فصل: تفسير الآيات (70- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (70- 76):

{فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}
{فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} من غير أنْ يتدبروا أنَّهم على الحقِّ أولاً مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمُّلٍ. والإهراعُ: الإسراع الشَّديدُ، كأنَّهم يُزعجون ويحثُّون حثًّا على الإسراع على آثارِهم وقيل هو إسراعٌ فيه شبه رعدةٍ.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} أي قبل قومِك قريش {أَكْثَرُ الاولين} من الأمم السَّالفةِ وهو جواب قسم محذوف. وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي أنبياءَ أولي عددٍ كثيرٍ وذوي شأنٍ خطيرٍ بيَّنوا لهم بُطلانَ ما هم عليه وأنذرُوهم عاقبته الوَخِيمَةِ وتكريرُ القَسَمِ لإبراز كمالِ الاعتناء بتحقيقِ مضمونِ كلَ من الجملتين {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} من الهول والفظاعةِ لمَّا لم يلتفتُوا إلى الإنذار ولم يرفعُوا له رأساً. والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكلِّ أحدٍ ممَّن يتمكَّنُ من مشاهدة آثارِهم وحيث كان المعنى أنَّهم أُهلكوا إهلاكاً فظيعاً استُثني منهم المُخلصون بقوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي الذين أخلصَهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعملِ بموجب الإنذارِ. وقرئ: {المخلِصين} بكسر اللاَّم، أي الذين أخلصُوا دينَهم لله تعالى.
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسنِ عاقبتهِم متضمِّنٍ لبيان سوء عاقبة بعض المُنذرين حسبما أُشير إليه بقوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} كقوم نوحٍ وآل فرعونَ وقوم لوطٍ وقوم إلياسَ ولبيان حُسن عاقبةِ بعضهم الذين أخلصُهم الله تعالى ووفَّقهم للإيمان كما أشار إليه الاستثناء كقوم يونسَ عليه السَّلامُ ووجه تقديم قصَّةِ نوحٍ على سائر القصص غنيٌّ عن البيان. واللاَّمُ جواب قسم محذوفٍ وكذا ما في قوله تعالى: {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي وباللَّهِ لقد دعانا نوحٌ حين يئسَ من إيمان قومه بعدما دعاهُم إليه أحقاباً ودُهُوراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً ونُفوراً فأجبناه أحسنَ الإجابةِ فواللَّهِ لنعم المُجيبون نحن فحُذف ما حُذف ثقةً بدلالة ما ذُكر عليه والجمع دليلُ العظمةِ والكبرياءِ.
{ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي من الغَرقِ وقيل من أذيةِ قومه.

.تفسير الآيات (77- 83):

{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)}
{وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} فحسب حيثُ أهلكنا الكفرة بموجب دعائه {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} وقد رُوي أنَّه ماتَ كلُّ من كانَ معه في السَّفينةِ غير أبنائه وأزواجهم أو هم الذين بقوا مُتناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: النَّاسُ كلُّهم من ذُرِّيةِ نوحٍ عليه السَّلامُ وكان له ثلاثةُ أولادٍ سامٌ وحامٌ ويافثٌ، فسامٌ أبُو العربِ وفارسَ والرُّومِ، وحامٌ أبُو السودانِ من المشرق إلى المغربِ ويافثٌ أبو التُّركِ ويأجوجَ ومأجوجَ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاخرين} من الأمم {سلام على نُوحٍ} أي هذا الكلامُ بعينه وهو واردٌ على الحكاية كقولك قرأتُ سورة أنزلناها والمعنى يُسلِّمون عليه تسليماً ويدعُون له على الدَّوام أمَّةً بعد أمَّةٍ. وقيل ثمة قولٌ مقدَّرٌ أي فقلنا وقيل ضُمِّن تركنا معنى قلنا. وقوله تعالى: {فِى العالمين} متعلِّقٌ بالجارِّ والمجرورِ. ومعناهُ الدُّعاء بثباتِ هذه التَّحيةِ واستمرارِها أبداً في العالمين من الملائكة والثَّقلينِ جميعاً. وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليلٌ لما فُعل به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من التَّكرمةِ السَّنيةِ من إجابةِ دُعائهِ أحسنَ إجابةٍ وإبقاء ذُرِّيتهِ وتَبقيةِ ذكره الجميلِ وتسليم العالمين عليه إلى آخرِ الدَّهرِ بكونه من زُمرة المعروفين بالإحسان الرَّاسخينَ فيه وأنَّ ذلك من قبيل مُجازاة الإحسانِ بالإحسانِ وذلك إشارة إلى ما ذُكر من الكرامات السَّنيةِ التي وقعتْ جزاءً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وما فيه من معنى البُعد مع قُربِ العهد بالمشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رُتبته وبُعد منزلتهِ في الفضل والشَّرفِ. والكافُ متعلِّقةٌ بما بعدها أي مثلَ ذلك الجزاءِ الكامل نجزِي الكاملينَ في الإحسانِ لا جزاءً أدنى منه. وقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} تعليل لكونهِ من المحسنين بخلوصِ عبوديته وكمال إيمانه وفيه من الدِّلالةِ على جلالة قدرهما ما لا يخفى. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين} أي المغايرين لنوحٍ وأهله وهُم كُفَّارُ قومه أجمعين. {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} أي ممَّن شايعه في أصول الدِّينِ {لإبراهيم} وإنِ اختلفتْ فروعُ شرائعهما. ويجوزُ أن يكون بين شريعتيهما اتِّفاقٌ كليٌّ أو أكثر. وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: من أهل دينهِ وعلى سنَّتهِ أو ممَّن شايعه على التَّصلُّبِ في دينِ الله ومصابرةِ المكذِّبين وما كان بينهما إلا نبيَّانِ هما هودٌ وصالحٌ عليهم الصلاة والسلام وكان بين نوح وإبراهيمَ ألفانِ وستمائةٍ وأربعون سنةً.

.تفسير الآيات (84- 90):

{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}
{إِذْ جَاء رَبَّهُ} منصوب باذكُر أو متعلِّقٌ بما في الشِّيعةِ من معنى المُشايعةِ {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي من آفات القلوب أو من العلائقِ الشَّاغلةِ عن التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ. ومعنى المجيء به ربَّه إخلاصُه له كأنَّه جاء به متحفاً إيَّاهُ بطريق التَّمثيلِ {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} بدلٌ من الأولى أو ظرفٌ لجاء أو لسليمٍ أي أيَّ شيء تعبدونه {أَئِفْكاً ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} أي أتريدون آلهةً من دون الله إفكاً أي للإفكِ فقدَّم المفعولَ على الفعل للعنايةِ ثمَّ المفعولَ له على المفعولِ به لأنَّ الأهمَّ مكافحتُهم بأنَّهم على إفكٍ وباطل في شركهم. ويجوزُ أن يكونَ إفكاً مفعولاً به بمعنى أتريدون إفكاً ثم يفسَّر الإفكُ بقوله آلهةً من دون الله دلالةً على أنَّها إفكٌ في نفسها للمبالغةِ أو يراد بها عبادتُها بحذفِ المضافِ، ويجوزُ أنْ يكون حالاً بمعنى آفكينَ {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين} أي بمن هو حقيقٌ بالعبادة لكونه ربًّا للعالمين حتَّى تركتُم عبادته خاصَّةً وأشركتُم به أخسَّ مخلوقاته أو فما ظنُّكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتُم الأصنام له أنداداً أو فما ظنُّكم به ماذا يفعل بكم وكيفَ يعاقبكم بعدما فعلتُم من الإشراكِ به {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم} قيل كانت له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حُمَّى لها نوبةٌ معيَّنةٌ في بعض ساعات اللَّيلِ فنظر ليعرفَ هل هي تلك السَّاعةُ فإذا هي قد حضرتْ {فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} وكان صادقاً في ذلك فجعلَه عُذراً في تخلُّفهِ عن عيدهم وقيل أرادَ إنِّي سقيمُ القلبِ لكفرِكم وقيل نظر في علمِها أو في كتبها أو في أحكامها ولا منعَ من ذلك حيثُ كان قصدُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيهامَهم حين أرادُوا أنْ يخرجُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معبدِهم ليتركُوه فإنَّ القومَ كانوا نجَّامين فأوهمهم أنَّه قد استدلَّ بأمارةٍ في علم النُّجوم على أنَّه سقيمٌ أي مشارف للسقمِ وهو الطَّاعُونُ وكان أغلبَ الأسقامِ عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرَّقوا عنه فهربُوا منه إلى معيدِهم وتركوه في بيت الأصنامِ وذلك قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي هاربين مخافةَ العَدْوى.

.تفسير الآيات (91- 96):

{فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}
{فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ} أي ذهب إليها في خُفْيةٍ وأصله الميلُ بحيلةٍ {فَقَالَ} للأصنام استهزاءً {أَلا تَأْكُلُونَ} أي من الطَّعامِ الذي كانوا يصنعونَه عندها لتبرِّكَ عليه {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} أي بجوابي {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمالَ مستعلياً عليهم وقوله تعالى: {ضَرْباً باليمين} مصدر مؤكِّدٌ لراغَ عليهم فإنَّه بمعنى ضربَهم، أو لفعلٍ مضمرٍ هو حال من فاعله، أي فراغ عليهم يضربُهم ضرباً، أو هو الحالُ منه على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أي فراغَ عليهم ضارباً باليمين أي ضرباً شديداً قويًّا وذلك لأنَّ اليمينَ أقوى الجارحتينِ وأشدُّهما، وقوَّةُ الآلةِ تقتضي قُوَّة الفعلِ وشدَّته، وقيل بالقُوَّةِ والمتانةِ كما في قوله:
إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لمجد ** تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ

أي بالقُوَّة وعلى ذلك مدارُ تسميةِ الحلفِ باليمينِ لأنَّه يُقوِّي الكلامَ ويؤكِّدُه وقيل بسبب الحلفِ وهو قولُه تعالى: {وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم} {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ} أي المأمورون بإحضاره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدُوها مكسورةً فسألوا عن الفاعلِ فظنُّوا أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فعلَه فقيل فأتُوا به {يَزِفُّونَ} حالٌ من واوِ أقبلُوا أي يُسرعون من زَفيفِ النَّعامِ. وقرئ: {يَزِفُون} من أزفَ إذا دخلَ في الزَّفيف. أو من أزفّه أي حملَه على الزَّفيفِ أي يزف بعضُهم بعضاً ويُزَفُّون على البناء للمفعولِ أي يُحملون على الزَّفيف ويَزِفون من وزَف يزِف إذا أسرع ويُزَفُّون من زفّاه إذا حداه كأنَّ بعضَهم يزفُو بعضاً لتسارُعهم إليه عليه الصلاة والسلام {قَالَ} أي بعدما أتَوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم من المحاوراتِ ما نطقَ به قوله تعالى: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا يإبراهيم} إلى قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونَه من الأصنام وقوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} حالٌ من فاعل تعبدون مؤكِّدةٌ للإنكار والتَّوبيخِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلقكم وخلقَ ما تعملونَهُ فإنَّ جواهرَ أصنامِهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنَّه بإقداره تعالى إيَّاهم عليه وخلقه ما يتوقَّفُ عليه فعلُهم من الدَّواعي والعدد والأسباب، وما تعملون إمَّا عبارةٌ عن الأصنامِ فوضعه موضعَ ضميرِ ما تنحِتون للإيذان بأنَّ مخلوقيَّتها لله عزَّ وجلَّ ليس من حيثُ نحتُهم لها فقط بل من حَيثُ سائرُ أعمالهم أيضاً من التَّصويرِ والتَّحليةِ والتَّزيينِ ونحوها، وإمَّا على عمومهِ فينتظمُ الأصنامَ انتظاماً أوليًّا مع ما فيه من تحقيقِ الحقِّ ببيانِ أنَّ جميع ما يعملونَهُ كائناً ما كان مخلوقٌ له سبحانه. وقيل ما مصدريةٌ أي عملَكم على أنَّه بمعنى المفعولِ وقيل بمعناه فإنَّ فعلَهم إذا كان بخلقِ اللَّهِ تعالى كان مفعولهم المتوقِّفُ على فعلهم أولى بذلك.

.تفسير الآيات (97- 102):

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}
{قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التَّأجُّجِ، واللاَّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام لمَّا قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلاَّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم {فجعلناهم الاسفلين} الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علوّ شأنهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يجعل النَّارِ عليه بَرْداً وسَلاماً {وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى {سَيَهْدِينِ} أي إلى ما فيه صلاحُ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السَّلامُ حيث قال: {عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ.
{رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً} ولقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} فإنَّه صريح في أنَّ المبشَّر به عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ: بشارةُ أنَّه غلامٌ وأنَّه يبلغُ أوانَ الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً، وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرضَ عليه أبُوه الذَّبحَ فقال: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك.
والفاءُ في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبةَ أنْ يسعى معه في أشغالهِ وحوائجهِ. ومعه متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسيغُه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً.
{قَالَ} أي إبراهيمُ عليه السَّلامُ {قَالَ يابنى إِنّى أرى فِي المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له: إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ، فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ.
وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال: إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له: أوفِ بنذرك. والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السَّلامُ إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحاق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «أنا ابنُ الذَّبيحين» فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولداً أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة. وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحاقُ ثمَّة ولأنَّ بشارة إسحاق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقاً. وما رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلامُ سُئل أيُّ النَّسب أشرفُ؟ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ إسرائيلَ اللَّهِ ابنِ إسحاقَ ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال يوسفُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيم والزَّوائدُ من الرَّاوي، وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت: وقرئ: {إنِّيَ} بفتح الياءِ فيهما.
{فانظر مَاذَا ترى} من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزولهِ. وقرئ: {ماذا تُري} بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنياً للمفعولِ {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلاً على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به أمراً. وقرئ: {ما تؤمر به}، وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى.