فصل: تفسير الآيات (51- 54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}
{والذين يَسْعَوْنَ فِي ءاياتنا} بالردِّ والطَّعنِ فيها {معاجزين} سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا {أُوْلَئِكَ فِي العذاب مُحْضَرُونَ} لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعاً.
{قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي يُوسعه عليهَ تارةً {وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وأنفقُوا في سبيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شيء فَهُوَ يُخْلِفُهُ} عِوضاً إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلاً {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وما كانُوا يعبدونَ من دون الله. ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعاً للمشركينَ وتبكيتاً لهم على نهجِ قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} إلخ وإقناطاً لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم، وتخصيص الملائكة لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقرئ الفعلانِ بالنُّونِ.

.تفسير الآيات (41- 43):

{قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)}
{قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكايةِ سؤالِ الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ، أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل: يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ.
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} من جملةِ ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رؤوسِ الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية. والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعدها من الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم، والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف، وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ. وقولُه عزَّ وجلَّ: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثم نقولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يكون من الأهوالِ والأحوالِ ما لا يحيطُ به نطاقُ المقالِ وقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} بيان لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسانِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتُنا النَّاطقةُ بحقِّيةِ التَّوحيدِ وبُطلان الشِّركِ {قَالُواْ مَا هذا} يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ} فيستتبعكم بما يستدعيِه من غيرِ أنْ يكونَ هناك دينٌ إلهيٌّ، وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد {وَقَالُواْ مَا هذا} يعنون القرآنَ الكريمَ {إِلاَّ إِفْكٌ} أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع {مُّفْتَرًى} بإسنادِه إلى الله تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ وبالثَّاني نظمَه المعجزَ {لَمَّا جَاءهُمْ} من غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ وما في لمّا من المسارعةِ إلى البتِّ بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه.

.تفسير الآيات (44- 46):

{وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}
{وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قولِه تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} وقولِه تعالى: {أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} وقرئ: {يدرسُونها} و{يدَّرسونها} بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ.
{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ، وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأممِ المتقدِّمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا. {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي ما بلغَ هؤلاءِ عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاءِ من البيِّناتِ والهُدى {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على كذَّب الذينَ إلخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} إلخ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي ما أُرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} على أنَّه بدلٌ منها أو بيانٌ لها أو خبر مبتدأ محذوفٍ أي هي أن تقومُوا من مجلس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو تنتصبُوا للأمرِ خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ {مثنى وفرادى} أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدحامَ يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} في أمرِه عليه الصلاة والسلام وما جاء به لتعلمُوا حقيقتَه وحقِّيتَه وقوله تعالى: {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} استئنافٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى للتَّنبيه على طريقةِ النَّظر والتَّأملِ بأنَّ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي تحتَه ملك الدُّنيا والآخرةِ لا يتصدَّى لادِّعائِه إلا مجنونٌ لا يُبالي بافتضاحِه عند مطالبته بالبُرهان وظهور عجزهِ، أو مؤيَّدٌ من عندِ الله مرشَّح للنُّبوةِ واثق بحجَّتهِ وبرهانه وإذ قد علمتُم أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرجحُ العالمين عقلاً وأصدقُهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلُهم علماً وأحسنُهم عملاً وأجمعُهم للكمالاتِ البشريَّةِ وجبَ أنْ تصدِّقُوه في دعواهُ فكيف وقد انضمَّ إلى ذلك معجزاتٌ تخرُّ لها صمُّ الجبالِ. ويجوزُ أن يتعلَّق بما قبلَه على معنى ثم تتفكَّروا فتعلموا ما بصاحِبكم من جنَّةٍ وقد جُوِّز أن تكون ما استفهاميةً على معنى ثم تتفكَّروا أي شيء به من آثارِ الجنونِ {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذابُ الآخرةِ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ في نَسَمِ السَّاعةِ.

.تفسير الآيات (47- 50):

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ} أي أيُّ شيءٍ سألتُكم من أجرٍ على الرِّسالة {فَهُوَ لَكُمْ} والمرادُ نفيُ السُّؤالِ رأساً كقولِ مَن قال لمن لم يُعطه شيئاً إنْ أعطيتني شيئاً فخُذه وقيل مَا موصولةٌ أُريد بها ما سألهم بقوله تعالى: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} وقولِه تعالى: {لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} واتخاذ السَّبيلِ إليه تعالى منفعتهم الكُبرى وقُرباه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قرباهم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شيء شَهِيدٍ} مطَّلع يعلمُ صدقي وخلوصَ نيتَّي وقرئ: {إن أجريْ} بسكونِ الياءِ {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} أي يُلقيه ويُنزله على من يجتبيهِ من عبادِه أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه أو يرمي به في أقطارِ الآفاقِ فيكون وعداً بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ {علام الغيوب} صفةٌ محمولةٌ على محلِّ إنَّ واسمِها أو بدلٌ من المستكنِّ في يقذفُ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. وقرئ بالنَّصبِ صفة لربِّي أو مقدَّراً بأعنِي وقرئ بكسرِ الغَين وبالفتحِ كصبور مبالغةُ غائب {قُلْ جَاء الحق} أي الإسلامُ والتَّوحيدُ {وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي زهقَ الشِّركُ بحيث لم يبقَ أثرُه أصلاً مأخوذُ من هلاكِ الحيِّ فإنَّه إذا هلكَ لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادةٌ فجُعل مَثَلاً في الهلاكِ بالمرَّة ومنْهُ قولُ عُبيْدٍ:
أَقْفرَ مِن أَهْلِه عُبيد ** فليسَ يُبدي وَلاَ يُعيدُ

وقيل الباطلُ إبليسُ أو الصَّنُم والمعنى لا يُنشىء خلقاً ولا يُعيد أو لا يُبدىء خيراً لأهلِه ولا يُعيد وقيل ما استفهاميِّةٌ منصوبةٌ بما بعدَها {قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطَّريقِ الحقِّ {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} فإنَّ وبالَ ضلالِي عليها لأنَّه بسببها إذ هي الجاهلةُ بالذَّاتِ والأمَّارةُ بالسُّوءِ وبهذا الاعتبارِ قُوبل الشَّرطيةُ بقولِه تعالى: {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} لأنَّ الاهتداءَ بهدايتِه وتوفيقِه. وقرئ: {ربِّيَ} بفتح الياء {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} يعلم قولَ كلَ من المُهتدي والضَّالِّ وفعلَه وإنْ بالغَ في إخفائِهما.

.تفسير الآيات (51- 54):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
{وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} عند الموتِ أو البعثِ أو يومَ بدرٍ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ ثمانين ألفاً يغزُون الكعبةَ ليخرِّبوها فإذا دخلُوا البيداءَ خُسف بهم، وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً هائلاً {فَلاَ فَوْتَ} فلا يفوتُون الله عزَّ وجلَّ بهربٍ أو تحصُّنٍ. {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهرِ الأرضِ أو من الموقفِ إلى النَّارِ أو من صحراء بدرٍ إلى قَليبها أو من تحت أقدامهم إذا خُسف بهم والجملةُ معطوفة على فَزِعوا وقيل على لا فوتَ على معنى إذْ فَزعُوا فلم يفوتُوا وأُخذوا ويؤيده أنه قرئ: {وأُخذ} بالعطف على محلِّه أي فلا فوت هنا وهناك أخذٌ. {وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي بمحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام وقد مرَّ ذكرُه في قوله تعالى ما بصاحِبكم. {وأنى لَهُمُ التناوش} التَّناوشُ التَّناولُ السَّهلُ أي ومِن أينَ لهم أنْ يتناولُوا الإيمانَ تناولاً سهلاً {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} فإنَّه في حيِّزِ التكليف وهُم منه بمعزلٍ بعيدٍ وهو تمثيلُ حالِهم في الاستخلاصِ بالإيمانِ بعد ما فاتَ عنهم وبعُد بحالِ مَنْ يُريدُ أنْ يتناولَ الشَّيءَ من غَلْوةٍ تناوله من ذراعٍ في الاستحالة. وقرئ بالهمزِ على قلبِ الواوِ لضمِّها وهو من نأشتُ الشَّيءَ إذا طلبتُه، وعن أبي عمرو: التَّناؤشُ بالهمزِ التَّناولُ من بُعدٍ من قولِهم نأشتُ إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ ومنه قولُ مَن قالَ:
تمنَّى نَئيشا أنْ يكون أطاعنِي ** وقد حدثتْ بعدَ الأمرِ أمورُ

{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ} أي بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أو بالعذابِ الشَّديدِ الذي أنذرهم إياه {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ ذلك في أوانِ التَّكليفِ {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} ويَرجمون بالظَّنِّ ويتكلَّمون بما لم يظهر لهم في حقِّ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من المطاعنِ أو في العذاب المذكورِ من بت القول بنفيه {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} من جهةٍ بعيدةٍ من حاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث ينسبونَه صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعرِ والسِّحرِ والكذب وأنَّ أبعدَ شيءٍ ممَّا جاءَ به الشِّعرُ والسِّحرُ وأبعدُ شيءٍ من عادته المعروفة فيما بين الدَّاني والقاصِي الكذبُ، ولعله تمثيلٌ لحالِهم في ذلك بحالِ مَن يرمي شيئاً لا يراهُ من مكانٍ بعيدٍ لا مجالَ للوهم في لحوقِه. وقرئ: {ويُقذفون} على أنَّ الشَّيطانَ يلقي إليهم ويلقِّنهم ذلك وهو معطوفٌ على قد كفروا به على حكاية الحال الماضيةِ أو على قالُوا فيكون تمثيلاً لحالِهم بحال القاذفِ في تحصيل ما ضيِّعُوه من الإيمان في الدُّنيا {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مع نفعِ الإيمانِ والنَّجاة من النَّارِ. وقرئ بإشمامِ الضَّمِّ للحاء {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي بأشباهِهم من كفرةِ الأُمم الدَّارجة {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مُّرِيبِ} أي مُوقع في الرِّيبةِ أو ذي ربيةٍ. والأوَّلُ منقولٌ ممَّن يصحُّ أن يكونَ مُريباً من الأعيانِ إلى المعنى والثاني من صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ كما يُقال شعرٌ شاعرٌ والله أعلم.
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ سبأٍ لم يبقَ رسولٌ ولا نبيٌّ إلاَّ كان له يومَ القيامة رفيقاً ومُصافحاً».

.سورة فاطر:

مكية وهي خمس وأربعون آية.

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
{الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والارض} مبدِعهما من غير مثالٍ يحتذيِه ولا قانونٍ ينتحيهِ. من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ. {جَاعِلِ الملائكة} الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى: {رُسُلاً} منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الإضافة بالاتِّفاقِ وأمَّا على الوجهِ الأوَّلِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ: اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه. وقرئ: {جاعلُ} بالرَّفعِ على المدح وقرئ: {الذي فَطَرَ السموات والارض وَجَعَلَ الملائكة} أي جاعلهم وسائطَ بينه تعالى وبين أنبيائه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بينه تعالى وبين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصييريَّاً أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحاليَّةِ وقرئ: {رُسْلاً} بسكونِ السِّينِ {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أنَّ أُولاء اسمُ جمعٍ لذا. ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنجةٍ متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً لكلِّ واحد منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة. ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح» ورُوي «أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يترآى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعلَ فخرج عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورتِه فغُشي عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثمَّ أفاقَ وجيريلُ مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بين كتفيِه فقال: سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريل عليه السَّلامُ فكيف لو رأيتَ إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ».
{يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَاء} استئنافٌ مقررٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلك من أحكام مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بها الوصفُ وما رُوي عن النبي عليه الصَّلاةُ والسلامُ من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها. وقولُه تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولَ قُدرته تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بيِّناً.