فصل: تفسير الآيات (44- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (29- 38):

{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)}
{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالَ الرُّؤساء أو القُرناء {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لم نمنعكُم من الإيمانِ بل لم تُؤمنوا باختيارِكم وأعرضتُم عنه مع تمكُّنِكم منه وآثرتُم الكفرَ عليه {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} من قهرٍ وتسلُّطٍ نسلبكم به اختيارَكم {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين} مُختارين للطُّغيانِ مُصرِّين عليه {فَحَقَّ عَلَيْنَا} أي لزمنا وثبتَ علينا {قَوْلُ رَبّنَا} وهو قولُه تعالى: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ {فأغويناكم} فدَعوناكم إلى الغيِّ دعوةً غيرَ مُلجئةٍ فاستجبتُم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ {إِنَّا كُنَّا غاوين} فلا عتبَ علينا في تعرُّضِنا لإغوائِكم بتلك المرتبةِ من الدَّعوةِ لتكونُوا أمثالنا في الغوايةِ. {فَإِنَّهُمْ} أي الأتباعُ والمتبُوعينَ {يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانُوا مشتركينَ في الغواية {إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثلَ ذلك الفعلِ البديعِ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التَّشريعيَّةُ {نَفْعَلُ بالمجرمين} المتناهينَ في الإجرامِ وهم المُشركون كما يُعرب عنه التَّعليلُ بقولهِ تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريقِ الدَّعوةِ والتَّلقينِ {لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} عن القبولِ {وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ {إِنَّكُمْ} بما فعلتُم من الإشراكِ وتكذيبِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والاستكبارِ {لَذَائِقُو العذاب الاليم} والالتفاتُ لإظهارِ كمالِ الغضبِ عليهم. وقرئ بنصبِ العذابِ على تقديرِ النُّون كقولهِ:
ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً

وقرئ: {لذائقونَ العذابَ} على الأصلِ.

.تفسير الآيات (39- 43):

{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)}
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي الإجزاءَ ما كنتُم تعملونَه من السَّيئاتِ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه منها.
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناءٌ منقطعٌ من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراضٌ جيء به مسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان أنَّ ذوقهم العذاب ليس إلاَّ من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلاً وجعله استثناء من ضمير تُجزون على معنى أنَّ الكفرة لا يُجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المُخلصين فإنَّهم يجزون أضعافاً مضاعفة ممَّا لا وجه له أصلاً لاسيما جعله استثناء متَّصلاً بتعميم الخطاب في تُجزون لجميع المكلَّفين فإنَّه ليس في حيِّزِ الاحتمال فالمعنى إنَّكم لذائقون العذاب الأليم لكنْ عباد الله المُخلصين الموحِّدين ليسُوا كذلك وقوله تعالى: {أولئك} إشارةٌ إليهم للإيذان بأنَّهم ممتازون بما اتَّصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمَّن عداهم امتيازاً بالغاً منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلوِّ طبقتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {لَهُمْ} إمَّا خبرٌ له وقوله تعالى: {رّزْقِ} مرتفعٌ على الفاعلية بما فيه من الاستقرارِ، أو مبتدأٌ ولهم خبرٌ مقدَّمٌ والجملة خبرٌ لأولئك، والجملةُ الكُبرى استئناف مبيِّنٌ لما أفاده الاستثناء إجمالاً بياناً تفصيليًّا، وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على أنَّه متأوَّلٌ بالمبتدأ وقوله تعالى: {مَّعْلُومٌ} أي معلومُ الخصائصِ من حُسن المنظر ولذَّةِ الطَّعمِ وطيب الرَّائحةِ ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقتِ كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} وقوله تعالى: {فواكه} إمَّا بدل من رزقٌ أو خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ، أي ذلك الرزقُ فواكهُ، وتخصيصُها بالذِّكر لأنَّ أرزاق أهل الجنَّة كلَّها فواكه أي ما يُؤكل لمجرَّدِ التَّلذُّذِ دون الاقتياتِ لأنَّهم مستغنون عن القوت لكون خِلقتِهم مُحكمةً محفوظة من التَّحلُّلِ المُحوجِ إلى البدل وقيل لأنَّ الفواكه من أتباع سائرِ الأطعمةِ فذكرُها مُغنٍ عن ذكرِها {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عند الله عزَّ وجلَّ لا يلحقُهم هوانٌ وذلك أعظم المثوباتِ وأليقها بأُولي الهممِ وقيل مكرمون في نيله حيثُ يصلُ إليهم بغير تعبٍ وسؤالٍ كما هو شأنُ أرزاقِ الدُّنيا. وقرئ: {مكرَّمون} بالتَّشديدِ {فِي جنات النعيم} أي في جناتٍ ليس فيها إلاَّ النَّعيمُ وهو ظرف أو حال من المستكنِّ في مكرمون، أو خبر ثانٍ لأولئك.

.تفسير الآيات (44- 50):

{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}
وقوله تعالى: {على سُرُرٍ} محتمل للحاليَّةِ والخبريَّةِ. فقولُه تعالى: {متقابلين} حالٌ من المستكنِّ فيه أو في مُكرمون. وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} إمَّا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكاية تكامُلِ مجالسِ أُنسهم أو حال من الضَّميرِ في متقابلين أو في أحد الجارَّينِ وقد جُوِّزَ كونه صفةً لمكرمون {بِكَأْسٍ} بإناء فيه خمر أو بخمرٍ، فإنَّ الكأس تُطلق عن نفس الخمرِ كما في قول مَن قال:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لذَّة ** وأخرى تَدَاويتُ منها بها

{مّن مَّعِينٍ} متعلِّقٌ بمضمرٍ هو صفة لكأس أي كائنةٌ من شرابٍ مَعينٍ أو من نهرٍ مَعينٍ وهو الجاري على وجه الأرضِ الظَّاهرُ للعُيونِ أو الخارجُ من العُيونِ من عان الماءُ إذا نبعَ، وصف به الخمرُ وهو للماءِ لأنَّها تجري في الجنَّةِ في أنهارٍ كما يجري الماءُ قال تعالى وأنهارٍ من خمرٍ {بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين} صفتانِ أيضاً لكأسٍ، ووصفها بلذَّةٍ إمَّا للمُبالغةِ كأنَّها نفسُ اللَّذةِ أو لأنَّها تأنيثُ اللَّذِّ بمعنى اللَّذيذِ ووزنه فعل قال:
ولذَ كطعمِ الصَّرخديِّ تركتُه ** بأرضِ العِدا مِنْ خيفةِ الحدَثانِ

يريد النَّومَ {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي غائلةٌ كما في خمور الدُّنيا من غالَه إذا أفسدَه وأهلكه ومنه الغُول. {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكَرُون من نزف الشَّاربُ فهو نَزِيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهب عقلُه ويقال للمطعونِ نُرِفَ فماتَ إذا جُرح دمُه كلُّه. أفرد هذا بالنَّفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَول عنها لما أنَّه من معظم مفاسد الخمرِ كأنَّه جنس برأسهِ والمعنى لا فيها نوعٌ من أنواع الفسادِ من مغصٍ أو صُداعٍ أو خُمارٍ أو عَربدةٍ أو لغوٍ أو تأثيمٍ ولا هم يسكرون. وقرئ: {يُنزفون} بكسر الزَّاي، من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفد عقلُه أو شرابه. وقرئ: {ينزفون} بضمِّ الزَّاي من نَزَف يَنزُف بضمِّ الزَّاي فيهما {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} قصرن أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا يمددن طَرفاً إلى غيرهم {عِينٌ} نجُلُ العُيونِ جمع عَيْناءَ والنَّجَلُ سعةُ العينِ {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شُبِّهن ببيض النَّعامِ المصونِ من الغبارِ ونحوه في الصَّفاءِ والبياض المخلوطِ بأدنى صُفرةٍ فإن ذلك أحسنُ ألوانِ الأبدانِ {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} معطوف على يُطاف أي يشربون فيتحادثُون على الشَّراب كما هو عادة الشرب قال:
وَمَا بَقِيَتْ مِن اللَّذاتِ إلا ** أحاديثُ الكرامِ على المُدامِ

فيقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون عن الفضائلِ والمعارفِ وعمَّا جرى لهم وعليهم في الدُّنيا. فالتَّعبيرُ عنه بصيغة الماضي للتَّأكيدِ والدِّلالةِ على تحقُّقِ الوقوع حتماً.

.تفسير الآيات (51- 56):

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)}
{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في تضاعيف محاوراتهم {إِنّى كَانَ لِى} في الدُّنيا {قَرِينٌ} مصاحب {يِقُولُ} لي على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي بالبعث. وقرئ بتشديدِ الصَّادِ من التَّصدُّقِ، والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمبعوثون ومجزيُّون من الدِّينِ بمعنى الجزاء أو لمسوسُون يقال دانَه أي ساسَه، ومنه الحديثُ: «العاقلُ من دانَ نفسَه» وقيل كان رجلٌ تصدَّقَ بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدَى بعضَ إخوانهِ فقال: أين مالكُ، قال: تصدَّقتُ به ليعوضني الله تعالى في الآخرةِ خيراً منه فقال: أئنَّك لمن المُصدِّقين بيوم الدِّينِ، أو المتصدِّقين لطلب الثَّوابِ والله لا أُعطيك شيئاً فيكون التَّعرُّضُ لذكر موتهم وكونِهم تُراباً وعظاماً حينئذٍ لتأكيدِ إنكار الجزاءِ المبني على إنكارِ البعث {قَالَ} أي ذلك القائلُ بعدما حكى لجلسائه مقالَ قرينهِ في الدُّنيا {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أي إلى أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ يريد بذلك بيانَ صدقهِ فيما حكاه وقيل القائلُ هو اللَّهُ تعالى أو بعضُ الملائكة يقول لهم هل تُحبُّون أنْ تطَّلعوا على أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ فتعلموا أين منزلتُكم من منزلتهم قيل إنَّ في الجنَّة كُوى ينظر منها أهلُها إلى أهل النَّارِ {فَأَطَّلِعَ} أي عليهم {فَرَءاهُ} أي قرينَه {فِى سَوَاء الجحيم} أي في وسطها. وقرئ: {فأطَّلِعَ} على لفظ المضارع المنصوبِ. وقرئ: {مُطَّلعون فأطَّلع} وفأطْلُعَ بالتَّخفيف على لفظ الماضي والمضارعِ المنصوبِ يقال طلعَ علينا فلانٌ وأطَّلع وبمعنى واحد والمعنى هل أنتُم مطَّلعون إلى القرين فأطَّلع أنا أيضاً أو عوضَ عليهم الاطِّلاعَ فقبلوا ما عرضَه فاطَّلع هو بعد ذلك وإن جُعل الاطِّلاعُ متعدِّياً فالمعنى أنَّه لما شرط في إطِّلاعه إطِّلاعهم كما هو ديدن الجُلساءِ فكأنَّهم مُطْلِعُوه، وقيل الخطاب على هذا للملائكةِ. وقرئ: {مُطَّلعونِ} بكسر النُّونِ أراده مطلعونَ إيَّاي فوضع المتَّصلَ موضع المنفصلِ، كقوله:
هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونه

أو شُبِّه اسمُ الفاعل بالمضارع لما بينهما من التَّآخِي.
{قَالَ} أي القائلُ مخاطباً لقرينهِ {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتُهلكني بالإغواءِ. وقرئ: {لتُغوينِ} والتَّاءُ فيه معنى التَّعجُّبِ وإنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشَّأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ واللاَّمُ فارقةٌ أي تاللَّهِ إنَّ الشَّأنَ كدت لتردينِ.

.تفسير الآيات (57- 62):

{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} بالهدايةِ والعصمة {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي من الذين أُحضروا العذابَ كما أُحضِرْته أنتَ وأضرابُك وقوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} رجوع إلى محاورةِ جلسائه بعد إتمامِ الكلام مع قرينه تبجُّحاً وابتهاجاً بما أتاحَ الله عزَّ وجلَّ لهم من الفضلِ العظيمِ والنَّعيمِ المقيمِ. والهمزة للتَّقريرِ وفيها معنى التَّعجُّبِ والفاء للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه نظمُ الكلام أي أنحنُ مخلَّدون منعَّمون فما نحنُ بميِّتين أي بمن شأنه الموت. وقرئ: {بمائتينَ} {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى} التي كانت في الدُّنيا وهي متناولةٌ لما في القبر بعد الإحياء للسُّؤالِ قاله تصديقاً لقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} وقيل إنَّ أهلَ الجنَّةِ أوَّلَ ما دخلُوا الجنَّة لا يعلمون أنَّهم لا يموتون فإذا جِيء بالموت على صُورة كبشٍ أملحَ فذُبح ونُودي يا أهلَ الجنَّةِ خلود فلا موتَ ويا أهلَ النَّارِ خلود فلا موتَ يعلمونه فيقولون ذلك تحدُّثاً بنعمة الله تعالى واغتباطاً بها {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكُفَّار فإنَّ النَّجاةَ من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتَّحدثِ بها {إِنَّ هَذَا} أي الأمرُ العظيم الذي نحن فيه {لَهُوَ الفوز العظيم} وقيل هو من قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له. وقرئ: {لهو الرِّزقُ العظيم} وهو ما رُزقوه من السَّعادةِ العظمى. {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لنيل هذا المرامِ الجليلِ يجب أنْ يعمل العاملون لا للحظوظِ الدُّنيويَّةِ السَّريعةِ الانصرام المشُوبةِ بفنون الآلام وهذا أيضاً يحتملُ أن يكونَ من كلام ربِّ العزَّةِ {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} أصل النُّزلِ الفضل والرِّيعُ فاستُعير للحاصل من الشَّيءِ فانتصابُه على التَّمييزِ أي أذلك الرِّزقُ المعلومُ الذي حاصلُه اللَّذةُ والسُّرورُ خيرٌ نزلاً أم شجرةُ الزَّقُومِ التي حاصلها الألم والغمُّ. ويقال النُّزل لما يقامُ ويهيَّأُ من الطَّعامِ الحاضر للنَّازلِ فانتصابُه على الحاليَّةِ. والمعنى أنَّ الرِّزقَ المعلوم نزلُ أهل الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ نُزلهم شجرةُ الزَّقُّوم فأيُّهما خيرٌ في كونه نزلاً. والزَّقُّومُ اسم شجرةٍ صغيرةِ الورقِ دَفرةٍ مُرَّةٍ كريهةِ الرَّائحةِ تكون في تِهامة سمِّيتْ به الشَّجرةُ الموصوفةُ.

.تفسير الآيات (63- 69):

{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)}
{إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة وابتلاء في الدُّنيا فإنَّهم لمَّا سمعوا أنَّها في النَّار قالوا كيف يمكن ذلك والنَّارُ تحرق الشَّجَر ولم يعلموا أن من قَدَرَ على خلق حيوانٍ يعيش في النَّارِ ويتلذَّذُ بها أقدرُ على خلق الشَّجرِ في النَّار وحفظهِ من الاحتراق.
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجحيم} منبتُها في قعر جهنَّم وأغصانها ترتفعُ إلى دركاتِها. وقرئ: {نابتةٌ في أصل الجحيم} {طَلْعُهَا} أي حملُها الذي يخرج منها مستعارٌ في طلع النَّخلةِ لمشاركته له من الشَّكلِ والطُّلوعِ عن الشَّجرِ. قالوا: أوَّلُ التَّمرِ طَلعٌ ثم خِلالٌ ثم بَلَحٌ ثم رُطَبٌ ثم تمرٌ {كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين} في تناهي القُبح والهَول. وهو تشبيه بالمخبَّل كتشبيه الفائق في الحُسنِ بالمَلَك. وقيل الشَّياطينُ الحيَّاتُ الهائلةُ القبيحةُ المنظر، لها أعرافٌ وقيل إنَّ شجراً يقال له الأستنُ خشناً مُنتناً مُرًّا منكر الصُّورةِ يسمَّى ثمرُه رؤوسَ الشَّياطينِ {فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا} أي من الشَّجرةِ أو من طلعِها فالتَّأنيثُ مكتسب من المضافِ إليه {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} لغلبة الجوعِ أو للقسرِ على أكلِها وإنْ كرهوها ليكونَ ذلك باباً من العذابِ.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} على الشَّجرةِ التي ملأوا منها بطونَهم بعدما شبِعُوا منها وغلبهم العطشُ وطال استسقاؤهم كما يُنبىء عنه كلمة ثُمَّ ويجوز أنْ تكونَ لما في شرابهم من مزيدِ الكراهة والبشاعةِ {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} لشراباً من غسَّاقٍ أو صديدٍ مشُوباً بماءٍ حميمٍ يُقطِّع أمعاءهم. وقرئ بالضَّمِّ وهو اسم لما يُشاب به، والأوَّلُ مصدر سُمِّي به {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} أي {مصيرَهم}. وقد قرئ كذلك. {لإِلَى الجحيم} لإلى دَرَكاتِها أو إلى نفسها فإنَّ الزَّقُّومَ والحميمَ نزلٌ يقدَّمُ إليهم قبل دخولها وقيل الحميمُ خارجٌ عنها لقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} يذهب بهم عن مقارِّهم ومنازلهم في الجحيمِ إلى شجرة الزَّقُّومِ فيأكلون منها إلى أنْ يمتلئُوا ثم يُسقون من الحميم ثم يُردُّون إلى الجحيم. ويُؤيِّده أنَّه قرئ: {ثمَّ إنَّ منقلبَهم}.
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ} تعليل لاستحقاقِهم ما ذُكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في الدِّينِ من غير أنْ يكونَ لهم ولا لآبائِهم شيءٌ يتمسَّكُ به أصلاً، أي وجدوهم ضالِّين في نفس الأمر ليس لهم ما يصلُح شبهةً فضلاً عن صلاحيةِ الدَّليلِ.