فصل: تفسير الآيات (33- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (20- 26):

{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)}
{فَأَصْبَحَتْ كالصريم} كالبستانِ الذي صُرمتْ ثمارُه بحيثُ لم يبقَ منها شيءٌ، فعيلٌ بمَعْنَى مفعولٍ، وقيلَ كالليلِ أي احترقتْ فاسودَّتْ، وقيلَ كالنَّهارِ أي يبستْ وابيضتْ، سُمِّيا بذلكَ لأنَّ كلاً منهُما ينصرمُ عن صاحبِهِ، وقيلَ الصَّريمُ الرمالُ {فَتَنَادَوْاْ} أي نادَى بعضُهُم بعضاً {مُّصْبِحِينَ} داخلينَ في الصباحِ {أَنِ اغدوا} أي اغدُوا على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأنِ اغدُوا على أنَّها مصدريةٌ أي اخرجُوا غُدوةً {على حَرْثِكُمْ} بستانِكُم وضَيعتِكُم، وتعديةُ الغدوِّ بعَلَى لتضمينِه مَعْنَى الإقبالِ أو الاستيلاءِ {إِن كُنتُمْ صارمين} قاصدينَ للصَّرمِ {فانطلقوا وَهُمْ يتخافتون} أي يتشاورُون فيما بينَهُم بطريقِ المُخافتةِ وخَفيَ وخَفتَ وخَفَدَ ثلاثتُهَا في مَعْنَى الكتمِ ومنْهُ الخُفْدودُ للخُفَّاشِ {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أي الجنةَ {اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ} أنْ مفسرةٌ لما في التخافتِ من مَعْنَى القولِ. وقرئ بطرحِهَا على إضمارِ القولِ والمرادُ بنهيِ المسكينِ عن الدخولِ المبالغةُ في النهيِ عن تمكينِه من الدخولِ كقولِهِم لا أرينَّكَ هاهنا {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قادرين} أي على نكدٍ لا غيرِ من حاردتِ السَّنةُ إذَا لم يكُنْ فيها مطرٌ وحاردتِ الإبلُ إذا منعتْ دَرَّهَا، والمَعْنَى أنَّهم أرادُوا أنْ يتنكدُوا على المساكينِ ويحرمُوهُم وهم قادرونَ على نفعِهِم فغَدوا بحالٍ لا يقدرونَ فيها إلا على النكدِ والحرمانِ وذلكَ أنَّهُم طلبُوا حرمانَ المساكينِ فتعجلُوا الحرمانَ والمسكنَةَ أوْ وغَدَوا على مُحاردةِ جَنَّتِهِم وذهابِ خيرِهَا قادرينَ بدلَ كونِهِم قادرينَ على إصابةِ خيرِهَا ومنافِعِهَا أي غَدَوا حاصلينَ على النكدِ والحرمانِ مكانَ كونِهِم قادرينَ على الانتفاعِ، وقيلَ الحردِ الحردِ وقدْ قرئ بذلكَ أي لم يقدرُوا إلا على حنقِ بعضِهِم لبعضٍ لقولِه تعالَى: {يتلاومون} وقيل الحرْدُ القصدُ والسرعةُ أي غَدَوا قاصدينَ إلى جنتهِم بسرعةٍ قادرينَ عند أنفسِهِم على صِرامِهَا وقيلَ هو علمٌ للجنةِ.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ} في بديهةِ رؤيتِهِم {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي طريقَ جنتِنَا وما هيَ بهَا.

.تفسير الآيات (27- 32):

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)}
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قالُوه بعد ما تأملُوا ووفقُوا على حقيقةِ الأمرِ مُضربينَ عن قولِهِم الأولِ، أي لسنا ضالينَ بل نحنُ محرومونَ حُرِمنَا خيرَهَا بجنايتِنَا على أنفسِنَا {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي رأياً أو سِناً {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ} لولا تذكرونَ الله تعالَى وتتوبونَ إليهِ من خُبثِ نيتِكُم وقد كانَ قالَ لهم حينَ عزمُوا على ذلكَ اذكرُوا الله وتوبُوا إليهِ عن هذهِ العزيمةِ الخبيثةِ من فورِكُم وسارِعُوا إلى حسمِ شرِّها قبلَ حُلولِ النقمةِ فعَصُوه فعيَّرهُم، كمَا ينبىءُ عنهُ قولُه تعالَى: {قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الاستثناءُ لاشتراكهِما في التعظيمِ أو لأنَّه تنزيهٌ لهُ تعالَى عن أنْ يجريَ في ملكِهِ ما لا يشاؤُه {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون} أي يلومُ بعضُهم بعضاً فإنَّ منهُم مَن أشارَ بذلكَ ومنهُم من استصوبَهُ ومنهُم من سكتَ راضياً بهِ ومنهُم من أنكرَهُ {قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين} متجاوزينَ حدودَ الله {عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا} وقرئ بالتشديدِ أي يُعطينا بدلاً منها ببركةِ التوبةِ والاعترافِ بالخطيئةِ. {خَيْراً مّنْهَا إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون} راجونَ العفوَ طالبونَ الخيرَ. وإلى لانتهاءِ الرغبةِ، أو لضمنِهَا مَعْنَى الرجوعِ. عن مُجَاهدٍ تابوا فأُبدِلُوا خَيراً منهَا، ورُويَ أنَّهم تعاقَدُوا وقالُوا إنْ أبدلنَا الله خيراً منها لنصنعنَّ كما صنعَ أبُونا فدَعَوا الله تعالَى وتضرعُوا إليهِ فأبدَلهُم الله تعالَى من ليلتِهِم ما هو خيرٌ منها، قالُوا إنَّ الله تعالَى أمرَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ أنْ يقتلعَ تلكَ الجنةَ المحترقةَ فيجعلَهَا بِزُغَرَ من أرضِ الشامِ ويأخذَ من الشامِ جنةً فيجعلَهَا مكانَهَا، وقالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله تعالَى عنهُ إنَّ القومَ لمَّا أخلصُوا وعرفَ الله منهُم الصدقَ أبدلَهُم جنةً يقالُ لها الحيوانُ فيها عنبٌ يحملُ البغلُ منهُ عُنقوداً وقالَ أبُو خالدٍ اليمانيُّ دخلتُ تلكَ الجنَّةَ فرأيتُ كلَّ عنقودٍ منهَا كالرجلِ الأسودِ القائمِ. وسُئِلَ قَتَادَةُ عن أصحابِ الجنَّةِ أهُم مِنْ أهلِ الجنَّةِ أم مِنْ أهلِ النارِ فقالَ: لقد كلفتني تعباً. وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله تعالَى: قولُ أصحابِ الجنةِ إنَّا إلى ربِّنا راغبون لا أدرِي إيماناً كانَ ذلكَ منهُم أو على حدِّ ما يكونُ من المشركينَ إذا أصابتْهُم الشدةُ، فتوقفَ في أمرِهِم، والأكثرونَ على أنَّهُم تابُوا وأخلصُوا، حكاهُ القُشَيريٌّ.

.تفسير الآيات (33- 39):

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)}
{كَذَلِكَ العذاب} جملةٌ منْ مبتدأٍ وخبرٍ مُقدمٍ لإفادةِ القصرِ، والألفُ واللامُ للعهدِ أي مثلُ الذي بلونَا بهِ أهلَ مكةَ وأصحابَ الجنةِ عذابُ الدنيَا. {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} أعظمُ وأشدُّ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أنَّه أكبرُ لاحترَزُوا عمَّا يؤدِّيهِم إليهِ {إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ} أي منَ الكفرِ والمَعَاصِي {عِندَ رَبّهِمْ} أي في الآخرةِ أو في جوارِ القُدسِ {جنات النعيم} جناتٍ ليسَ فيها إلا التنعمُ الخالصُ عن شائبةِ ما يُنغّصهُ من الكدوراتِ وخوفِ الزوالِ كما عليهِ نعيمُ الدُّنيا. وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} تقريرٌ لما قبلَهُ من فوزِ المُتقينَ بجنَّاتٍ النعيمِ، وردٌّ لما يقولَهُ الكفرةُ عند سماعِهِم بحديثِ الآخرةِ وما وعدَ الله المسلمينَ فيهَا فإنهم كانُوا يقولونَ إنْ صحَّ أنا نُبعثُ كما يزعمُ محمدٌ ومَنْ معَهُ لم يكُنْ حالُنَا وحالُهُم إلا مثلَ ما هيَ في الدّنيا وإلا لم يزيدُوا علينَا ولم يفضلونَا وأقصى أمرِهِم أنْ يساوونَا. والهمزَةُ للإنكارِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أنحيفُ في الحكمِ فنجعلَ المسلمينَ كالكافرينَ ثم قيلَ لهُم بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ الردِّ وتشديدِه {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تعجيباً من حُكمِهِم واستبعاداً له وإيذاناً بأنَّه لا يصدرُ عن عاقلٍ {أَمْ لَكُمْ كتاب} نازلٌ من السماءِ {فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي تقرأونَ {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي ما تتخيرونَهُ وتشتهونَهُ، وأصلُهُ أنَّ لكُم بالفتحِ لأنَّهُ مدروسٌ فلمَّا جِيءَ باللامِ كُسرتْ ويجوزُ أنْ يكونَ حكايةً للمدروسِ كما هُو كقولِهِ تعالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين * سلام على نُوحٍ فِي العالمين} وتخيرُ الشيءِ واختيارُهُ أخذُ خيرِهِ {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أي عهودٌ مؤكدةٌ بالأيمانِ {بالغة} متناهيةٌ في التوكيدِ. وقُرِئتْ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ فيها أحدُ الظرفينِ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بالمقدرِ في لكم أي ثابتةٌ لكُم إلى يومِ القيامةِ لا نخرجُ عن عُهدتِهَا حتى نحكمكم يومئذٍ ونعطيكُم ما تحكمونَ أو ببالغةٍ أي أيمانٌ تبلغُ ذلكَ اليومَ وتنتهِي إليهِ وافرةً لم تبطُلْ منها يمينٌ. {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابُ القسمِ، لأنَّ معنَى أمْ لكُم علينَا أيمانٌ أمْ أقسمنَا لكُم.

.تفسير الآيات (40- 44):

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)}
{سَلْهُمْ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطِهِم عن رُتبةِ الخطابِ أي سلهُم مُبكتاً لهُمْ. {أَيُّهُم بذلك} الحكمِ الخارجِ عن العقولِ {زَعِيمٌ} أي قائمٌ يتصدَّى لتصحيحِه {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} يشاركونهم في هَذا القولِ ويذهبونَ مذهبَهُم. {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين} في دعواهُم إذْ لا أقلَّ من التقليدِ، وقد نبَّه في هذِه الآياتِ الكريمةِ على أنْ ليسَ لهُم شيءٌ يُتوهمُ أنْ يتشبثُوا بهِ حتَّى التقليدُ الذي لا يُفلِحُ من تشبثَ بذيلِه، وقيلَ المَعْنَى أمْ لهُم شركاءُ يجعلونَهُم مثلَ المسلمينَ في الآخرةِ. {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} أي يومَ يشتدُّ الأمرُ ويصعبُ الخطبُ، وكشفُ الساقِ مَثَلٌ في ذلكَ وأصلُهُ تشميرُ المُخدَّراتِ عن سُوقهِنَّ في الهربِ، قالَ حاتمٌ:
أخُو الحربِ إنْ عضَّتْ بهِ الحربُ عَضَّها ** وإنْ شمَّرتْ عنْ ساقِهَا الحربُ شَمَّرا

وقيلَ ساقُ الشيءِ أصلُهُ الذي بهِ قوامُه كساقِ الشجرِ وساقِ الإنسانِ، أيْ يومَ يُكشفُ عن أصلِ الأمرِ فتظهرُ حقائقُ الأمورِ وأصولُهَا بحيثُ تصيرُ عياناً، وتنكيرُهُ للتهويلِ أو التعظيمِ. وقرئ: {تَكْشِفُ} بالتاءِ على البناءِ للفاعلِ والمفعولِ، والفعلُ للساعةِ أو الحالِ، وقرئ: {نَكْشِفُ} بالنونِ وتُكْشِفُ بالتاءِ المضمومةِ وكسرِ الشِّينِ من أكشفَ الأمرُ أي دخلَ في الكشفِ. وناصبُ الظرفِ فليأتُوا، أو مضمرٍ مقدمٍ أي اذْكُر يومَ الخ. أو مؤخرٍ أي يومَ يكشفُ عن ساقٍ الخ. يكونُ من الأهوالِ وعظائمِ الأحوالِ ما لا يبلغُه الوصفُ {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود} توبيخاً وتعنيفاً على تركهِم إيَّاهُ في الدُّنيا وتحسيراً لهُم على تفريطِهِم في ذلكَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} لزوالِ القدرةِ عليهِ، وفيهِ دلالةٌ على أنَّهُم يقصدونَ السجودَ فلا يتأتَّى منهُم ذلكَ. عنِ ابنِ مسعُودٍ رضيَ الله عنْهُ تعقمُ أصلابُهُم أي تُردُّ عظاماً بلا تفاصلٍ لا تنثني عندَ الرَّفعِ والخفضِ. وفي الحديثِ وتبقَى أصلابُهُم طَبقاً واحِداً أي فَقارةٌ واحدةٌ {خاشعة أبصارهم} حالٌ من مرفوعِ يُدعونَ، على أنَّ أبصارَهُم مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ، ونسبةُ الخشوعِ إلى الأبصارِ لظهورِ أثرِهِ فيهَا {تَرْهَقُهُمْ} تلحقُهُم وتغشاهُم {ذِلَّةٌ} شديدةٌ {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود} في الدُّنيا. والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ، أو لأنَّ المرادَ بهِ الصلاةُ أو ما فيها من السجودِ والدعوةُ دعوةُ التكليفِ. {وَهُمْ سالمون} متمكنُونَ منْهُ أقوَى تمكنٍ، أي فلا يُجيبونَ إليهِ ويأبَونَهُ وإنَّما تُركَ ذكرُه ثقةً بظهورِهِ.
{فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بهذا الحديث} أي كِلْهُ إليَّ فإِنِّي أكفيكَ أمرَهُ، أيْ حسبُكَ في الإيقاعِ بهِ والانتقام منهُ أنْ تَكِلَ امرَهُ إليَّ وتُخلِّي بينِي وبينَهُ، فإنِّي عالمٌ بمَا يستحقُّه من العذابِ، ومطيقٌ لهُ. والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما قبلَهَا من أحوالِهِم المحكيةِ أيْ وإذَا كانِ حالُهُم في الآخرةِ كذلكَ فذرنِي ومن يكذِّبُ بهذا القرآنِ، وتوكلْ عليَّ في الانتقامِ منْهُ. وقولُه تعالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيةِ التعذيبِ المُستفادِ من الأمرِ السابقِ إجمالاً، والضميرُ لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أنَّ الإفرادَ في يكذِّبُ باعتبارِ لفظِهَا أي سنستنزِلُهُم إلى العذابِ درجةً فدرجةً بالإحسانِ وإدامةِ الصحةِ وازديادِ النعمةِ. {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه استدراجٌ وهو الإنعامُ عليهِم بلْ يزعمونَ أنه إيثارٌ لهُم وتفضيلٌ على المؤمنينَ مع أنَّهُ سببٌ لهلاكِهِم.

.تفسير الآيات (45- 50):

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)}
{وَأُمْلِى لَهُمْ} وأُمْهِلُهُم ليزدادُوا إِثماً وهم يزعمونَ أنَّ ذلكَ لإرادةِ الخيرِ بهِم. {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} لا يُوقفُ عليهِ ولا يُدفعُ بشيءٍ، وتسميةُ ذلكَ كيداً لكونِهِ في صورةِ الكيدِ {أَمْ تَسْئَلُهُمْ} على الإبلاغِ والإرشادِ {أَجْراً} دنيوياً {فَهُمُ} لأجلِ ذلكَ {مّن مَّغْرَمٍ} أي غرامةٍ ماليةٍ {مُّثْقَلُونَ} مكلفونَ حملاً ثقيلاً فيُعرضونَ عنْكَ {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوحُ أو المغيباتُ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منْهُ ما يحكمُون ويستغنُونَ بهِ عن علمِكَ {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} وهو إمهالُهُم وتأخيرُ نصرتِكَ عليهِم {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} أي يونسُ عليهِ السَّلامُ {إِذْ نادى} في بطنِ الحوتِ {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوءٌ غيظاً، والجملةُ حالٌ من ضميرِ نادَى وعليها يدورُ النَّهي على النداءِ فإنه أمرٌ مستحسنٌ ولذلكَ لم يُذكرِ المُنادَى وإذْ منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ أي لا يكُن حالُك كحالِه وقتَ ندائِهِ أي لا يُوجدُ منكَ ما وُجدَ منْهُ من الضجرِ والمُغاضبةِ فتبتلى ببلائِهِ.
{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ} وقرئ: {رحمةٌ} وهُو توفيقُهُ للتوبةِ وقبولُهَا منْهُ، وحسُنَ تذكيرُ الفعلِ للفصلِ بالضميرِ، وقرئ: {تداركتْهُ} و{تَداركُهُ} أي تتداركهُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ بمَعْنَى لولا أنْ كانَ يقالُ فيهِ تتداركه. {لَنُبِذَ بالعراء} بالأرضِ الخاليةِ من الأشجارِ {وَهُوَ مَذْمُومٌ} مُليمٌ مطرودٌ من الرحمةِ والكرامةِ، وهو حالٌ من مرفوعِ نُبذَ عليهَا يعتمدُ جوابُ لولا لأنَّها هي المنفيةُ لا النبذُ بالعراءِ كما مرَّ في الحالِ الأُولى، والجملةُ الشرطيةُ استئنافٌ، وإنْ لبيانِ كونِ المنهيِّ عنْهُ أمراً محذوراً مستتبعاً للغائلةِ. وقولُهُ تعالَى: {فاجتباه رَبُّهُ} عطفٌ على مقدرٍ أي فتداركتْهُ نعمةٌ من ربِّه فاجتباهُ بأنْ ردَّ إليهِ الوحيَ، وأرسلَهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ، وقيل استنبأَهُ إنْ صحَّ أنَّه لم يكُنْ نبياً قبلَ هذهِ الواقعةِ {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} من الكاملينَ في الصلاحِ بأنْ عصمَهُ منْ أنْ يفعلَ فعلاً يكونُ تركُهُ أَوْلَى. رُوِيَ أنَّها نزلتْ بأُحُدٍ حينَ همَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ على المنهزمينَ من المؤمنينَ، وقيلَ حينَ أرادَ أنْ يدعوَ على ثقيفٍ.

.تفسير الآيات (51- 52):

{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}
{وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} وقرئ: {ليَزلقونَكَ} بفتحِ الياءِ من زَلَقه بمعنى أَزْلَقه ويُزهقونَكَ. وإنْ هيَ المخففةُ واللامُ دليلُهَا والمَعْنَى أنَّهم من شدَّةِ عداوتِهِم لكَ ينظرونَ إليكَ شَزْراً بحيثُ يكادونَ يُزلّونَ قدمكَ فيرمونكَ، من قولِهِم نظراً يكادُ يصرعُنِي، أي لو أمكنَهُ بنظرِهِ الصرعُ لفعلَهُ أو أنَّهُم يكادونَ يُصيبونَكَ بالعينِ إذ قَد رُوِي أنَّهُ كانَ في بني أسدٍ عيَّانونَ فأرادَ بعضُهُم أن يعينَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ. وفي الحديثِ «إنَّ العينَ لتُدخلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القدرَ» ولعله من خصائصِ بعضِ النفوسِ، وعن الحسنِ. دواءُ الإصابةِ بالعينِ أنْ تقرأَ هَذِه الآية: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} أي وقتَ سماعِهِم بالقرآنِ على أنَّ لمَّا ظرفيةٌ منصوبةٌ بيُزلقونَكَ وذلكَ لاشتدادِ بُغضِهِم وحسدِهِم عندَ سماعِهِ. {وَيَقُولُونَ} لغايةِ حيرتِهِم في أمرِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونهايةِ جهلِهِم بمَا في تضاعيفِ القرآنِ من تعاجيبِ الحِكَمِ وبدائعِ العلومِ المحجوبةِ عن العقولِ المُنغمسةِ بأحكامِ الطبائعِ ولتنفيرِ النَّاسِ عنْهُ {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} وحيثُ كانُ مدارُ حُكمِهِم الباطلِ ما سمعُوه منهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ردَّ ذلكَ ببيانِ عُلوِّ شأنةِ وسطوعِ بُرهانِهِ فقيلِ: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ} على أنَّه حالٌ من فاعل يقولونَ مفيذةٌ لغايةِ بُطلانِ قولِهِم وتعجيبِ السامعينَ من جرأتِهِم على تفوهِ تلكَ العظيمةِ أي يقولونَ ذلكَ والحالُ أنَّه ذكرٌ للعالمينَ، أي تذكيرٌ وبيانٌ لجميعِ ما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهِم فأينَ مَنْ أنزلَ عليهِ ذلكَ وهو مُطلعٌ على أسرارِهِ طُرَّاً ومحيطٌ بجميعِ حقائِقِه خُبراً ممَّا قالُوا، وقيلَ معناهُ شرفٌ وفضلٌ، لقولِهِ تعالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} وقيلَ الضميرُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكونُه مذكِراً وشرفاً للعالمينَ لا ريبَ فيهِ.
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سُورةَ القلمِ أعطاهُ الله ثوابَ الذينَ حسَّن الله أخلاقَهُم».