ علماً فعلياً {فَجَعَلَ} لأجلِه {مِن دُونِ ذَلِكَ} أي من دونِ تحققِ مصداقِ ما أراهُ من دخولِ المسجدِ الحرامِ إلخ {فَتْحاً قَرِيباً} وهُو فتحُ خيبرَ، والمرادُ بجعلِه وعدُه وإنجازُه من غير تسويفٍ ليستدل به على صدقِ الرُّؤيا حسبمَا قالَ ولتكونَ آيةً للمؤمنينَ. وأمَّا جعلُ ما في قولِه تعالى ما لم تعلمُوا عبارةً عن الحكمةِ في تأخيرِ فتحِ مكةَ إلى العامِ القابلِ كما جنحَ إليه الجمهورُ فتأباه الفاءُ فإن علمَه تعالَى بذلكَ متقدمٌ على إراءةِ الرؤيا قطعاً.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي ملتبساً به أو بسببهِ ولأجلِه {وَدِينِ الحق} وبدينِ الإسلامِ {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليُعْليه على جنسِ الدينِ بجميعِ أفرادِه التي هي الأديانُ المختلفةُ بنسخِ ما كان حقاً من بعضِ الأحكامِ المتبدلةِ بتبدلِ الأعصارِ وإظهارِ بُطلانِ ما كانَ باطلاً أو بتسليطِ المسلمينَ على أهلِ سائرِ الأديانِ إذْ مَا من أهلِ دينٍ إلا وقَد قهرهُم المسلمونَ، وفيه فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه سبحانه سيفتحُ لهم من البلادِ ويتيحُ لهم من الغلبةِ على الأقاليمِ ما يستقلُّون إليه فتحَ مكةَ {وكفى بالله شَهِيداً} على أنَّ ما وعده كائنٌ لا محالةَ أو على نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بإظهارِ المعجزاتِ.

.تفسير الآية رقم (29):

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
{مُحَمَّدٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. وقوله تعالى: {رَسُولِ الله} بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ، أيْ ذلكَ الرسولُ المرسلُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ محمدٌ رسولُ الله، وقيلَ: محمدٌ، مبتدأ، رسولُ الله خبرُهُ والجملةُ مبينةٌ للمشهودِ بهِ. وقوله تعالى: {والذين مَعَهُ} مبتدأٌ خبرُهُ {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} وأشداءُ جمعُ شديدٍ، ورحماءُ جمع رحيمٍ، والمعنى أنَّهم يُظهرونَ لمن خالفَ دينَهُم الشدةَ والصَّلابةَ ولمن وافقَهُم في الدِّينِ الرحمةَ والرأفةَ، كقولِه تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} وقرئ: {أشداءَ ورحماءَ} بالنَّصبِ على المدحِ أو على الحالِ من المستكنِّ في معه لوقوعِه صلةً فالخبرُ حينئذٍ قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} أي تشاهدُهم حالَ كونِهم راكعينَ ساجدينَ لمواظبتِهم على الصَّلواتِ، وهُو على الأولِ خبرٌ آخرُ، أو استئنافٌ. وقولُه تعالَى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً} أي ثواباً ورضاً إما خبرٌ آخرُ، أو حالٌ من ضميرِ تراهُم أو من المستترِ في ر كَّعاً سُجَّداً أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من بيانِ مواظبتِهم على الركوعِ والسجودِ كأنَّه قيلَ ماذَا يردونَ بذلكَ فقيلَ يبتغُون فضلاً من الله إلخ {سيماهم} أي سَمْتُهم. وقرئ: {سيماؤُهم} بالياءِ بعد الميمِ والمدِّ وهما لغتانِ، وفيها لغةٌ ثالثةٌ هي السيماءُ بالمدِّ وهُو مبتدأٌ خبرُهُ {فِى وُجُوهِهِمْ} أيْ في جِبَاهِهم. وقوله تعالى: {مّنْ أَثَرِ السجود} حالٌ من المستكنِّ في الجارِّ أي من التأثيرِ الذي يُؤثره كثرةُ السجودِ وما رُويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «لا تقلبوا صورَكم» أي لا تَسِمُوها إنَّما هُو فيما إذا اعتمدَ بجبهته على الأرضِ ليحدثَ فيها تلكَ السمةَ وذلك محضُ رياءٍ ونفاقٍ والكلامُ فيما حدثَ في جبهةِ السَّجَّادِ الذي لا يسجدُ إلا خالصاً لوجهِ الله عزَّ وجلَّ وكان الإمامُ زينُ العابدينَ وعليٌّ بنُ عبد اللَّهِ بنِ العباسِ رضيَ الله عنهُمَا يقالُ لهما ذُو الثفناتِ لما أحدثتْ كثرةُ سجودِهما في مواقعهِ منهما أشباهَ ثفناتِ البعيرِ قالَ قائلُهم:
دِيارُ عَليَ والحُسينِ وجَعْفر ** وَحمزةَ والسَّجَّادِ ذِي الثَّفِنَاتِ

وقيلَ: صفرةُ الوجهِ من خشيةِ الله تعالى وقيلَ: نَدى الطَّهورِ وترابُ الأرضِ، وقيل: استنارةُ وجوهِهم من طولِ ما صلَّوا بالليلِ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «من كثرُتْ صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهارِ» وقرئ: {من آثارِ السجودِ}، و{من إِثْرِ السجودِ} بكسرِ الهمزةِ {ذلك} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من نعوتِهم الجليلةِ وما فيه من مَعْنى البعدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ شأنِه وبُعد منزلتِه في الفضلِ وهو مبتدأٌ خبرُهُ قوله تعالى: {مّثْلُهُمْ} أي وصفُهم العجيبُ الشأنِ الجارِي في الغرابةِ مَجْرى الأمثالِ. وقوله تعالى: {فِي التوراة} حالٌ من مثلُهم والعاملُ مَعْنى الإشارةِ.
وقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} عطفٌ على مثلُهم الأولِ كأنَّه قيلَ: ذلكَ مثلُهم في التوراةِ والإنجيلِ، وتكريرُ مثلُهم لتأكيدِ غرابتهِ وزيادةِ تقريرِها. وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} إلخ تمثيلٌ مستأنفٌ أي هُم كزرعٍ أخرجَ فراخَهُ وقيل: هو تفسيرٌ لذلك على أنه إشارةٌ مبهمةٌ وقيل: خبرٌ لقولِه تعالى ومثلُهم في الإنجيلِ على أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى مثلُهم في التوراةِ وقرئ: {شَطَأه} بفتحات. وقرئ: {شَطَاه} بفتح الطاء وتخفيف الهمزة و{شَطَاءَهُ} بالمدِّ و{شَطَه} بحذفِ الهمزةِ ونقل حركتِها إلى ما قبلَها و{شَطْوَه} بقلبِها واواً {فَازَرَهُ} فقوَّاهُ مِن المؤازرةِ بمعنى المعاونةِ أو من الإيزارِ وهي الإعانةُ وقرئ: {فأزَرَه} بالتخفيف و{أَزَّرهُ} بالتشديدِ أي شدَّ أزْرَهُ. وقوله تعالى: {فاستغلظ} فصارَ غليظاً بعد ما كانَ دقيقاً {فاستوى على سُوقِهِ} فاستقامَ على قَصَبهِ جمع ساقٍ وقرئ: {سُؤقهِ} بالهمزةِ.
{يُعْجِبُ الزراع} بقوتِه وكثافتِه وغلظِه وحسنِ منظرِه وهو مثلٌ ضربَهُ الله عزَّ وجلَّ لأصحابهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قلُّوا في بدءِ الإسلامِ ثم كثروا واستحكمُوا فترقَّى أمرُهم يوماً فيوماً بحيثُ أعجبَ الناسَ وَقيلَ: مكتوبٌ في الإنجيلِ سيخرُجُ قومٌ ينبُتون نباتَ الزرعِ يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ. وقولُه تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} علةٌ لما يعربُ عنه الكلامُ من تشبيههم بالزرعِ في زكائِه واستحكامِه أو لما بعده من قولِه تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فإنَّ الكفارَ إذا سمعُوا بما أُعدَّ للمؤمنينَ في الآخرةِ مع ما لهُم في الدُّنيا من العزةِ غاظَهُم ذلكَ أشدَّ غيظٍ ومنُهم للبيانِ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرأَ سُورةَ الفتحِ فكأنَّما كانَ ممَّن شهدَ معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فتحَ مكةَ».