فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (30- 35):

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
{وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ} أيُّ مصيبةٍ كانتْ {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي فهيَ بسببِ معاصيكُم التي اكتسبتمُوها. والفاءُ لأنَّ ما شرطيةٌ أو متضمنةٌ لمَعْنى الشرطِ. وقرئ بدونِها اكتفاءً بما في الباء من مَعْنى السببيةِ. {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} من الذنوبِ فلا يعاقبُ عليها. والآيةُ مخصوصةٌ بالمجرمينَ فإنَّ ما أصابَ غيرَهُم لأسبابٍ أُخرى منها تعريضُه للثوابِ بالصبرِ عليهِ {وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض} فائتينَ ما قُضِيَ عليكُم من المصائبِ وإن هربتُم من أقطارِها كلَّ مهربٍ. {وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ} يحميكُم منَها {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعُها عنكُم.
{وَمِنْ ءاياته الجوار} السفنُ الجاريةُ {فِى البحر} وقرئ: {الجَوَارِي} {كالأعلام} أي كالجبالِ على الإطلاقِ لا التي عليها النارُ للاهتداءِ خاصَّة. {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح} التي تُجريَها. وقرئ: {الرياحَ}. {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} فيبقينَ ثوابتَ على ظهرِ البحرِ أي غيرَ جارياتٍ لا غيرَ متحركاتٍ أصلاً. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذُكِرَ من السفنِ اللاتِي يجرينَ تارةً ويركُدنَ أُخْرى على حسب مشيئتِه تعالَى {لاَيَاتٍ} عظيمةً في أنفسها كثيرةً في العددِ دالةً على ما ذُكِرَ منْ شؤونِه تعالَى. {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لكلِّ مَنْ حبسَ نفسَهُ عن التوجِه إلى ما لا ينبغِي ووكَّلَ همَّتَهُ بالنظرِ في آياتِ الله تعالَى والتفكرِ في آلائِه أو لكلِّ مؤمنٍ كاملٍ، فإنَّ الإيمانَ نصفُهُ صبرٌ ونصفُهُ شكرٌ. {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} عطفٌ على يُسكنْ والمعنى إن يشأ يسكن الريحَ فيركدنَ أو يرسلْهَا فيغرقنَ بعصفِها. وإيقاعُ الإيباقِ عليهنَّ مع أنَّه حالُ أهلهنَّ للمبالغةِ والتهويلِ. وإجراءُ حُكمِه على العفوِ في قوله تعالى: {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} لِما أنَّ المَعْنى أو يُرسلْها فيوبقْ ناساً ويُنجِ آخرينَ بطريق العفوِ عنهُم. وقرئ: {ويعفُو} على الاستئناف {وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِي ءاياتنا} عطفٌ على علة مقدرةٍ مثل لينتقمَ منهم وليعلم إلخ كما في قولِه تعالَى: {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} وقوله: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} ونظائِرِهِما. وقرئ بالرفعِ على الاستئنافِ وبالجزمِ عطفاً على يعفُ فيكونُ المَعْنى وإنْ يشأْ يجمعْ بينَ إهلاكِ قومٍ وإنجاءِ قومٍ وتحذيرِ قومٍ. {مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} أي منْ مهربٍ من العذابِ. والجملةُ معلّقٌ عنها الفعلُ.

.تفسير الآيات (36- 40):

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)}
{فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء} مما ترغبونَ وتتنافسونَ فيهِ. {فمتاع الحياة الدنيا} أي فهُو متاعُها تتمتعونَ به مدةَ حياتِكم {وَمَا عِندَ الله} من ثواب الآخرةِ {خَيْرٌ} ذاتاً لخلوصِ نفعِه {وأبقى} زماناً حيثُ لا يزولُ ولا يَفْنى {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على غيرِه أصلاً. والموصولُ الأولُ لما كانَ مُتضمناً لمَعْنى الشرطِ منْ حيثُ أنَّ إيتاءَ مَا أُوتُوا سببٌ للتمتعِ بها في الحياة الدُّنيا دخلتْ جوابَها الفاءُ بخلافِ الثانِي. وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنَّه تصدقَ أبُو بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمالِه كلِّه فلامَهُ جمعٌ من المسلمينَ فنزلتْ. وقوله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} أي الكبائر من هذا الجنس {والفواحش وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} معَ ما بعدَهُ عطفٌ على الذينَ آمنُوا، أو مدحٌ بالنصبِ أو الرفعِ وبناءُ يغفرونَ على الضميرِ خبراً لهُ للدلالةِ على أنَّهم الأَخِصَّاءُ بالمغفرةِ حالَ الغضبِ لعزةِ منالِها وقرئ: {كبيرَ الإثمِ} وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهُمَا كبيرُ الإثمِ الشركُ. {والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة} نزلَ في الأنصارِ دعاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمانِ فاستجابُوا له. {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي ذُو شُورى لا ينفردونَ برأيٍ حتى يتشاورُوا ويجتمعُوا عليهِ وكانُوا قبلَ الهجرةِ وبعدَهَا إذا حزبَهُم أمرٌ اجتمعُوا وتشاورُوا {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أيْ فِي سبيلِ الخيرِ، وَلعلَّ فصلَهُ عن قرينِه بذكرِ المشاورةِ لوقوعِها عند اجتماعِهم للصلواتِ. {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي ينتقمونَ ممَّنْ بَغَى عليهِم على ما جعلَهُ الله تعالَى لهُم كراهةً التذللِ، وهو وصفٌ لهم بالشجاعةِ بعدَ وصفِهم بسائرِ مُهمَّاتِ الفضائلِ وهَذَا لا ينافِي وصفَهُم بالغُفرانِ فإنَّ كلاًّ منهما فضيلةٌ محمودةٌ في موقعِ نفسهِ، ورذيلةٌ مذمومةٌ في موقعِ صاحبهِ، فإنَّ الحِلْمَ عن العاجزِ وعوراءِ الكرامِ محمودٌ وعن المتغلبِ ولغواءِ اللئامِ مذمومٌ فإنَّه إغراءٌ على البَغِي، وعليهِ قولُ مَنْ قالَ:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه ** وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمرَّدَاً

فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيفِ بالعُلا ** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى

وقولُه تعالَى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} بيانٌ لوجهِ كونِ الانتصارِ من الخصالِ الحميدةِ مع كونِه في نفسِه إساءةً إلى الغيرِ، بالإشارةِ إلى أنَّ البادىءَ هُو الذي فعلَهُ لنفسهِ، فإنَّ الأفعالَ مستتبعةٌ لأجزيتِها حَتماً إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ، وفيه تنبيهٌ على حُرْمةِ التعدِّي، وإطلاقُ السيئةِ على الثانيةِ لأنَّها تسوءُ مَنْ نزلتْ بهِ {فَمَنْ عَفَا} عنِ المسيءِ إليهِ {وَأَصْلَحَ} بينَهُ وبينَ مَنْ يعاديهِ بالعفوِ والإغضاءِ كَما في قولِه تعالى: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} عِدَةٌ مُبهمةٌ منبئةٌ عن عظمِ شأنِ الموعودِ وخُروجِه عن الحدِّ المعهودِ. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} البادئينَ بالسيئةِ والمتعدِّينَ في الانتقامِ.

.تفسير الآيات (41- 45):

{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)}
{وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي {بعدَ ما ظُلِمَ}، وقَدْ قرئ بهِ. {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ المَعْنى، كَما أنَّ الضميرينِ لَها باعتبارِ اللفظِ. {مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} بالمُعَاتبةِ أو المُعَاقبةِ {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} يبتدئونَهُم بالإضرارِ أوْ يعتدونَ في الانتقامِ. {وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أيْ يتكبرونَ فيَها تجبُّراً وفساداً {أولئك} الموصوفونَ بما ذُكِرَ من الظُّلمِ والبغيِ بغيرِ الحقِّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بسببِ ظُلمهم وبغيِهم {وَلَمَن صَبَرَ} على الأذَى {وَغَفَرَ} لِمَنْ ظلمَهُ وَلم ينتصرْ وفوَّضَ أمرَهْ إلى الله تعالَى {إِنَّ ذلك} الذي ذُكِرَ مِنَ الصبرِ والمغفرةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أيْ إنَّ ذلكَ مِنْهُ، فحذفَ ثقةً بغايةِ ظهورِه كَما في قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ، وهَذا في الموادِّ التي لا يُؤدِّي العفوُ إلى الشرِّ كَما أُشيرَ إليهِ. {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ} من ناصرٍ يتولاَّهُ من بعدِ خذلانِه تعالى إيَّاهُ. {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أيْ حينَ يَرَوْنَهُ. وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحقُّقِ. {يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ} أيْ إلى رجعةٍ إلى الدُّنيا {مّن سَبِيلٍ} حَتَّى نُؤمنَ ونعملَ صالحاً. {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أيْ عَلَى النَّار المدلولِ عليها بالعذابِ، والخطابُ في الموضعينِ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ. {خاشعين مِنَ الذل} متذللينَ مُتضائلينَ مِمَّا دهاهُم. {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ} أي يبتدىءُ نظرُهم إلى النَّارِ من تحريكٍ لأجفانِهم ضعيفٍ كالمصبورِ ينظرُ إلى السيفِ. {وَقَالَ الذين ءامَنُواْ إِنَّ الخاسرين} أي المتصفينَ بحقيقةِ الخُسرانِ {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} بالتعريضِ للعذابِ الخالدِ. {يَوْمُ القيامة} إِمَّا ظرفٌ لخسِرُوا فالقولُ في الدُّنيا أوْ لقالَ، فالقولُ يومَ القيامةِ أي يقولونَ حينَ يَرَونهم على تلك الحالِ. وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققهِ. وقولُه تعالى: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} إمَّا من تمامِ كلامِهم، أو تصديقٌ منَ الله تعالى لَهُم.

.تفسير الآيات (46- 49):

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)}
{وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم} برفعِ العذابِ عنُهم {مِن دُونِ الله} حسبما كانِوا يرجُون ذلكَ في الدُّنيا {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} يُؤدِّي سلوكُه إلى النجاةِ.
{استجيبوا لِرَبّكُمْ} إذا دعاكُم إلى الإيمانِ على لسانِ نبيِّهِ {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أيْ لا يردُّه الله بعدَ ما حَكَم بهِ على أنَّ مِنْ صلةُ مردَّ أو مِنْ قبل أن يأتيَ منَ الله يومٌ لا يُمكنُ رَدُّه. {مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} أي مفرَ تلتجئونَ إليهِ. {وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ} أي إنكارٍ لَما اقترفتمُوه لأنَّه مدونٌ في صحائفِ أعمالِكم وتشهدُ عليكم جوارِحُكُم. {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تلوينٌ للكلامِ، وصرفٌ له عن خطابِ الناسِ بعدَ أمرِهم بالاستجابةِ، وتوجيهٌ له إلى الرسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم. {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} وقد فعلتَ. {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} أي نعمةً منَ الصحةِ والغنَى والأمنِ {فَرِحَ بِهَا} أُريد بالإنسانِ الجنس؛ لقولِه تعالَى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي بلاءٌ من مرضٍ وفقرٍ وخوفٍ. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} بليغُ الكفرِ ينسى النعمةَ رأساً ويذكرُ البليةَ ويستعظمُها ولا يتأملُ سبَبَها بلْ يزعُم أنها أصابتْهُ بغيرِ استحقاقٍ لها، وإسنادُ هذه الخصلةِ إلى الجنسِ مع كونِها من خواصِّ المجرمينَ لغلبتِهم فيما بينَ الأفرادِ، وتصديرُ الشرطيةِ الأولى بإذَا معَ إسنادِ الإذاقةِ إلى نونِ العظمةِ للتنبيهِ على أنَّ إيصالَ النعمةِ محققُ الوجودِ كثيرُ الوقوعِ وأنَّه مُقْتضى الذاتِ، كما أنَّ تصديرَ الثانيةِ بإِنْ وإسنادَ الإصابةِ إلى السيئةِ وتعليلَها بأعمالِهم للإيذانِ بنُدرةِ وقوعِها وأنَّها بمعزلٍ عن الانتظامِ في سلكِ الإرادةِ بالذاتِ. ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ للتسجيلِ على أن هذا الجنسَ موسومٌ بكفرانِ النعمِ.
{للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} فمن قضيَّتِه أنْ يملكَ التصرفَ فيهما وفي كلِّ ما فيهما كيفما يشاءُ ومن جُمْلتِه أن يقسمَ النعمةَ والبليةَ حسبما يريدُه. {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} مما تَعلمُه وَممَّا لاَ تعلمُه {يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا} من الأولادِ {وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور} منهُم منْ غيرِ أنْ يكونَ في ذلكَ مدخلٌ لأحد.

.تفسير الآيات (50- 51):

{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}
{أَوْ يُزَوّجُهُمْ} أي يقرن بين الصنفينِ فيهبهما جميعاً {ذُكْرَاناً وإناثا} قالُوا مَعْنى يُزوِّجَهُم أنْ تَلِدَ غُلاماً ثم جَارِيةً أو جارية ثمَّ غُلاماً أو تلدُ ذكراً وأُنْثى توأمينِ. {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً} والمَعْنى يجعلُ أحوالَ العبادِ في حقِّ الأولادِ مختلفةً على ما تقتضيِه المشيئةُ فيهن فيهبُ لبعضٍ إمَّا صنفاً واحداً منْ ذكرٍ أو أُنْثى وإمَّا صنفينِ ويُعقمُ آخرَين. ولعلَّ تقديمَ الأناثِ لأنَّها أكثرُ لتكثيرِ النسلِ أولأنَّ مساقَ الآيةِ للدلالةِ على أنَّ الواقعَ ما تتعلقُ به مشيئته تعالى لا ما تتعلقُ به مشيئة الإنسانِ والإناثُ كذلكَ أو لأنَّ الكلامَ في البلاءِ والعربُ تعدُّهنَّ أعظمَ البَلاَيا أو لتطييبِ قلوبِ آبائِهنَّ أو للمحافظةِ على الفواصلِ ولذلكَ عرَّفَ الذكورَ أو لجبرِ التأخيرِ. وتغييرُ العاطفِ في الثالثِ لأنه قسيمُ المشتركِ بينَ القسمينِ ولا حاجةَ إليهِ في الرابعِ لإفصاحهِ بأنَّ قسيمَ المشتركِ بين الأقسامِ المتقدمةِ وقيلَ: المرادُ بيانُ أحوالِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ حيثُ وهبَ لشعيبَ ولوطٍ إناثاً ولإبراهيمَ ذكوراً وللنبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً وجعلَ يحيى وعيسى عقيمينِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} مبالغٌ في العلمِ والقدرةِ فيفعلُ ما فيهِ حكمةٌ ومصلحةٌ.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} أيْ وما صَحَّ لفردٍ من أفراد البشرِ {أَن يُكَلّمَهُ الله} بوجةٍ منِ الوجوهِ {إِلاَّ وَحْياً} أيْ إلاَّ بأنْ يُوحيَ إليهِ ويلهمَهُ ويقذفَ في قلبهِ كما أَوْحى إلى أمِّ مُوسى وإلى إبراهيمَ عليهما السَّلامُ في ذَبْحِ ولدهِ، وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ: أَوْحَى الله الزبورَ إلى داودَ عليهِ السَّلامُ في صدرِه. أو بأنْ يُسمعَهُ كلامَهْ الذي يخلُقه في بعضِ الأجرامِ من غيرِ أنْ يُبصرَ مَنْ يكلمُه وهُو المرادُ بقوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فإنه تمثيلٌ له بحالِ الملكِ المحتجبِ الذي يكلِّمُ بعضَ خواصِّهِ من وراءِ الحجاب يُسمعُ صوتَهُ ولا يَرَى شخصَهُ وذلكَ كما كلَّم مُوسى وكما يكلِّمُ الملائكةَ عليهم السَّلامُ أو بأنْ يكلمَهُ بواسطةِ المَلَكِ. وذلكَ قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} أي مَلَكاً {فَيُوحِىَ} ذلكَ الرسولُ إلى المرسلِ إليهِ الذي هو الرسولُ البشَريُّ {بِإِذْنِهِ} أي بأمرِه تعالَى وتيسيرِه {مَا يَشَاء} أنْ يوحيَهُ إليهِ وهَذا هو الذي يَجْري بينَهُ تعالى وبينَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ في عامَّةِ الأوقاتِ من الكلامِ، وقيلَ: قولُه تعالى وحياً وقولُه تعالى أو يرسلَ مصدرانِ واقعانِ موقعَ الحالِ وقولُه تعالَى أو منْ وراءِ حجابٍ ظرفٌ واقعٌ موقعَها، والتقديرُ وما صَحَّ أن يكلمَ إلا مُوحياً أو مُسمعاً من وراءِ حجابٍ أو مُرسلاً. وقرئ: {أو يرسلُ} بالرفعِ على إضمار مبتدأٍ، ورُويَ «أنَّ اليهودَ قالتْ للنبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ألا تكلمَ الله وتنظرَ إليهِ إنْ كنتَ نبياً كما كلَّمه مُوسى ونظرَ إليهِ فإنَّا لن نؤمنَ حتَّى تفعلَ ذلكَ فقال عليه السَّلامُ لمْ ينظُرْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى الله تعالى فنزلتْ». وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها: «من زَعَمَ أنَّ محمداً رأى ربَّه فقدْ أعظمَ على الله الفريةَ، ثم قالتْ رضيَ الله عْنُها: أو لم تسمعُوا ربَّكُم يقولُ فتلتْ هَذِهِ الآيةَ». {إِنَّهُ عَلِىٌّ} متعالٍ عن صفاتِ المخلوقينَ لا يتأتَّى جَرَيانُ المفاوضةِ بينَهُ تعالى وبينَهم إلا بأحدِ الوجوهِ المذكورةِ {حَكِيمٌ} يُجْري أفعالَهُ على سُنَنِ الحكمةِ فيكلمُ تارةً بواسطةٍ وأُخرى بدونِها إمَّا إلهاماً وإما خطاباً.

.تفسير الآيات (52- 53):

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
{وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الإيحاءِ البديعِ {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} هو القرآنُ الذي هو للقلوب بمنزلةِ الروحِ للأبدانِ حيثُ يُحيَيها حياةً أبديةً، وقيلَ: هُو جبريلُ عليهِ السَّلامُ. ومَعْنى إيحائِه إليهِ عليهما السَّلامُ إرسالُه إليهِ بالوحي {مَا كُنتَ تَدْرِى} قبلَ الوَحي {مَا الكتاب} أيْ أيُّ شيءٍ هُو {وَلاَ الإيمان} أيْ الإيمانُ بتفاصيلِ ما في تضاعيفِ الكتابِ من الأمورِ التي لا تهتدِي إليها العقولُ لا الإيمانُ بما يستقلُّ به العقلُ والنظرُ فإنَّ درايتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له مما لا ريبَ فيهِ قطعاً {ولكن جعلناه} أي الرُّوحَ الذي أوحيناهُ إليكَ {نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء} هدايتَهُ {مّنْ عِبَادِنَا} وهُو الذي يصرف اختيارَهُ نحو الاهتداءِ بهِ. وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى} تقريرٌ لهدايتهِ تعالى وبيانٌ لكيفيتِها. ومفعولُ لتهدِي محذوفٌ ثقةً بغايةِ الظهورِ أيْ إنكَ لتهدِي بذلكَ النورِ من نشاءُ هدايَتهُ {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو الإسلامُ وسائرُ الشرائعِ والأحكامِ. وقرئ: {لتُهدَى} أي لَيَهديكَ الله، وقرئ: {لتدعُو} {صراط الله} بدلٌ من الأولِ وإضافتُه إلى الاسمِ الجليلِ ثمَّ وصفُه بقوله تعالى: {الذى لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} لتفخيمِ شأنِه وتقريرِ استقامتِه وتأكيدِ وجوبِ سلوكِه فإنَّ كونَ جميعِ ما فيهما من الموجوداتِ له تعالى خَلْقاً ومِلْكاً وتصرُّفاً مما يوجبُ ذلكَ أتمَّ إيجابٍ. {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} أي أمورُ ما فيهما قاطبةً لا إلى غيرِه ففيهِ من الوعدِ للمهتدينَ إلى الصراطِ المستقيمِ والوعيدِ للضالينَ عنه ما لا يَخْفي.
عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ حم عسق كانَ ممَّن تُصلِّي عليهِ الملائكةُ ويستغفرونَ ويسترحمونَ لهُ».