فصل: تفسير الآيات (66- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (51- 54):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)}
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشدَ اللائقَ به وبأمثاله من الرسل الكبارِ وهو الاهتداءُ الكاملُ المستند إلى الهداية الخاصةِ الحاصلةِ بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمةِ باستعمال النواميسِ الإلهية، وقرئ: {رَشَدَه} وهما لغتان كالحُزْن والحَزَن {مِن قَبْلُ} أي من قبل إيتاءِ موسى وهارونَ التوراةَ، وتقديمُ ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التامّ، وقيل: من قبل استنبائِه أو قبلَ بلوغِه ويأباه المقام {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أي بأنه أهلٌ لما آتيناه وفيه من الدليل على أنه تعالى عالمٌ بالجزئيات مختارٌ في أفعاله ما لا يخفى.
{إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ} ظرفٌ لآتينا على أنه وقت متّسعٌ وقع فيه الإيتاءُ وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله، وقيل: مفعولٌ لمضمر مستأنَفٍ وقع تعليلاً لما قبله أي اذكر وقتَ قولِه لهم: {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون} لتقف على كمال رشدِه وغايةِ فضله، والتِمثالُ اسمٌ لشيء مصنوعٍ مشبَّهٍ بخلق من خلائق الله تعالى وهذا تجاهلٌ منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بغير التي يُطلب بها بيانُ الحقيقة، أو شرحُ الاسم كأنه لا يعرف أنها ماذا مع إحاطته بأن حقيقتها حجرٌ أو شجرٌ اتخذوها معبوداً، وعبّر عن عبادتهم لها بمطلق العكُوف الذي هو عبارةٌ عن اللزوم والاستمرار على الشير لغرض من الأغراض قصداً إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخاً لهم على إجلالها، واللام في لها للاختصاص دون التعديةِ وإلا لجيء بكلمة على، والمعنى أنتم فاعلون العكوفَ لها، وقد جُوّز تضمينُ العكوف معنى العبادة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} أجابوا بذلك لما أن مآلَ سؤاله عليه السلام الاستفسارُ عن سبب عبادتِهم لها كما ينبىء عنه وصفه عليه السلام إياهم بالعكوف لها، كأنه قال: ما هي؟ هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها؟ فلما لم يكن لهم ملجأٌ يعتدّ به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمي حيث {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ} الذين سنّوا لكم هذه السنةَ الباطلة {فِى ضلال} عجيبٍ لا يقادَر قدرُه {مُّبِينٌ} أي ظاهر بيّن بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونُه كذلك، ومعنى كنتم مطلقُ استقرارِهم على الضلال لا استقرارُهم الماضي الحاصلِ قبل زمانِ الخطاب المتناولِ لهم ولآبائهم، أي والله لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم ظاهرٍ لعدم استنادِه إلى دليل ما، والتقليدُ إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة.

.تفسير الآيات (55- 58):

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
{قَالُواْ} لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعاداً لكون ما هم عليه ضلالاً وتعجباً من تضليله عليه السلام إياهم بطريق التوكيدِ القسمي، وتردداً في كون ذلك منه عليه السلام على وجه الجد {أَجِئْتَنَا بالحق} أي بالجِد {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} فتقول ما تقول على وجه المداعبةِ والمزاحِ، وفي إيراد الشِّقِّ الأخير بالجملة الاسميةِ الدالة على الثبات إيذانٌ برُجْحانه عندهم. {قَالَ} عليه السلام إضراباً عما بنَوا عليه مقالتَهم من اعتقاد كونِها أرباباً لهم كما يُفصح عنه قولُهم: نعبدُ أصناماً فنظل لها عاكفين، كأنه قيل: ليس الأمر كذلك {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} وقيل: هو إضرابٌ عن كونه لاعباً بإقامة البرهانِ على ما ادّعاه، وضميرُ هن للسموات والأرض، وصَفه تعالى بإيجادهن إثرَ وصفِه تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقاً للحق وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية، أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه من غير مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه، ورجْعُ الضمير إلى التماثيل أدخلُ في تضليلهم وأظهرُ في إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغني عن التأمل في كون ما يعبُدونه من جملة المخلوقات {وَأَنَاْ على ذلكم} الذي ذكرتُه من كون ربكم ربَّ السموات والأرض فقط دون ما عداه كائناً ما كان {مّنَ الشاهدين} أي العالِمين به على سبيل الحقيقةِ المُبرهنين عليه فإن الشاهدَ على الشيء مَنْ تحققه وحقّقه، وشهادتُه على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه وإثباتُه بها، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه {وتالله} وقرى بالباء وهو الأصلُ والتاء بدل من الواو التي هي بدل من الأصل وفيها تعجب {لاكِيدَنَّ أصنامكم} أي لأجتهدنّ في كسرها وفيه إيذانٌ بصعوبة الانتهاز وتوقّفِه على استعمال الحيل وإنما قاله عليه السلام سرًّا، وقيل: سمعه رجل واحد {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} من عبادتها إلى عيدكم، وقرئ: {تَوَلّوا} من التولي بحذف إحدى التاءين ويعضُدها قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} والفاء في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ} فصيحةٌ أي فولَّوا فجعلهم {جُذَاذاً} أي قُطاعاً فُعال بمعنى مفعول من الجذّ الذي هو القطعُ كالحُطام من الحطْم الذي هو الكسرُ، وقرئ بالكسر وهي لغة أو جمعُ جذيذ كخِفاف وخفيف، وقرئ بالفتح وجُذُذاً جمع جذيذ وجُذَذاً جمع جُذة. روي أن آزر خرج به في يوم عيدٍ لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن تَرجِعَ بركتَه الآلهةُ على طعامنا، فذهبوا وبقيَ إبراهيمُ عليه السلام فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفّاً وثمّةَ صنمٌ عظيم مستقبلَ الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكلَّ بفأس كانت في يده ولم يبق إلا الكبيرُ وعلّق الفأس في عنقه وذلك قوله تعالى: {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي للأصنام {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى إبراهيمَ عليه السلام {يَرْجِعُونَ} فيحاجّهم بما سيأتي فيحجّهم ويبكّتهم، وقيل: يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبودِ أن يُرجَعَ إليه في المُلمّات، وقيل: يرجِعون إلى الله تعالى وتوحيدِه عند تحقّقهم عجزَ آلهتِهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم.

.تفسير الآيات (59- 65):

{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)}
{قَالُواْ} أي حين رجعوا من عيدهم ورأَوا ما رأوا {مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا} على طريقة الإنكارِ والتوبيخِ والتشنيع، وإنما عبروا عنها بما ذكر ولم يشيروا إليها بهؤلاء وهي بين أيديهم مبالغةً في التشنيع وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} استئنافٌ مقرر لما قبله، وقيل: مَنْ موصولةٌ وهذه الجملةُ في حيز الرفع على أنها خبرٌ لها، والمعنى الذي فعل هذا الكسرَ والحطْمَ بآلهتنا إنه معدودٌ من جملة الظَّلَمة إما لجُرأته على إهانتها وهي حقيقةٌ بالإعظام أو لإفراطه في الكسر والحطْمِ وتماديه في الاستهانة بها، أو بتعريض نفسِه للهلكة {قَالُواْ} أي بعضٌ منهم مجيبين للسائلين {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي يَعيبُهم فلعله فعل ذلك بها فقوله تعالى: {يَذْكُرُهُمْ} إما مفعولٌ ثانٍ لسمِع لتعلّقه بالعين أو صفةٌ لفتى مصحِّحةٌ لتعلقه به، إذا كان القائلون سمِعوه عليه السلام بالذات يذْكُرهم وإن كانوا قد سمِعوا من الناس أنه عليه السلام يذكرهم بسوء فلا حاجة إلى المصحّح {يُقَالُ لَهُ إبراهيم} صفةٌ أخرى لفتى أي يطلق عليه هذا الاسم.
{قَالُواْ} أي السائلون {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} أي بمرأىً منهم بحيث نصبَ أعينهم في مكان مرتفع لا يكاد يخفى على أحد {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي يحضُرون عقوبتنا له، وقيل: لعلهم يشهدون أي بفعله أو بقوله ذلك فالضميرُ حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مُبهم أو معهود {قَالُواْ} استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم، كأنه قيل: فماذا فعلوا به عليه السلام بعد ذلك؟ هل أتَوا به أو لا؟ فقيل: أتوا به ثم قالوا: {ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِبْرَاهِيمَ} اقتصاراً على حكاية مخاطبتِهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانَهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمرٌ محقق غني عن البيان.
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} مشيراً إلى الذي لم يكسِرْه، سلك عليه السلام مسلكاً تعريضياً يؤديه إلى مقصِده الذي هو إلزامُهم الحجّةَ على ألطف وجهٍ وأحسنِه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب، حيث أبرز الكبيرَ قولاً في معرض المباشِرِ للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرِض فعلاً بجعل الفأسَ في عنقه، وقد قصد إسنادَه إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنامُ غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفةً مرتّبةً للعبادة من دون الله سبحانه، وكان غيظُ كبيرِها أكبرَ وأشدَّ حسب زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعلَ باعتبار أنه الحاملُ عليه، وقيل: هو حكايةٌ لما يقود إلى تجويزه مذهبُهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرُهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدِر على ما هو أشدُّ من ذلك، ويحكى أنه عليه السلام قال: فعله كبيرُهم هذا، غضِبَ أن تُعبدَ معه هذه الصغارُ وهو أكبرُ منها فيكون تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيهَهم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنامَ، وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادرِ عنه إلى الصنم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلُغ فيه غرضه من إلزامهم الحجةَ وتبكيتِهم ومُثِّل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبتُه بخط رشيقٍ وأنت شهيرٌ بحسن الخطِّ: أأنت كتبْتَ؟ كان قصدُك تقريرَ الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لا نفيَها عنك وإثباتَها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصةَ المعنى في المثال المذكور مجردُ تقريرِ الكتابة لنفسك وإدعاءُ ظهور الأمر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيلِه في السؤال لابتنائه على أن صدورَها عن غيرك محتملٌ عنده مع استحالته عندك، ولا ريب في أن مرادَه عليه السلام من إسناد الكسرِ إلى الصنم ليس مجردَ تقريرِه لنفسه ولا تجهيلَهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم، بل إنما مرادُه عليه السلام توجيهُهم نحو التأملِ في أحوال أصنامهم كما ينبىء عنه قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانوُاْ يَنطِقُونَ} أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطِقوا وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقِلون مع أن السؤال موقوفٌ على السمع والعقل أيضاً، لما أن نتيجةَ السؤالِ هو الجوابُ وأن عدم نطقِهم أظهرُ وتبكيتَهم بذلك أدخلُ، وقد حصل ذلك أولاً حسبما نطق به قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} أي راجعوا عقولَهم وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضَرّةِ عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسَره بوجه من الوجوه، يستحيل أن يقدر على دفع مضرَّةٍ عن غيره أو جلبِ منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبوداً {فَقَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي بهذا السؤالِ لأنه كان على طريقة التوبيخِ المستتبِعِ للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام، لا من ظلمتوه بقولكم: إنه لمن الظالمين أو أنتم الظالمون بعبادتها لا مَنْ كسرها.
{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ} أي انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة، شبّه عودَهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيءِ أعلاه، وقرئ: {نُكّسوا} بالتشديد ونكَّسوا على البناء للفاعل أي نكّسوا أنفسَهم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} على إرادة القول أي قائلين: والله لقد علمت أنْ ليس شأنهم النطقُ فكيف تأمرُنا بسؤالهم؟ على أن المرادَ استمرارُ نفي النطقِ لا نفيُ استمراره كما تُوهمه صيغةُ المضارع.

.تفسير الآيات (66- 69):

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}
{قَالَ} مبكّتاً لهم {أَفَتَعْبُدُونَ} أي أتعلمون ذلك فتعبدون {مِن دُونِ الله} أي متجاوزين عبادتَه تعالى: {مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً} من النفع {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} فإن العلمَ بحاله المنافيةِ للألوهية مما يوجب الاجتنابَ عن عبادته قطعاً.
{أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} تضجّرٌ منه عليه الصلاة والسلام من إصرارهم على الباطل البيّن، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لمزيد استقباحِ ما فعلوا، وأفَ صوتُ المتضجِّر ومعناه قُبحاً ونتْناً واللامُ لبيان المتأفَّفِ له {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون قبحَ صنيعكم.
{قَالُواْ} أي قال بعضُهم لبعض لما عجَزوا عن المُحاجّة وضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّت بهم العللُ، وهكذا دَيدنُ المبطِلِ المحجوجِ إذا قَرَعْتَ شبُهتَه بالحجة القاطعة وافتُضِح لا يبقى له مفزِعٌ إلا المناصبةُ {حَرّقُوهُ} فإنه أشدُّ العقوبات {وانصروا ءالِهَتَكُمْ} بالانتقام لها {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي للنصر أو لشيء يُعتدّ به، قيل: القائلُ نمرودُ بنُ كنعان بن السنجاريب بن نمرود بن كوسِ بن حام بن نوح، وقيل: رجلٌ من أكراد فارسَ اسمُه هيون، وقيل: هدير خُسِفت به الأرض، روي أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنَوا له حظيرةً بكُوثَى، قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} فجمعوا له صِلاب الحطب من أصناف الخشبِ مدةَ أربعين يوماً فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحدٌ، حتى إن كانت الطير لتمرّ بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شَلْوة وهَجِها ولم يكد أحد يحوم حولها. فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليسُ وعلمهم عمل المِنْجنيق فعمِلوه، وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف الله تعالى به الأرضَ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم عَمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولاً فرمَوا به فيها فقال له جبريلُ عليهما السلام: هل لك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمُه بحالي، فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرةَ روضةً وذلك قوله تعالى: {قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم} أي كوني ذاتَ بردٍ وسلامٍ أي ابرُدي برداً غيرَ ضارّ وفيه مبالغات: جعلُ النارِ المسخرةِ لقدرته تعالى مأمورةً مطاوِعةً وإقامةَ كوني ذاتَ بردٍ مقامَ ابردي، ثم حذفُ المضافِ وإقامةُ المضاف إليه مُقامَه، وقيل: نصب سلاماً بفعله أي وسلمنا عليه. روي أن الملائكة أخذوا بضَبْعَي إبراهيمَ وأقعدوه على الأرض فإذا عينُ ماءٍ عذبٍ ووردٌ أحمرُ ونرجسٌ ولم تحرِق النارُ إلا وَثاقه، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال: ما كنت أطيبَ عيشاً مني إذ كنت فيها، قال ابن يسار: وبعث الله تعالى ملَكَ الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه، فنظر نمرودُ من صَرْحه فأشرف عليه فرآه جالساً في روضة مُونِقة ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة والنارُ محيطةٌ به، فناداه: يا إبراهيمُ هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: فقم فاخرُج، فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرودُ وعظّمه وقال: مَن الرجلُ الذي رأيته معك؟ قال: ذلك ملَك الظلّ أرسله ربي ليؤنسني، فقال: إني مقرِّبٌ إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك، فقال عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا، قال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعةَ آلافِ بقرة، فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذا ذاك ابنَ ستَّ عشْرةَ سنة.
وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلابَ النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله عز وجل لكن وقوعَ ذلك على هذه الهيئة مما يخرِق العاداتِ، وقيل: كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام أذاها كما تراه في السَّمَنْدل كما يشعر به ظاهرُ قوله تعالى: {على إبراهيم}.