فصل: تفسير الآيات (34- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (34- 36):

{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}
{وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله} بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم، أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالُهم ذلك، ومِنْ صدّهم عنه إلجاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون: نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه لا ولايةَ لهم عليه، وفيه إشعارٌ بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند، وقيل: أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت} أي دعاؤهم أو مايسمونه صلاةً أو ما يضعون موضعها {إِلاَّ مُكَاءً} أي صفيراً فُعال من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبُكى {وَتَصْدِيَةً} أي تصفيقاً، تفعِلةً من الصَّدَى أو من الصدّ على إبدال أحدِ حرفي التضعيف بالياء، وقرئ {صلاتَهم} بالنصب على أنه الخبرُ لكان، ومساقُ الكلام لتقرير استحقاقِهم العذابَ أو عدمِ ولايتِهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاتُه. رُوي أنهم كانوا يطوفون عراةً الرجالُ والنساء مشبكين بين أصابعِهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل: كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلِطون عليه ويُرَون أنهم يصلون أيضاً {فَذُوقُواْ العذاب} أي القتلَ والأسرَ يوم بدرٍ وقيل: عذابَ الآخرة، واللامُ يحتمل أن تكون للعهد والمعهودُ ائتنا بعذاب أليم {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} اعتقاداً وعملاً.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً من قريش يُطعم واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقيةً أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم: أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله {فَسَيُنفِقُونَهَا} بتمامها، ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ، والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ، ويحتمل أن يُرادَ بهما واحدٌ على مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصودِ، جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالاً قبل ذلك {والذين كَفَرُواْ} أي تموا على الكفر وأصروا عليه {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها.

.تفسير الآيات (37- 40):

{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} أي الكافر من المؤمن، أو الفسادَ من الصلاح واللامُ متعلقةٌ بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوته صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نُصرته واللامُ متعلقةٌ بقوله: ثم تكون عليهم حسرةً وقرئ {ليُميِّز} بالتشديد {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يضم بعضَه إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامِهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابَه كما للكافرين {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} كلَّه.
{أولئك} إشارةٌ إلى الخبيث إذ هو عبارةٌ عن الفريق أو إلى المنفقين، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِهم في الخبث {هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران لأنهم خسِروا أنفسَهم وأموالَهم.
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} هم أبو سفيانَ وأصحابُه أي قل لأجلهم {إِن يَنتَهُواْ} عما هم فيه من معاداة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من الذنوب وقرئ {إن تنتهوا يُغفرْ لكم} ويَغفِرْ لكم على البناء للفاعل وهو الله تعالى {وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتالهم {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} الذين تحزّبوا على الأنبياء عليهم السلام بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثلَ ذلك {وقاتلوهم} عطف على قل، وقد عُمّم الخطابُ لزيادة ترغيبِ المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قولُه تعالى: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} من الوعيد {حتى لاَ تَكُونَ فتناه} أي لا يوجَدَ منهم شركٌ {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} وتضمحِلَّ الأديانُ الباطلةُ إما بإهلاك أهلِها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر بقتالكم {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامِهم، وقرئ بتاء الخطاب أي {بما تعملون} من الجهاد المُخرِجِ لهم إلى الإسلام، وتعليقُه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشِرون بالمباشرة {وَإِن تَوَلَّوْاْ} ولم ينتهوا عن ذلك {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} ناصرُكم فثِقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم {نِعْمَ المولى} لا يَضيعُ مَنْ تولاه {وَنِعْمَ النصير} لا يُغلب مَنْ نصره.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} عن الكلبي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي: كان الخُمسُ في غزوة بني قينُقاع بعد بدر بشهر وثلاثةِ أيامٍ للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وما موصولةٌ وعائدُها محذوفٌ أي الذي أصبتموه من الكفار عُنوةً وأصلُ الغنيمة إصابةُ الغَنَم من العدو ثم اتُسع وأُطلق على كل ما أصيب منهم كائناً ما كان، وقوله تعالى: {مِن شَىْء} بيانٌ للموصول محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من عائد الموصول قصد به الاعتناءُ بشأن الغنيمة وأن لا يشِذّ عنها شيءٌ أي ما غنِمتموه كائناً مما يقع عليه اسمُ الشيءِ حتى الخيطُ والمَخيطُ خلا أن سلَبَ المقتولِ للقاتل إذا نفّله الإمامُ وأن الأسارى يُخيَّر فيها الإمامُ وكذا الأراضي المغنومةُ، وقوله تعالى: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي فحقٌّ أو واجب أن له تعالى خُمسَه، وهذه الجملةُ خبرٌ لأنما إلخ وقرئ بالكسر والأوُلى آكَدُ وأقوى في الأيجاب لِما فيه من تكرر الإسنادِ كأنه قيل: فلابد من ثبات الخُمس ولا سبيل إلى الإخلال به، وقرئ {فلله خُمسُه} وقرئ {خمْسَه} بسكون الميم والجمهورُ على أن ذكرَ الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وأن المرادَ قسمةُ الخُمس على المعطوفِين عليه بقوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وإعادةُ اللامِ في ذي القربى دون غيرِهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهُّمِ اشتراكِهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالِهم به عليه الصلاة والسلام وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب دون بني عبدِ شمس وبني نَوْفل لما روي عن عثمانَ وجبير بنِ مطعمٍ رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء إخوتُك بنو هاشم لا نُنكر فضلَهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيتَ إخوانَنا بني المطلب أعطيتَهم وحرمتنَا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشمٍ وبنو المطلب شيءٌ واحد وشبّك بين أصابعِه» وكيفيةُ قسمِتها عندنا أنها كانت في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، سهمٌ له عليه الصلاة والسلام وسهمٌ للمذكورين من ذوي قرباه، وثلاثةُ أسهمٍ للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى الله عليه وسلم فسهمُه ساقطٌ وكذا سهمُ ذوي القُربى وإنما يعطَوْن لفقرهم فهم أسوةٌ لسائر الفقراء ولا يُعطي أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة، ويؤيده ما رُوي عن أبي بكر رضى الله عنه أنه منع بني هاشمٍ الخمسَ وقال: إنما لكم أن يُعطى فقيرُكم وتُزوَّجَ أيِّمُكم ويخدَمَ من لا خادم له منكم. ومن عداهم فهو بمنزلة ابنِ السبيل الغني لا يعطى من الصدقة شيئاً وعن زيد بن علي مثلُه قال: ليس بنا أن نبنيَ منه قصورا ولا نركَب منه البراذينَ وقيل: سهمُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لوليّ الأمرِ بعده، وأما عند الشافعيِّ رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم: سهمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف إلى ما كان يصرِفه عليه الصلاة والسلام من مصالح المسلمين كعُدّة الغُزاة من الكُراعِ والسلاح ونحوِ ذلك، وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائِهم يُقسم بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين والباقي للفِرَق الثلاث، وعند مالك رحمه الله الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى اجتهاد الإمامِ إن رأى قسمَه بين هؤلاءِ وإن رأى أعطاه بعضاً منهم دون بعض وإن رأى غيرَهم أولى وأهمَّ فغيرُهم.
وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال: يُقسم ستةَ أسهمٍ ويُصرف سهمُ الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضةً فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسِمُ ما بقيَ على خمسة أسهمٍ» وقيل: سهمُ الله لبيت المال وقيل: هو مضمومٌ إلى سهم الرسولِ عليه الصلاة والسلام هذا شأنُ الخمسِ وأما الأخماسُ الأربعةُ فتقسم بين الغانمين للراجل سهمٌ وللفارس سهمان عند أبي حنيفة رضى الله عنه وثلاثةُ أسهم عندهما رحمهما الله. قال القرطبيُّ: لما بين الله تعالى حكمَ الخمسِ وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ} متعلق بمحذوف ينبىء عنه المذكورُ أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمسَ من الغنيمة يجب التقربُ به إلى الله فاقطعوا أطماعَكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المرادُ به مجردَ العلم بذلك بل العلمَ المشفوعَ بالعمل والطاعةِ لأمره تعالى.
{وَمَا أَنزَلْنَا} عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه {على عَبْدِنَا} وقرئ {عُبُدِنا} وهو اسمُ جمعٍ أريد به الرسولُ عليه الصلاة والسلام والمؤمنون فإن بعضَ ما نزل نازلٌ عليهم بالذات كما ستعرفه {يَوْمَ الفرقان} يوم بدرٍ سمي به لفَرْقه بين الحقِّ والباطل، وهو منصوبٌ بأنزلنا أو بآمنتم {يَوْمَ التقى الجمعان} أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدلٌ من {يومَ الفرقان} أو منصوبٌ بالفرُقان، والمرادُ ما أُنزل عليه عليه الصلاة والسلام يومئذٍ من الوحي والملائكةِ والفتحِ، على أن المرادَ بالإنزال مجردُ الإيصالِ والتيسير فينتظم الكلَّ انتظاماً حقيقياً، وجعلُ الإيمانِ بإنزال هذه الأشياءِ من موجبات العلم بكون الخُمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحيَ ناطقٌ بذلك وأن الملائكةَ والفتحَ لمّا كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفةً إلى الجهات التي عينها الله تعالى {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يقدِر على نصر القليلِ على الكثير والذليلِ على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم.

.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}
{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بدلٌ ثانٍ من {يومَ الفرقان} والعُدوةُ بالضم شطُّ الوادي وكذا بالفتح والكسر وقد قرئ بهما أيضاً {وَهُم بالعدوة القصوى} أي البُعدى من المدينة وهي تأنيثُ الأقصى وكان القياسُ قلبَ الواوِ ياءً كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو، لكنها جاءت على الأصل كالقود واستُصوب وهو أكثرُ استعمالاً من القُصيا {والركب} أي العِيرُ أو قُوّادُها {أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي في مكانٍ أسفلَ من مكانكم يعني الساحلَ وهو نصبٌ على الظرفية واقعٌ موقعَ الخبر والجملةُ حالٌ من الظرف قبله وفائدتُها للدلالة على قوة العدو واستظهارِهم بالركب وحِرصِهم على المقاتلة عنها وتوطينِ نفوسِهم على أن لا يُخْلوا مراكزَهم ويبذُلوا منتهى جهدِهم وضعفِ شأن المسلمين والتياثِ أمرِهم واستبعادِ غَلَبتِهم عادةً وكذا ذكرُ مراكزِ الفريقين، فإن العُدوةَ الدنيا كانت رِخوةً تسوخُ فيها الأرجلُ ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماءٌ بخلاف العُدوة القصوى وكذا قوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي لو تواعدتم أنتم وهم القتالَ ثم علمتم حالَكم وحالَهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هَيْبةً منهم ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صُنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات فيزدادوا إيماناً وشكراً وتطمئن نفوسُهم بفرض الخُمس {ولكن} جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} حقيقاً بأن يُفعل مِن نصْرِ أوليائِه وقهرِ أعدائِه، أو مقدراً في الأزل وقوله تعالى: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيُحْىِ مِنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} بدلٌ منه أو متعلقٌ بمفعولاً أي ليموتَ من يموتُ عن بينة عاينها ويعيشَ من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكونَ له حجةٌ ومعذرةٌ فإن وقعةَ بدرٍ من الآيات الواضحة أو ليصدُرَ كفرُ من كفر وإيمانُ من آمن عن وضوح بينةٍ على استعارة الهلاك والحياةِ للكفر والإيمان، والمرادُ بمن هلك ومن حييَّ المشارفُ للهلاكِ والحياة أو مَنْ حالُه في علم الله تعالى الهلاكُ والحياة، وقرئ {ليهلَك} بالفتح وحيِيَ بفك الإدغام حملاً على المستقبل {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي بكفر من كفر وعقابِه وإيمانِ من آمن وثوابِه، ولعل الجمعَ بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.

.تفسير الآيات (43- 44):

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} منصوبٌ باذكُرْ أو بدلٌ آخرُ من {يومَ الفرقان} أو متعلقٌ بعليم أي يعلم المصالحَ إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبِرَ به أصحابَكم فيكونَ تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} أي لجبُنتم وهِبتم الإقدام {ولتنازعتم فِي الامر} أي أمر القتال وتفرقتْ آراؤُكم في الثبات والقرار {ولكن الله سَلَّمَ} أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازعِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجُبن والصبر والجزَعِ ولذلك دبّر ما دبر {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} منصوبٌ بمضمر خوطب به الكلُّ بطريق التلوينِ والتعميم معطوفٌ على المضمر السابقِ، والضميرانِ مفعولا يُري وقليلاً حالٌ من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه: أتراهم سبعين فقال: أراهم مائة تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسولِ صلى الله عليه وسلم {وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل: إنما أصحابُ محمد أكلةُ جَزور. قللهم في أعينهم قبل التحامِ القتالِ ليجترئوا عليهم ولا يستعدّوا لهم ثم كثّرهم حتى رأوْهم مثليهم لِتُفاجِئَهم الكثرةُ فيُبهَتوا ويهابوا، وهذه من عظائم آياتِ تلك الوقعةِ فإن البصرَ قد يرى الكثيرَ قليلاً والقليلَ كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الوجهِ ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصارَ عن إبصار بعضٍ دون بعض مع التساوي في الشرائط {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} كُرر لاختلاف الفعل المعلَّلِ به أو لأن المرادَ بالأمر ثَمةَ الالتقاءُ على الوجه المذكور وهاهنا إعزازُ الإسلام وأهلِه وإذلالُ الكفر وحِزبه {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} كلُّها يصرِفها كيفما يريد لا رادَّ لأمره ولا مُعقّبَ لحُكمه وهو الحكيم المجيد.