فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (7- 11):

{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)}
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} إعادةٌ لما سبقَ قالُوا فائدتُها التنبيهُ على أنَّ لله تعالى جنودَ الرحمةِ وجنودَ العذابِ وأنَّ المرادَ هاهنا جنودُ العذابِ كما ينبىءُ عنه التعرضُ لوصفِ العزةِ. {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} أيْ على أُمتكَ لقولِه تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} {وَمُبَشّراً} على الطاعةِ {وَنَذِيرًا} على المعصيةِ.
{لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الخطابُ للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ ولأُمَّتهِ {وَتُعَزّرُوهُ} وتقوُّوه بتقويةِ دينِه ورسولِه {وَتُوَقّرُوهُ} وتُعظِّمُوه {وَتُسَبّحُوهُ} وتنزهوه أو تصلّوا له من السُّبحة. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} غدوة وعشياً. عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا: صلاةُ الفجرِ وصلاةُ الظهرِ وصلاةُ العصرِ. وقرئ الأفعالُ الأربعةُ بالياءِ التحتانيةِ، وقرئ: {وتُعزِرُوه} بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الزَّاي المكسورةِ، وقرئ بفتحِ التَّاءِ وضمِّ الزَّاي وكسرِها، و{تُعززوه} بزاءينِ، و{تُوقِروه} منْ أوقَرهُ بمعنى وَقَّره.
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} أيْ على قتالِ قُريشٍ تحتَ الشجرةِ. وقولُه تعالى: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} خبرُ إن يعني أنَّ مبايعتَكَ هي مبايعةُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّ المقصودَ توثيقُ العهدِ بمراعاةِ أوامِره ونواهِيه. وقولُه تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} حالٌ أو استثنافٌ مؤكدٌ له على طريقةِ التخييلِ، والمَعْنى أنَّ عقدَ الميثاقِ مَعِ الرسولِ كعقدِه مع الله تعالى من غيرِ تفاوتٍ بينَهما، كقولِه تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وقرئ: {إنَّما يُبايعونَ لله} أي لأجلِه ولوجهِه. {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي فمنَ نقضَ عهدَهُ فإنَّما يعودُ ضررُ نكثِه على نفسِه. وقرئ بكسرِ الكافِ. {وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله} بضمِّ الهاءِ فإنَّه أبقَى بعد حذفِ الواوِ توسلاً بذلكَ إلى تفخيمِ لامِ الجلالةِ. وقرئ بكسرِها أيْ ومَنْ وفَّى بعهدِه. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} هُو الجنةُ. وقرئ: {بما عَهد}، وقرئ: {فسنؤتيِه} بنونِ العظمةِ.
{سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} هم أعرابُ غِفارِ ومُزينةَ وجُهينةَ وأشجعَ وأسلمَ والدِّيلِ تخلفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حينَ استنفرَ من حولَ المدينةِ من الأعرابِ وأهلِ البوادِي ليخرجُوا معه عند إرادتِه المسيرَ إلى مكةَ عامَ الحديبيةِ معُتمراً حذراً من قريشٍ أنْ يتعرضُوا له بحربٍ أو يصدُّوه عن البيتِ وأحرمَ عليه الصلاةُ والسلامُ وساقَ معه الهديَ ليعلم أنَّه لا يريدُ الحربَ وتثاقلُوا عن الخروجِ وقالُوا نذهبُ إلى قومٍ قد غزَوه في عقرِ دارِه بالمدينةِ وقتلُوا أصحابَه قنقاتلُهم فأَوْحَى الله تعالى إليه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّهم سيعتلونَ ويقولونَ {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} ولم يكُن لنا مَنْ يخلفنَا فيهم ويقومُ بمصالحِهم ويحميهمِ من الضياعِ. وقرئ: {شَغَّلتنَا} بالتشديدِ للتكثيرِ {فاستغفر لَنَا} الله تعالى ليغفرَ لنَا تخلفنَا عنْكَ حيثُ لم يكن ذلكَ باختيارٍ بلْ عنِ اضطرارٍ {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} بدلٌ من سيقولُ أو استئنافٌ لتكذيبِهم في الاعتذارِ والاستغفارِ.
{قُلْ} رَدَّاً لهم عندَ اعتذارِهم إليكَ بأباطيلِهم. {فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً} أي فَمنْ يقدر لأجلكم منْ مشيئةِ الله تعالى وقضائِه على شيءٍ من النفعِ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} أيْ مَا يُضرُّكم من هلاكِ الأهلِ والمالِ وضياعِهما حتَّى تتخلفُوا عنِ الخروجِ لحفظِهما ودفعِ الضررِ عنهُما وقرئ: {ضُراً} بالضمِّ. {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أيْ ومَنْ يقدرُ على شيءٍ من الضررِ إنْ أرادَ بكُم ما يُنفعكُم من حفظِ أموالِكم وأهليكِم فأيُّ حاجةٍ إلى التخلفِ لأجلِ القيامِ بحفظِهما وهذا تحقيقٌ للحقِّ ورَدٌّ لهم بموجبِ ظاهرِ مقالتِهم الكاذبةِ، وتعميمُ الضرِّ والنفعِ لما يُتوقع على تقديرِ الخروجِ من القتلِ والهزيمةِ والظفرِ والغنيمةِ يردُّه قولُه تعالى: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فإنه إضرابٌ عمَّا قالُوا وبيانٌ لكذبِه بعدَ بيانِ فسادِه عَلى تقديرِ صدقهِ أي ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ بلْ كانَ الله خبيراً بجميعِ ما تفعلون من الأعمالِ التي من جُملتها تخلفُكم وما هُو من مباديِه.

.تفسير الآية رقم (12):

{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)}
وقولُه تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ} إلخ بدلٌ من كانَ الله إلخ مفسرٌ لما فيه من الإبهامِ أي بل ظننتُم {أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} بأن يستأصلَهم المشركون بالمرةِ فخشِيتم إنْ كنتُم معهم أنْ يصيبَكم ما أصابهم فلأجلِ ذلك تخلفتُم لا لما ذكرتُم من المعاذير الباطلةِ. والأهلونَ جمعُ أهلٍ وقد يُجمع على أهلاتٍ كأرضاتٍ على تقديرِ تاءِ التأنيثِ، وأمَّا الأهالي فاسمُ جمعٍ كالليالي. وقرئ: {إلى أهلِهم} {وَزُيّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} وقبِلتموه واشتغلتُم بشأنِ أنفسِكم غيرَ مُبالينَ بهم. وقرئ: {زَيَّنَ} على البناءِ للفاعلِ بإسنادِه إلى الله سبحانَهُ أو إلى الشيطانِ {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} المرادُ به إما الظنُّ الأولُ، والتكريرُ لتشديدِ التوبيخِ والتسجيلِ عليه بالسوءِ أو ما يعمُّه وغيرَهُ من الظنونِ الفاسدةِ التي من جُمْلتها الظنُّ بعدمِ صحةِ رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّ الجازمَ بصحتِها لا يحومُ حولَ فكرِهِ وما ذُكِرَ من الاستئصال. {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هالكينَ عند الله مستوجبينَ لسخطِه وعقابِه على أنه جمعُ بائرٍ كعائذٍ وعوذٍ أو فاسدينَ في أنفسِكم وقلوبِكم ونياتِكم لا خيرَ فيكُم، وقيلَ البُور من بارَ كالهُلك من هلكَ بناءً ومَعنْى ولذلك وصفَ به الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنثُ.

.تفسير الآيات (13- 15):

{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ} كلامٌ مبتدأٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ مقررٌ لبوارهم ومبينٌ لكيفيتِه أي ومَنْ لم يؤمنْ بهما كدأبِ هؤلاءِ المخلفينَ. {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً} أي لَهم، وإنما وضعَ موضعَ الضميرِ الكافرونَ إيذاناً بأنَّ منْ لم يجمعْ بينَ الإيمانِ بالله وبرسولِه فهو كافرٌ وأنه مستوجبٌ للسعيرِ بكفرِه، وتنكيرُ سعيراً للتهويلِ أو لأنَّها نارٌ مخصوصةٌ.
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} وما فيهما ينصرفُ في الكلِّ كيفَ يشاءُ. {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذَبهُ من غير دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منهُمَا وجُوداً وعدماً، وفيه حسمٌ لأطماعِهم الفارغة في استغفارِه عليه الصلاةُ والسلامُ لهم {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ لمن يشاءُ، ولا يشاءُ إلا لمن تقتضِي الحكمةُ مغفرتَهُ ممن يؤمنُ به وبرسولِه وأما من عداهُ من الكافرينَ فهمُ بمعزلٍ من ذلك قطعاً {سَيَقُولُ المخلفون} أي المذكورونَ وقوله تعالى: {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} ظرفٌ لما قبله لا شرطٌ لما بعدَهُ أي سيقولونَ عند انطلاقِكم إلى مغانمِ خيبرَ لتحوزُوها حسبما وعدكُم إيَّاها وخصَّكم بها عوضاً مما فاتكُم من غنائمِ مكةَ {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبرَ ونشهدْ معكم قتالَ أهلها {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} بأنْ يشاركُوا في الغنائمِ التي خصَّها بأهلِ الحديبيةِ فإنه عليه الصلاةُ والسلامُ رجعَ من الحديبيةِ في ذي الحجةِ من سنة ستَ وأقام بالمدينةِ بقيتها وأوائلَ المحرمِ من سنة سبعٍ ثم غزا خيبرَ بمن شهدَ الحديبيةَ ففتحَها وغنم أموالاً كثيرةً فخصَّها بهم حسبما أمره الله عزَّ وجلَّ وقرئ: {كلمَ الله} وهو جُمع كِلمةٍ وأيَّاً ما كانَ فالمرادُ ما ذُكِرَ من وعدِه تعالى غنائمَ خيبرَ لأهلِ الحديبيةِ خاصَّة لا قولُه تعالى: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} فإنَّ ذلكَ في غزوةِ تبوكَ.
{قُلْ} إقناطاً لهم {لَّن تَتَّبِعُونَا} أي لا تتبعونا فإنه نفيٌ في مَعْنى النهي للمبالغةِ {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي عندَ الانصرافِ من الحديبيةِ {فَسَيَقُولُونَ} للمؤمنين عند سماعِ هَذا النهي {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي ليسَ ذلكَ النهيُ حكمَ الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائمِ وقرئ: {تحسدوننا} بكسر السين وقوله تعالى: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمونَ {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا فهماً قليلاً وهو فطنتُهم لأمورِ الدُّنيا، ردٌّ لقولِهم الباطلِ ووصفٌ لهم بما هُو أعظمُ من الحسدِ وأَطمُّ من الجهلِ المفرطِ وسوءِ الفهمِ في أمورِ الدينِ.

.تفسير الآيات (16- 18):

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)}
{قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} كررَ ذكرَهُم بهذا العنوانِ مبالغةً في ذمِّهم {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} هم بنُو حنيفةَ قومُ مسيلمةَ الكذابِ، أو غيرُهم ممن ارتدُّوا بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو المشركونَ لقوله تعالى: {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكونُ أحدُ الأمرينِ إما المقاتلةُ أبداً أو الإسلامُ لا غيرُ، كما يفصحُ عنه قراءةُ أو يسلمُوا. وأما من عداهُم فينتهي قتالَهم بالجزيةِ كما ينتهِي بالإسلامِ. وفيه دليلٌ على إمامةِ أبي بكر رضيَ الله عنه إذا لم تتفقْ هذه الدعوةُ لغيرِه إلا إذا صحَّ أنهم ثقيفٌ وهوزانُ فإنَّ ذلك كان في عهدِ النبوةِ فيخصَّ دوامُ نفي الاتباعِ بَما في غزوةِ خيبرَ كما قالَهُ محي السنةِ وقيلَ هم فارسُ والرومُ ومعنى يُسلمون ينقادونَ فإنَّ الرومَ نَصَارى وفارسَ مجوسٌ يُقبل منهم الجزيةُ. {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} هو الغنيمةُ في الدنيا والجنةُ في الآخرةِ {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} عن الدعوةِ {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ} في الحديبيةِ {يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لتضاعفِ جُرمكم.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} أي في التخلفِ عنِ الغزوِ لِما بِهمْ من العُذرِ وَالعاهةِ فإنَّ التَّكليفَ يدورُ على الاستطاعةِ. وفى نفي الحرجِ عن كلِّ من الطوائفِ المعدودةِ مزيدُ اعتناءٍ بأمرِهم وتوسيعٌ لدائرةِ الرُّخصةِ. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما ذُكِرَ من الأوامرِ والنَّواهِي {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر}. وقرئ: {نُدخلْه} بنونِ العظيمةِ {وَمَن يَتَوَلَّ} أي عن الطاعةِ {يُعَذّبْهُ} وقرئ بالنونِ {عَذَاباً أَلِيماً} لا يُقادرُ قدرُهُ {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين} هم الذينَ ذُكِرَ شأنُ مبايعتِهم. وبهذهِ الآيةِ سُميتْ بَيعةَ الرضوانِ. وقوله تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} منصوبٌ برضي. وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ صورتِها، وتحتَ الشجرِة متعلقٌ به أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِه. رُويَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما نزلَ الحديبية بعثَ خراشَ بنَ أميةَ الخزاعيَّ رسولاً إلى أهلِ مكةَ فهمُّوا بهِ فمنَعُه الأحابيشُ فرجعَ فبعثَ عثمانَ بنَ عفانَ رضيَ الله عنه فأخبرَهُم أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم يأتِ لحربٍ وإنما جاء زائراً لهذا البيتِ مَعظماً لحرمتِه فوقّرُوه وقالُوا إنْ شئتَ أنْ تطوفَ بالبيتِ فافعلْ فقالَ ما كنتُ لأطوفَ قبلَ أنْ يطوفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحتبسَ عندهُم فأُرْجِفَ بأنَّهم قتلُوه فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: «لا نبرحُ حتى نناجزَ القومَ» ودعا الناسَ إلى البيعةِ فبايعُوه تحتَ الشجرةِ وكانتْ سَمُرةً وقيلَ: سِدرةً على أن يقاتِلُوا قريشاً ولا يفرُّوا. ورُويَ على الموتِ دونَهُ وأنْ لا يفرُّوا فقالَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنتمُ اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ وكانُوا ألفاً وخمسَمائةٍ وخمسةً وعشرينَ.
وقيلَ: ألفاً وأربعمائةِ. وقيلَ ألفاً: وثلثَمائةِ. وقولُه تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} عطفٌ على يُبايعونك لما عرفتَ من أنَّه بمعنى بايعوكَ لا على رضيَ فإن رضاهُ تعالى عنهم مترتبٌ على علمِه تعالى بما في قلوبِهم من الصدقِ والإخلاصِ عند مبايعتِهم له صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} عطفٌ على رضيَ أي فأنزلَ عليهم الطُّمأنينةَ والأمنَ وسكونَ النفسِ بالربطِ على قلوبِهم وقيلَ: بالصلحِ. {وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً} هو فتحٌ خيبرَ غِبَّ انصرافِهم من الحديبةِ كما مرَّ تفصيلُه. وقرئ: {وآتاهُم}.

.تفسير الآيات (19- 21):

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي مغانمَ خيبرَ. والالتفاتُ إلى الخطابِ على قراءةِ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ لتشريفِهم في مقامِ الامتنانِ. {وَكَانَ الله عَزِيزاً} غالباً {حَكِيماً} مراعياً لمقتضَى الحكمةِ في أحكامِه وقضاياهُ.
{وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي ما يُفيؤُه على المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ. {تَأْخُذُونَهَا} في أوقاتِها المقدرةِ لكلِّ واحدةٍ منها. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي غنائمَ خيبرَ {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أي أيدِي أهلِ خيبرَ وحلفائِهم من بني أسدٍ وغطفانَ حيثُ جاءُوا لنُصرتِهم فقذفَ الله في قلوبِهم الرعبَ فنكصُوا وقيلَ: أيدِيَ أهلِ مكةَ بالصلحِ {وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} أمارةً يعرِفونَ بها صدقَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في وعدِه إيَّاهُم عندَ رجوعِه من الحديبيةِ ما ذُكِرَ من المغانمِ وفتحِ مكةَ ودخولِ المسجدِ الحرامِ. واللامُ متعلقةٌ إمَّا بمحذوفٍ مؤخرٍ أي ولتكونَ آيةً لهم فعلُ ما فُعلَ من التعجيلِ والكفِّ أو بَما تعلقَ به علةٌ أخرى محذوفةٌ من أحدِ الفعلينِ أي فعّجل لكم هذه أو كفَّ أيديَ الناسِ لتغتنمُوها ولتكونَ إلخ فالواوُ على الأولِ اعتراضيةٌ وعلى الثانِي عاطفةٌ {وَيَهْدِيَكُمْ} بتلك الآيةِ {صراطا مُّسْتَقِيماً} هو الثقةُ بفضلِ الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تذرزن. {وأخرى} عطف على هذه أي فعجِلَ لكم هذه المغانمَ ومغانمَ أُخرى {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} وهي مغانمُ هوازنَ في غزوةِ حُنينٍ ووصفُها بعدمِ القدرةِ عليها لما كانَ فيها من الجولةِ قبل ذلكَ لزيادةِ ترغيبِهم فيها وقولُه تعالى: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} صفةٌ أُخرى لأُخرى مفيدةٌ لسهولةِ تأتِّيها بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى بعد بيانِ صعوبةِ منالها بالنظرِ إلى قدرتِهم أي قدَر الله عليها واستولَى وأظهركُم عليها وقيل: حفظَها لكُم ومنعها من غيرِكم هذا وقد قيلَ: إنَّ أُخرى منصوبٌ بمضمرٍ يُفسرِه قد أحاطَ الله بَها أي وقضى الله أُخرى ولا ريبَ في أن الإخبارَ بقضاءِ الله إيَّاها بعد اندراجِها في جُملةِ المغانمِ الموعودةِ بقولِه تعالى: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وإنما الفائدةُ في بيانِ تعجيلِها. {وَكَانَ الله على كُلّ شيء قَدِيراً} لأن قدرتَهُ تعالى ذاتيةٌ لا تختصُّ بشيءٍ دونَ شيءٍ.