فصل: تفسير الآيات (58- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (58- 60):

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)}
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثيرٌ من أهلِ قريةٍ كانت حالُهم كحالِ هؤلاءِ في الأمنِ وخفضِ العيشِ والدَّعةِ حتَّى أشِرُوا فدمَّرنا عليهم وخرَّبنا ديارَهم {فَتِلْكَ مساكنهم} خاويةٌ بما ظلمُوا {لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ} من بعدِ تدميرِهم {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا زماناً قليلاً إذْ لا يسكنُها إلا المارَّةُ يوماً أو بعضَ يومٍ أو لم يبقَ من يسكنُها إلا قليلاً من شؤمِ معاصيِهم {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحدٌ يتصرَّفُ تصرَّفَهم في ديارِهم وسائرِ ذاتِ أيديهم. وانتصابُ معيشتَها بنزعِ الخافضِ أو بجعلِها ظرفاً بنفسِها كقولِك: زيدٌ ظنِّي مقيمٌ أو بإضمارِ زمانٍ مضافٍ إليه أو بجعلِه مفعولاً لبطرتْ بتضمينِ معنى كفرتْ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيانِ إهلاكِ القُرى المذكورةِ أي وما صحَّ وما استقامَ بل استحال في سنَّته المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ أو ما كان في حكمِه الماضِي وقضائِه السَّابق أنْ يُهلكَ قبلَ الإنذارِ بل كانتْ عادتُه أنْ لا يهلكَها {حتى يَبْعَثَ فِي أُمّهَا} أي في أصلِها وقُصبتِها التي هي أعمالُها وتوابعُها لكون أهلِها أفطنَ وأنبلَ {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} الناطقةَ بالحقِّ ويدعُوهم إليه بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ وذلك لإلزام الحجَّة وقطع المعذرةِ بأنْ يقولوا: لولا أرسلتَ إلينا رسولاً فنتبعَ آياتِك. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لتربيةِ المهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ. وقولُه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى} عطفٌ على ما كانَ ربُّك. وقولُه تعالى: {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي وما كنَّا مهلكينَ لأهلِ القُرى بعد ما بعثنا في أمِّها رسولاً يدعُوهم إلى الحقِّ ويُرشدهم إليه في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِهم ظالمينَ بتكذيبِ رسولِنا والكفرِ بآياتِنا فالبعثُ غايةٌ لعدمِ صحَّة الإهلاكِ بموجبِ السنَّة الإلهية لا لعدمِ وقوعِه حتَّى يلزمَ تحققُ الإهلاكِ عقيبَ البعثِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ بني إسرائيلَ.
{وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء} من أمور الدُّنيا {فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا} أي فهو شيءٌ شأنه أنْ يتمتَّعَ ويتزينَ به أياماً قلائل {وَمَا عِندَ الله} وهو الثَّوابُ {خَيْرٌ} في نفسِه من ذلك لأنَّه لذَّةٌ خالصةٌ عن شوائبِ الألم وبهجةٌ كاملة عارية عن سِمةِ الهمِّ {وأبقى} لأنَّه أبديّ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ألا تتفكرونَ فلا تعقلون هذا الأمرَ الواضحَ فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ. وقرئ بالياءِ على الالتفات المبنيِّ على اقتضاء سوء صنيعهم الإعراضَ عن مخاطبتِهم.

.تفسير الآيات (61- 63):

{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)}
{أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً} أي وَعداً بالجنَّة فإنَّ حسنَ الوعدِ بحسن الموعودِ {فَهُوَ لاَقِيهِ} أي مدركُه لا محالةَ لاستحالةِ الخُلفِ في وعدِه تعالى ولذلك جِيء بالجملة الاسميةِ المفيدة لتحققِه البتةَ وعُطفت بالفاء المنبئةِ عن معنى السببيةِ {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا} الذي هو مشوبٌ بالآلامِ منغصٌ بالأكدارِ مستتبع للتَّحسرِ على الانقطاعِ. ومعنى الفاءِ الأُولى ترتيبُ إنكارِ التَّشابهِ بين أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرةِ على ما قبلها من ظهورِ التَّفاوتِ بين متاعِ الحياة الدُّنيا وبين ما عندَ الله تعالى، أي أبعدَ هذا التَّفاوت الظاهرِ يسوَّى بين الفريقينِ. وقولُه تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} عطفٌ على متَّعناه داخلٌ معه في حيِّز الصِّلةِ مؤكدٌ لإنكارِ التَّشابهِ مقررٌ له كأنَّه قيل: كمن متَّعناه متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثم نحضرُه أو أحضرنَاه يومَ القيامةِ النَّارَ أو العذابَ. وإيثارُ الجملة الاسميَّةِ للدلالةِ على التحققِ حتماً، وفي جعله من جُملة المحضرينَ من التَّهويلِ ما لا يخفى. وثمَّ للتَّراخي في الزَّمانِ أو في الرُّتبةِ. وقرئ: {ثم هْو} بسكونِ الهاءِ تشبيهاً للمنفصلِ بالمتَّصلِ.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ بالعطفِ على يومَ القيامةِ لاختلافهما عُنواناً وإنِ اتَّحدا ذاتاً أو بإضمارِ اذكُر {فَيَقُولُ} تفسيرٌ للنِّداءِ {أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي الذينَ كنتُم تزعمونَهم شركائي، فحُذف المفعولانِ معاً ثقةً بدلالةِ الكلامِ عليهما {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على حكايةِ السُّؤالِ كأنَّه قيل: فماذا صدرَ عنهُم حينئذٍ؟ فقيل: قالَ: {الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وهو شركاؤهم مِن الشَّياطينِ أو رؤساؤهم الذين اتَّخذوهم أرباباً من دونِ الله تعالى بأنْ أطاعوهم في كلِّ ما أمروهم به ونهَوا عنه، ومعنى حقَّ عليهم القول أنه ثبتَ مُقتضاه وتحقَّق مؤدَّاه وهو قوله تعالى: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} وغيره من آياتِ الوعيد. وتخصيصُهم بهذا الحكم مع شمولِه للأتباع أيضاً لأصالتِهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ حسبما يشعرُ به قولُه تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} ومسارعتُهم إلى الجوابِ مع كون السؤال للعَبَدة إما لتفطُّنهم أنَّ السؤال عنهم لاستحضارِهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأنَّ العَبَدةَ سيقولون: هؤلاءِ أضلُّونا وإمَّا لأنَّ العبَدَة قد قالوه اعتذاراً وهؤلاء إنَّما قالوا ما قالوا ردّاً لقولِهم إلا أنَّه لم يُحكَ قولُ العَبَدة إيجازاً لظهوره {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا} أي هم الذين أغويناهُم فحذف الرَّاجع إلى الموصولِ ومرادُهم بالإشارة بيانُ أنَّهم يقولون ما يقولون بمحضرٍ منهم وأنَّهم غيرُ قادرينَ على إنكارِه وردِّه وقوله تعالى: {أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} هو الجوابُ حقيقةً وما قبله تمهيدٌ له أي ما أكرهناهم على الغيِّ وإنما أغويناهم بطريقِ الوسوسةِ والتَّسويل لا بالقسر والإلجاء فغَووا باختيارِهم غيّاً مثل غيِّنا باختيارِنا ويجوز أن يكون الذين صفةً لاسم الإشارة وأغويناهم الخبرَ {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} ومنهم وممَّا اختارُوه من الكفرِ والمَعَاصي هو منهم وهو تقريرٌ لما قبله ولذلك لم يعطف عليهِ وكذا قولُه تعالى: {مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي ما كانُوا يعبدوننا وإنَّما كانوا يعبدون أهواءَهم، وقيل: ما مصدريةٌ متَّصلة بقوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا} أي تبرأنا من عبادتِهم إيَّانا.

.تفسير الآيات (64- 68):

{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)}
{وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} إما تهكُّماً أو تبكيتاً لهم {فَدَعَوْهُمْ} لفرطِ الحيرةِ {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ضرورةَ عدمِ قُدرتهم على الاستجابةِ والنُّصرة {وَرَأَوُاْ العذاب} قد غشيهم {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} لوجهٍ من وجوهِ الحيلِ يدفعون به العذابَ أو إلى الحقِّ لما لقُوا ما لقُوا وقيل: «لو» للتَّمنِّي أي تمنَّوا لو أنَّهم كانُوا مهتدين.
{وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} عطفٌ على ما قبله سُئلوا أولاً عن إشراكِهم وثانياً عن جوابِهم للرُّسلِ الذين نَهَوهم عن ذلك {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ} أي صارتْ كالعَمَى عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعَمُوا عن الأنباءِ وقد عكس للمبالغةِ والتنبيهِ على أنَّ ما يحضر الذهن يفيضُ عليه ويصل إليه من خارجٍ فإذا أخطأ لم يكُن له حيلةٌ إلى استحضارِه. وتعديةُ الفعلِ بعلى لتضمنه معنى الخفاءِ والاشتباهِ، والمرادُ بالأنباءِ إمَّا ما طلب منهم ممَّا أجابُوا به الرُّسلَ أو جميعُ الأنباءِ وهي داخلةٌ فيه دخولاً أولياً وإذا كانتِ الرُّسل عليهم الصَّلاة والسَّلام يفوِّضون العلمَ في ذلك المقامِ الهائلِ إلى علاَّم الغُيوب مع نزاهتِهم عن غائلةِ المسؤول فما ظنُّك بأولئكَ الضُّلاَّل من الأممِ {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} لا يسألُ بعضُهم بعضاً عن الجوابِ لفرطِ الدَّهشة أو العلمِ بأنَّ الكلَّ سواءٌ في الجهل {فَأَمَّا مَن تَابَ} من الشركِ {وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي جمعَ بين الإيمانِ والعملِ الصَّالح {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي الفائزينَ بالمطلوبِ عنده تعالى النَّاجينَ عن المهروبِ، وعسى للتَّحقيقِ على عادةِ الكرامِ أو للترجِّي من قبلِ التَّائبِ بمعنى فليتوقعِ الإفلاحَ.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أنْ يخلقَه {وَيَخْتَارُ} ما يشاءُ اختيارَه من غيرِ إيجابٍ عليه ولا منعٍ له أصلاً {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي التَّخيُّرُ كالطِّيرةِ بمعنى التَّطيرِ، والمرادُ نفيُ الاختيارِ المؤثرِ عنهم وذلك ممَّا لا ريبَ فيه. وقيل: المرادُ أنَّه ليس لأحدٍ من خلقِه أنْ يختارَ عليه ولذلك خَلا عن العاطفِ ويؤيدُه ما رُوي أنَّه نزل في قولِ الوليدِ بنِ المُغيرةِ {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} والمعنى لا يبعثُ الله تعالى الرُّسلَ باختيارِ المرسَلِ إليهم وقيل: معناه ويختار الذي كان لهم فيه الخيرُ والصَّلاحُ {سبحان الله} أي تنزَّه بذاتِه تنزُّهاً خاصّاً به من أنْ ينازعَه أحدٌ أو يزاحم اختيارَه اختيارٌ {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكِهم أو عن مشاركةِ ما يشركونَه به.

.تفسير الآيات (69- 73):

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} كعداوة رسولِ للها صلى الله عليه وسلم وحقدِه {وَمَا يُعْلِنُونَ} كالطَّعنِ فيه {وَهُوَ الله} أي المستحقُّ للعبادة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} لا أحدَ يستحقُّها إلا هو {لَهُ الحمد فِي الاولى والاخرة} لأنَّه المولى للنِّعم كلِّها عاجلِها وآجلِها على الخلق كافةً يحمَده المؤمنون في الآخرةِ كما حمِدُوه في الدُّنيا بقولِهم: الحمدُ لله الذي أذهبَ عنَّا الحزنَ الحمدُ لله الذي صدقنا وعدَه ابتهاجاً بفضلِه والتذاذاً بحمدِه {وَلَهُ الحكم} أي القضاءُ النَّافذُ في كلِّ شيءٍ من غيرِ مشاركةٍ فيه لغيرِه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالبعثِ لا إلى غيرِه.
{قُلْ} تقريراً لما ذُكر {أَرَءيْتُمْ} أي أخبرونِي {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} دائماً من السَّرد وهو المتابعةُ والاطِّرادِ والميمُ مزيدةٌ كما في دلامص من الدِّلاص يقال: درع دلاصٌ أي ملساءُ لينةٌ {إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِ الشَّمس تحت الأرضِ أو تحريكها حول الأُفقِ الغائر {مَّنْ إله غَيْرُ الله} صفةٌ لإله {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} صفةٌ أخرى لها عليها يدورُ أمرُ التبكيتِ والإلزامِ كما في قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} وقوله تعالى: {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} ونظائرِهما خلا أنَّه قُصدَ بيانُ انتفاءِ الموصوفِ بانتفاءِ الصِّفة ولم يُقَل: هل إله إلخ لإيرادِ التَّبكيت والإلزامِ على زعمِهم. وقرئ: {بضئاءٍ} بهمزتينِ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} هذا الكلامَ الحقَّ سماعَ تدبُّرٍ واستبصارٍ حتَّى تُذعنوا له وتعملوا بموجبِه. {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِها في وسطِ السَّماء أو بتحريكِها على مدارٍ فوقَ الأُفق {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحةً من متاعبِ الأشغالِ، ولعلَّ تجريدَ الضَّياءِ عن ذكرِ منافعِه لكونِه مقصوداً بذاتِه ظاهرَ الاستتباعِ لِما نيطَ به من المنافعِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} هذه المنفعةَ الظَّاهرةَ التي لا تَخْفى على مَن له بصرٌ.
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليلِ {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في النَّهارِ بأنواعِ المكاسبِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكي تشكرُوا نعمتَه تعالى فعلَ ما فعلَ أو لكي تعرفُوا نعمتَه تعالى وتشكروه عليها.

.تفسير الآيات (74- 76):

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)}
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ باذكُر {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تقريعٌ إثرَ تقريعٍ للإشعارِ بأنَّه لا شيء أجلبُ لغضبِ الله عزَّ وجلَّ من الإشراكِ كما لا شيءَ أدخلُ في مرضاتِه من توحيدِه سبحانَه. وقولُه تعالى: {وَنَزَعْنَا} عطفٌ على يُناديهم. وصيغةُ الماضي للدِّلالةِ على التَّحققِ أو حالٌ من فاعله بإضمارِ قد. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِ النَّزعِ وتهويلِه أي أخرجنَا {مِن كُلّ أمَّةٍ} من الأممِ {شَهِيداً} نبياً يشهدُ عليهم بما كانُوا عليه كقولِه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} {فَقُلْنَا} لكلِّ أمَّةٍ من تلك الأُمم {هَاتُواْ برهانكم} على صحَّة ما كنتُم تدينون به {فَعَلِمُواْ} يومئذٍ {أَنَّ الحق لِلَّهِ} في الإلهية لا يشاركه فيها أحدٌ {وَضَلَّ عَنْهُم} أي غابَ عنهم غيبةَ الضَّائعِ {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} في الدُّنيا من الباطلِ.
{إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى} كان ابنَ عمِّه يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السَّلام وموسى عليه السَّلام ابن عمران بن قاهث وقيل: كان موسى عليه السلام ابنَ أخيهِ وكان يسمَّى المنوَّر لحسنِ صورتِه وقيل: كان أقرأَ بني إسرائيلَ للتَّوراة ولكنَّه نافق كما نافقَ السَّامريُّ وقال: إذا كانت النُّبوة لموسى والمذبحُ والقربانُ لهارونَ فما لي. ورُوي أنَّه لما جاوز بهم مُوسى عليه السَّلام البحرَ وصارتِ الرِّسالةُ والحُبورةُ والقُربان لهارونَ وجد قارونُ في نفسِه وحسدَهُما فقال لموسى: الأمرُ لكما ولستُ على شيءٍ إلى متى أصبرُ؟ قال موسى عليه السَّلام: هذا صُنعُ الله تعالى. قال: لا أُصدِّقك حتَّى تأتيَ بآيةٍ، فأمر رؤساءَ بني إسرائيلَ أنْ يجيءَ كلُّ واحدٍ بعصاةٍ فحزمها وألقاها في القبَّة التي كان الوحيُ ينزلُ إليه فيها فكانوا يحرسون عصيَّهم بالليل فأصبحُوا فإذا بعصا هارونَ تهتزُّ ولها ورقٌ أخضرُ فقال قارون: ما هو بأعجبَ ممَّا تصنعُ من السِّحرِ وذلك قولُه تعالى: {فبغى عَلَيْهِمْ} فطلبَ الفضلَ عليهم وأنْ يكونُوا تحتَ أمرِه أو ظلمَهم، قيل: وذلكَ حينَ ملَّكه فرعونُ على بني إسرائيلَ وقيل: حسدَهم وذلك ما ذُكر منه في حقِّ موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ {وآتيناه من الكنوز} أي الأموالِ المُدَّخرةِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} أي مفاتحَ صناديقِه وهو جمعُ مِفتح بالكسر وهو ما يُفتح به وقيل: خزانته وقياسُ واحدِها المَفتح بالفتحِ {لتنوء بالعصبة أولى القوة} خبر إن والجملةُ صلةُ ما وهُو ثاني مفعُولَيْ آتَى. وناءَ به الحملُ إذا أثقلَه حتَّى أمالَه والعُصبة والعُصابةُ الجماعةُ الكثيرةُ. وقرئ: {لينوءُ} بالياءِ على إعطاءِ المضافِ حكمَ المضافِ إليهِ كما مرَّ في قولِه تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} منصوبٌ بتنوءُ وقيل: ببغى ورُدَّ بأنَّ البغيَ ليس مقيَّداً بذلك الوقتِ وقيل: بآتيناهُ ورُدَّ بأنَّ الإيتاءَ أيضاً غيرُ مقيَّدٍ به وقيل: بمضمرٍ فقيل: هو اذكُر وقيل: هو أظهرَ الفرحَ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بما بعدَهُ من قولِه تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} وتكون الجملةُ مقررةً لبغيه {لاَ تَفْرَحْ} أي لا تبطرْ والفرحُ في الدُّنيا مذمومٌ مُطلقاً لأنَّه نتيجةُ حبِّها والرِّضا بها والذهولِ عن ذهابِها فإنَّ العلمَ بأن ما فيها من اللذةِ مفارقةٌ لا محالةَ يوجبُ التَّرحَ حتماً ولذلكَ قالَ تعالى: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} وعُلِّل النهيُ هاهنا بكونِه مانعاً من محبَّتِه عزَّ وعلاَ فقيلَ: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} أي بزخارفِ الدُّنيا.