فصل: تفسير الآيات (5- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (9- 11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله} أي لا يشغَلْكُم الاهتمامُ بتدبيرِ أمورِهَا والاعتناءُ بمصالحِهَا والتمتعُ بها عن الاشتغالِ بذكرِهِ عزَّ وجلَّ من الصلاةِ وسائرِ العباداتِ المذكّرةِ للمعبودِ والمرادُ نهيهُم عنِ التَّلهّي بهَا، وتوجيهُ النهيِ إليهَا للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالَى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} إلخ {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي التَّلهي بالدُّنيا منَ الدينِ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} أي الكاملونَ في الخسرانِ حيثُ باعُوا العظيمَ الباقِي بالحقيرِ الفانِي {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} أي بعضَ ما أعطينَاكُم تفضلاً منْ غيرِ أنْ يكونَ حصولُهُ من جهتِكُم ادخاراً للآخرةِ {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} بأنْ يشاهدَ دلائلَهُ ويعاينَ أماراتِهِ ومخايلَهُ، وتقديمُ المفعولِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بما قُدِّمَ والتشويقِ إلى ما أُخِّر {فَيَقُولُ} عند تيقنِه بحلولِهِ {رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى} أي أمهلتَنِي {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمدٍ قصيرٍ {فَأَصَّدَّقَ} بالنصبِ على جوابِ التمنِي وقرئ: {فأتصدقَ} {وَأَكُن مّنَ الصالحين} بالجزمِ عطفاً على محلِّ فأصدقَ كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصدقْ وأكنْ وقرئ: {وأكونَ} بالنصبِ عطفاً على لفظِهِ وقرئ: {وأكونُ} بالرفعِ أي وأنَا أكونَ، عِدة منه بالصلاحِ {وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً} أي ولَنْ يُمهلَهَا {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} أي آخرُ عُمرِهَا أو انتهى إنْ أُريدَ بالأجلِ الزمانُ الممتدُ من أولِ العمرِ إلى آخرِهِ {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجازيكُم عليهِ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فسارَعُوا في الخيراتِ واستعدُّوا لما هُو آتٍ وقرئ: {يعملُونَ} بالياءِ التحتانيةِ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرأ سورةَ المنافقينَ برىءَ من النفاقِ».

.سورة التغابن:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي ينزهُهُ سبحانَهُ جميعُ ما فيهما من المخلوقاتِ عمَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه تنزيهاً مُستمراً {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} لا لغيرِه إذْ هو المُبدىءُ لكلِّ شيءٍ وهو القائمُ به والمهيمنُ عليهِ وهو المُولِي لأصولِ النعمِ وفروعِها، وأما ملكُ غيرِهِ فاسترعاءٌ من جنابِهِ وحمدُ غيرِه اعتداءٌ بأنَّ نعمةَ الله جرتْ على يدِه {وَهُوَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} لأن نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةَ للقدرةِ إلى الكلِّ سواءٌ {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ} خلقاً بديعاً حاوياً لجميعِ مبادِي الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ ومع ذلكَ {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} أي فبعضُكم أو فبعضٌ منكُم مختارٌ للكفرِ كاسبٌ له على خلافِ ما تستدعيهِ خلقتُه {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} مختارٌ للإيمانِ كاسبٌ له حسبما تقتضيهِ خلقتُه، وكان الواجبُ عليكم جميعاً أن تكونُوا مختارينَ للإيمانِ شاكرينَ لنعمةِ الخلقِ والإيجادِ وما يتفرعُ عليها من سائرِ النعمِ، فما فعلتُم ذلكَ مع تمامِ تمكنِكُم منهُ بل تشعبتُم شعباً وتفرقتُم فرقاً. وتقديمُ الكفرِ لأنه الأغلب فيما بينَهُم والأنسبُ بمقامِ التوبيخِ، وحملُه على مَعْنَى فمنكم كافرٌ مقدرٌ كفرُه موجهٌ إليهِ ما يحملُه عليهِ ومنكُم مؤمنٌ مقدرٌ إيمانُهُ موفقٌ لما يدعُوه إليهِ مما لا يلائمُ المقامَ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بذلكَ فاختارُوا منه ما يجديكُم من الإيمانِ والطاعةِ، وإياكُم وما يُرديكم من الكفرِ والعصيانِ {خُلِقَ السموات والأرض بالحق} بالحكمةِ البالغةِ المتضمنةِ للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} حيثُ بَرَأكُم في أحسنِ تقويمٍ وأودعَ فيكُم من القُوى والمشاعرِ الظاهرةِ والباطنةِ ما نيطَ بها جميعُ الكمالاتِ البارزةِ والكامنةِ وزينكُم بصفوةِ صفاتِ مصنُوعاتِهِ وخصَّكُم بخلاصةِ خصائصِ مُبدِعَاتِهِ وجعلَكُم أنموذجَ جميعَ مخلوقاتِهِ في هَذه النشأة {وَإِلَيْهِ المصير} في النشأةِ الأُخرى لا إلى غيرِهِ استقلالاً أو اشتراكاً فأحسِنُوا سرائركُم باستعمالِ تلكَ القُوى والمشاعرِ فيما خُلقنَ لَهُ.
{يَعْلَمُ مَا فِي السموات والأرض} من الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والأحوالِ الجليةِ والخفيةِ {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ما تسروتَهُ فيما بينَكُم وما تظهرونَهُ من الأمورِ، والتصريحُ بهِ مع اندراجِهِ فيما قبلَهُ لأنَّهُ الذي يدورُ عليهِ الجزاءُ ففيهِ تأكيدٌ للوعدِ والوعيدِ وتشديدٌ لهما وقولُهُ تعالَى: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبلَهُ من شمولِ علمِهِ تعالَى لسرِّهم وعلنِهِم أي هو محيطٌ بجميعِ المضراتِ المستكنةِ في صدورِ الناسِ بحيثُ لا تفارقُها أصلاً فكيفَ يخفى عليهِ ما يُسرونَهُ وما يُعلنونَهُ، وإظهارُ الجلالةِ للإشعارِ بعلةِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ. قيلَ وتقديمُ تقريرِ القدرةِ على تقريرِ العلمِ لأنَّ دلالةَ المخلوقاتِ على قدرتِهِ بالذاتِ وعلى علمِهِ بما فيها من الإتقانِ والاختصاصِ ببعضِ الأنحاءِ.

.تفسير الآيات (5- 7):

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرةُ {نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} كقومِ نوحٍ ومن بعدهم من الأممِ المصرةِ على الكفرِ {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} عطفٌ على كفرُوا والوبالُ الثقلُ والشدةُ المترتبةُ على أمرٍ من الأمورِ وأمرُهُم كفرُهُم عبرَ عنْهُ بذلكَ للإيذانِ بأنه أمرٌ هائلٌ وجنايةٌ عظيمةٌ أي ألم يأتكم خبرُ الذينَ كفرُوا من قبلُ فذاقُوا من غيرِ مهلةٍ ما يستتبعُه كفرُهُم في الدُّنيا {وَلَهُمْ} في الآخرةِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قدرُهُ {ذلك} أي ما ذُكِرَ من العذابِ الذي ذاقُوه في الدُّنيا وما سيذوقونَهُ في الآخرةِ {بِأَنَّهُ} بسببِ أن الشأنَ {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {فَقَالُواْ} عطفٌ على كانتْ {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أي قالَ كلُّ قومٍ من المذكورينَ في حقِّ رسولِهِم الذي أتاهُم بالمعجزاتِ منكرينَ لكونِ الرسولِ من جنسِ البشرِ متعجبينَ من ذلكَ أبشرٌ يهدينَا كما قالتْ ثمودُ {أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ} وقد أُجملَ في الحكايةِ فأُسنِدَ القولُ إلى جميعِ الأقوامِ وأُريدَ بالبشرِ الجنسُ فوصفَ بالجمعِ كما أُجملَ الخطابُ والأمرُ في قولِهِ تعالَى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} {فَكَفَرُواْ} أي بالرسلِ {وَتَوَلَّواْ} عن التدبرِ فيما أتَوا بهِ من البيناتِ وعن الإيمانِ بهم {واستغنى الله} أي أظهرَ استغناءَهُ عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم حيثُ أهلكهُم وقطعَ دابرَهُم، ولولا غناهُ تعالَى عنهُما لما فعلَ ذلكَ {والله غَنِىٌّ} عنِ العالمينَ فضلاً عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم {حَمِيدٌ} يحمَدُهُ كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ، أو مستحقٌ للحمدِ بذاتِهِ وإنْ لم يحمَدهُ حامدٌ.
{زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} الزعمُ ادعاءُ العلمِ يتعدى إلى مفعولينِ وقد قام مقامَهُما أن المخففةُ معَ مَا في حيزِهَا، والمرادُ بالموصولِ كفارُ مكةَ أي زعمُوا أنَّ الشأنَ لن يبعثُوا بعد موتِهِم أبداً {قُلْ} رداً عليهِم وإبطالاً لزعمِهِم بإثباتِ ما نَفوه {بلى} أي تُبعثونَ وقوله: {وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي لتُحاسبُنَّ ولتُجزَوُنَّ بأعمالِكُم، جملةٌ مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمرِ واردةٌ لتأكيدِ ما أفادَهُ كلمةُ بَلَى من إثباتِ البعثِ وبيانِ تحقيقِ أمرٍ آخرَ متفرعٍ عليهِ منوطٍ به ففيهِ تأكيدٌ لتحقيقِ البعثِ بوجهينِ {وَذَلِكَ} أي ما ذُكِرَ من البعثِ والجزاءِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لتحققِ القدرةِ التامةِ وقبولِ المادةِ.

.تفسير الآيات (8- 11):

{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}
الفاءُ في قولِه تعالَى: {فَئَامِنُواْ} فصيحةٌ مفصحةٌ عن شرطٍ قد حُذفَ ثقةً بغايةِ ظهورِهِ أي إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فآمنُوا {بالله وَرَسُولِهِ} محمدٍ صلى الله عليه وسلم {والنور الذي أَنزَلْنَا} وهُو القرآنُ فإنَّه بإعجازِهِ بيِّنٌ بنفسِهِ مبيِّنٌ لغيرِهِ كما أنَّ النورَ كذلكَ. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ العنايةِ بأمرِ الإنزالِ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الامتثالِ بالأمرِ وعدمِهِ {خَبِيرٌ} فمجازيكُم عليهِ. والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبلَهُ من الأمرِ موجبٌ للامتثالِ به بالوعدِ والوعيدِ، والالتفاتُ إلى الإسمِ الجليلِ لتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الجُملةِ {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} ظرفٌ لتنبؤنَّ وقيلَ لخبير لما فيهِ من مَعْنَى الوعيدِ كأنَّه قيلَ والله مجازيكُم ومعاقبكُم يومَ يجمعُكُم أو مفعولٌ لأذكُرْ وقرئ: {نَجْمعكُم} بنونِ العظمةِ {لِيَوْمِ الجمع} ليومٍ يُجمعُ فيهِ الأولونَ والآخرونَ أي لأجلِ ما فيهِ من الحسابِ والجزاءِ {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} أي يومُ غَبْنِ بعضِ الناسِ بعضاً بنزولِ السعداءِ منازلَ الأشقياءِ لو كانوا سعداءَ وبالعكسِ وفي الحديثِ: «ما منْ عبدٍ يدخلُ الجنةَ إلا أُري مقعدَهُ من النارِ لو أساء ليزداد شُكراً وما من عبدٍ يدخلُ النارَ إلا أري مقعدَهُ من الجنةِ لو أحسنَ ليزدادَ حسرةً» وتخصيصُ التغابنِ بذلكَ اليومِ للإيذانِ بأن التغابنَ في الحقيقةِ هو الذي يقعُ فيهِ لا ما يقعُ في أمورِ الدُّنيا.
{وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} أي عملاً صالحاً {يَكْفُرْ} أي الله عَزَّ وجلَّ وقرئ بنونِ العظمةِ {عَنْهُ سيئاته} يومَ القيامةِ {وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} وقرئ: {نُدخله} بالنونِ {ذلك} أي ما ذُكِرَ من تكفيرِ السيئاتِ وإدخالِ الجناتِ {الفوز العظيم} الذي لا فوزَ وراءَهُ لانطوائِهِ على النجاةِ من أعظمِ الهلكاتِ والظفرِ بأجلِّ الطلباتِ {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير} أي النارُ كأنَّ هاتينِ الآيتينِ الكريمتينِ بيانٌ لكيفيةِ التغابنِ {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} من المصائبِ الدنيويةِ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بتقديرِهِ وإرادتِهِ كأنَّها بذاتِهَا متوجهةٌ إلى الإنسانِ متوقفةٌ على إذنِهِ تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} عند إصابتِهَا للثباتِ والاسترجاعِ وقيل يهدِ قلبَهُ حتَّى يعلمَ أنَّ ما أصابَهُ لم يكُنْ ليخطئَهُ وما أخطأهُ لم يكُن ليصيبَهُ وقيلَ يهدِ قلبَهُ أي يلطفُ بهِ ويشرحُهُ لازديادِ الطاعةِ والخيرِ. وقرئ: {يُهْدَ قلبُهُ} على البناءِ للمفعولِ ورفعِ قلبَهُ، وقرئ بنصبِه على نهجِ سفِه نفسَهُ وقرئ بالهمزةِ أي يسكُن {والله بِكُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جُملتِهَا القلوبُ وأحوالِهَا {عَلِيمٌ} فيعلمُ إيمانَ المؤمنِ ويهدي قلبَهُ إلى ما ذُكِرَ.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} كررَ الأمرَ للتأكيدِ والإيذانِ بالفرقِ بينَ الطاعتين في الكيفيةِ وتوضيحِ موردِ التولِّي في قولِهِ تعالَى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي عن إطاعةِ الرسولِ، وقولُهُ تعالَى: {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} تعليلٌ للجوابِ المحذوفِ أي فلا بأسَ عليهِ إذْ ما عليهِ إلا التبليغُ المبينُ وقد فعلَ ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ، وإظهارُ الرسولِ مضافاً إلى نونِ العظمةِ في مقامِ إضمارِهِ لتشريفِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ والإشعارُ بمدارِ الحكمِ الذي هوَ كونُ وظيفتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ محضَ البلاغِ ولزيادةِ تشنيعِ التولِّي عنْهُ {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ أي هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غيرُهُ، وفي إضمارِ خبرِ لا مثل في الوجودِ أو يصح أن يوجدَ خلافٌ للنجاةِ معروفٌ {وَعَلَى الله} أي عليهِ تعالى خاصَّة دونَ غيرِهِ لا استقلالاً ولا اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ التوكلِ والأمرِ بهِ فإن الألوهيةَ مقتضيةٌ للتبتلِ إليهِ تعالى بالكليةِ وقطعِ التعلقِ عما سواهُ بالمرةِ.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} يشغلونَكُم عن طاعةِ الله تعالَى أو يخاصمونَكُم في أمورِ الدينِ أو الدُّنيا {فاحذروهم} الضميرُ للعدوِّ فإنَّه يطلقُ على الجمعِ نحو قولِهِ تعالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} أو للأزواجِ والأولادِ جميعاً فالمأمورُ بهِ على الأولِ الحذرُ عن الكلِّ وعلى الثاني إما الحذرُ عن البعضِ لأنَّ منهم من ليسَ بعدوَ وإما الحذرُ عن مجموعِ الفريقينِ لاشتمالِهِم على العدوِّ {وَأَن تَعْفُواْ} عن ذنوبِهِم القابلةِ للعفوِ بأن تكونَ متعلقةً بأمورِ الدُّنيا أو بأمورِ الدينِ لكن مقارنةٌ للتوبةِ {وَتَصْفَحُواْ} بتركِ التثريبِ والتعييرِ {وَتَغْفِرُواْ} بإخفائِهَا وتمهيدِ عُذرِهَا {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعاملكُم بمثلِ ما عملتُم ويتفضلُ عليكُم. وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أرادُوا الهجرةَ عن مكَة فثبطهُم أزواجُهُم وأولادُهُم وقالوا تنطلقونَ وتضيعونَنَا فرقُّوا لهُم ووقفُوا فلما هاجَرُوا بعد ذلكَ ورأَوا المهاجرينَ الأولينَ قد فقهُوا في الدينِ أرادُوا أن يعاقبُوا أزواجَهُم وأولادَهُم فزُينَ لهم العفوُ، وقيلَ قالُوا لهُم أينَ تذهبونَ وتدعُونَ بلدكُم وعشيرتَكُم وأموالَكُم فغضبُوا عليهِم وقالُوا لئِن جمعنَا الله في دارِ الهجرةِ لم نُصِبكم بخيرٍ فلما هاجرُوا منعُوهُم الخبرَ فحَثُّوا على أنْ يعفُوا عنهُم ويردُّوا إليهِمْ البرَّ والصلةَ.

.تفسير الآيات (15- 18):

{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
{إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} بلاءٌ ومحنةٌ يوقعونَكُم في الإثمِ من حيثُ لا تحتسبون {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثَرَ محبةَ الله تعالَى وطاعَتَهُ على محبةِ الأموالِ والأولادِ والسعيِ في تدبيرِ مصالحِهِم {فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلُوا في تقواهُ جهدَكُم وطاقَتَكُم {واسمعوا} مواعظَهُ {وَأَطِيعُواْ} أوامرَهُ {وَأَنْفِقُواْ} مما رزقكُم في الوجوهِ التي أمركُم بالإنفاقِ فيها خالصاً لوجهِهِ {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أي ائتُوا خيراً لأنفسِكُم وافعلُوا ما هو خيرٌ لها وأنفعُ وهو تأكيدٌ للحثِّ على امتثالِ هذهِ الأوامرِ وبيانٌ لكونِ الأمورِ المذكورةِ خيراً لأنفسِهِم، ويجوزُ أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو إنفاقاً خيراً أو خبراً لكانَ مقدراً جواباً للأوامرِ أي يَكُنْ خيراً لأنفسِكُم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكلِ مرامٍ.
{إِن تُقْرِضُواْ الله} بصرفِ أموالِكُم إلى المصارفِ التي عينها {قَرْضًا حَسَنًا} مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفسِ {يضاعفه لَكُمْ} بالواحدِ عشرةً إلى سبعمائةٍ وأكثرَ. وقرئ: {يُضعّفهُ لكُم} {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركةِ الإنفاقِ ما فرطَ منكُم من بعضِ الذنوبِ {والله شَكُورٌ} يَعطى الجزيلَ بمقابلةِ النزرِ القليلِ {حَلِيمٌ} لا يعاجلُ بالعقوبةِ مع كثرةِ ذنوبِكُم {عالم الغيب والشهادة} لا يَخفى عليهِ خافيةٌ {العزيز الحكيم} المبالغُ في القدرةِ والحكمةِ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ التغابنِ دُفِعَ عنهُ موتُ الفجأةِ».