فصل: تفسير الآيات (71- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (71- 72):

{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)}
{وامرأته قَائِمَةٌ} وراءَ الستر بحيث تسمع محاورتَهم أو على رؤوسهم للخدمة حسبما هو المعتادُ، والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا أي قالوه وهي قائمةٌ تسمع مقالتَهم {فَضَحِكَتْ} سروراً بزوال الخوفِ أو بهلاك أهلِ الفساد أو بهما جميعاً، وقيل: بوقوع الأمرِ حسبما كانت تقولُ فيما سلف، فإنها كانت تقولُ لإبراهيمَ اضمُمْ إليك لوطاً فإني أرى أن العذابَ نازلٌ بهؤلاء القوم، وقيل: ضحكت حاضَتْ، ومنه ضحِكت الشجرةُ إذا سال صمغُها وهو بعيد، وقرئ بفتح الحاء {فبشرناها بإسحاق} أي عقّبنا سرورَها بسرور أتمَّ منه على ألسنة رسلِنا {وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} بالنصب على أنه مفعولٌ لما دل عليه قولُه: بشرناها أي ووهبنا لها من وراء إسحاقَ يعقوبَ، وقرئ بالرفع على الابتداء خبرُه الظرف أي من بعد إسحاقَ يعقوبُ مولودٌ أو موجودٌ، وكلا الاسمين داخلٌ في البشارة كيحيي أو واقعٌ في الحكاية بعد أن وُلدا فسمِّيا بذلك، وتوجيهُ البِشارة هاهنا إليها مع أن الأصلَ في ذلك إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام وقد وُجِّهت إليه حيث قيل: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} {وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ} للإيذان بأن ما بُشّر به يكون منهما ولكونها عقيمةً حريصةً على الولد.
{قَالَتْ} استئنافٌ وردَ جواباً عن سؤال مَنْ سأل وقال: فما فعلت إذ بُشِّرت بذلك؟ فقيل: قالت: {ياويلتا} أصلُ الويلِ الخزيُ ثم شاع في كل أمرٍ فظيع، والألفُ مُبْدلةٌ من ياء الإضافةِ كما في يا لهفا ويا عجَبا، وقرأ الحسن على الأصل، وأمالها أبو عمرو، وعاصمٌ، في رواية ومعناه يا ويلتي احضُري فهذا أوانُ حضورِك وقيل: هي ألفُ النُّدبةِ ويوقف عليها بهاء السكْت {ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} بنتُ تسعين أو تسعٍ وتسعين سنةً {وهذا} الذي تشاهدونه {بَعْلِى} أي زوجي، وأصلُ البعلِ القائمُ بالأمر {شَيْخًا} وكان ابنَ مائةٍ وعشرين سنةً، ونصبُه على الحال والعاملُ معنى الإشارةِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هو شيخٌ أو خبرٌ بعد خبرٍ، أو هو الخبرُ وبعلي بدلٌ من اسمِ الإشارةِ أو بيانٌ له، وكلتا الجملتين وقعت حالاً من الضمير في أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليلِه، أي أألد وكلانا على حالة منافيةٍ لذلك، وإنما قُدّمت بيانُ حالِها على بيان حالِه عليه الصلاة والسلام لأن مُباينةَ حالِها لما ذُكر من الولادة أكثرُ، إذ ربما يولد للشيوخ من الشوابِّ، أما العجائزُ داؤُهن عَقامٌ ولأن البشارةَ متوجهةٌ إليها صريحاً، ولأن العكسَ في البيان ربما يُوهم من أول الأمر نسبةَ المانِع من الولادة إلى جانب إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وفيه ما لا يخفى من المحذور، واقتصارُ الاستبعادِ على ولادتها من غير تعرضٍ لحال النافلةِ لأنها المستبعَد، وأما ولادةُ ولدِها فلا يتعلق بها استبعادٌ {إِنَّ هَذَا} أي ما ذُكر من حصول الولد من هَرِمَين مثلِنا {لَشَىْء عَجِيبٌ} بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده، وهذه الجملةُ لتعليل الاستبعادِ بالنسبة إلى قُدرته سبحانه وتعالى.

.تفسير الآيات (73- 74):

{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)}
{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} أي قدرتِه وحكمتِه أو تكوينه أو شأنِه أنكروا عليها تعجيباً من ذلك لأنها كانت ناشئةً في بيت النبوة ومهبِطِ الوحي والآيات، ومظهَرِ المعجزة والأمورِ الخارقةِ للعادات فكان حقُّها أن تتوقرَ ولا يزدهِيَها ما يزدهي سائرَ النساء من أمثال هذه الخوارقِ من ألطاف الله تعالى الخفيةِ ولطائفِ صنعِه الفائضةِ على كل أحدٍ مما يتعلق بذلك مشيئتُه الأزليةُ لاسيما على أهل بيتِ النبوة الذين ليست مرتبتُهم عند الله سبحانه كمراتب سائرِ الناس وأن تسبحَ الله تعالى وتحمَدَه وتمجِّدَه وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى: {رَّحْمَةِ الله} التي وسِعتْ كلَّ شيءٍ واستتبعت كلَّ خير، وإنما وُضع المظهرُ موضعَ المضمر لزيادة تشريفِها {وبركاته} أي خيراتُه الناميةُ المتكاثرةُ في كل بابٍ التي من جملتها هبةُ الأولادِ، وقيل: الرحمةُ النبوةُ والبركاتُ الأسباطُ من بني إسرائيلَ لأن الأنبياءَ منهم وكلُّهم من ولد إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام {عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} نصبَ على المدح أو الاختصاصِ لأنهم أهلُ بيتِ خليلِ الرحمن، وصرفُ الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمِه لإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أيضاً ليكون جوابُهم لها جواباً له أيضاً إن خطر بباله مثلُ ما خطر ببالها، والجملة كلامٌ مستأنَفٌ عُلّل به إنكارُ تعجُّبها كأنه قيل: ليس المقامُ مقامَ التعجيبِ فإن الله تعالى على كل شيء قديرٌ ولستم يا أهل بيتِ النبوةِ والكرامةِ والزلفى كسائر الطوائفِ بل رحمتُه المستتبِعةُ لكل خيرٍ الواسعةُ لكل شيء، وبركاتُه أي خيراتُه الناميةُ الفائضةُ منه بواسطة تلك الرحمةِ الواسعةِ لازمةٌ لكم لا تفارقكم {إِنَّهُ حَمِيدٌ} فاعلٌ ما يستوجب الحمدَ {مَّجِيدٌ} كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده. والجملةُ لتعليل ما سبق من قوله: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ}
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع} أي ما أوجس منهم من الخِيفه واطمأن قلبُه بعِرفانهم وعرفانِ سببِ مجيئِهم، والفاءُ لربط بعض أحوالِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام ببعضٍ غِبَّ انفصالِها بما ليس بأجنبي من كل وجهٍ بل له مدخلٌ تامٌّ في السباق والسياق، وتأخيرُ الفاعلِ عن الظرف لأنه مصبُّ الفائدةِ، فإن بتأخير ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ منتظرةً إلى وروده فيتمكن فيها عند ورودِه إليها فضلُ تمكّنٍ {وَجَاءتْهُ البشرى} إن فُسِّرت البُشرى بقولهم: لا تخف فسببيّهُ ذهابِ الخوفِ ومجيءِ السرور للمجادلة المدلولِ عليها بقوله تعالى: {يجادلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أي جادل رسلَنا في شأنهم. وعُدل إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار صورتِها أو طفِقَ يجادلنا ظاهرةٌ، وأما إن فُسّرت ببشاره الولدِ أو بما يعُمها فلعل سببيّتَها لها من حيث إنها تفيد زيادةَ اطمئنانِ قلبه بسلامته وسلامةِ أهلهِ كافةً، ومجادلتُه إياهم أنه قال لهم حين قالوا له: إنا مُهلكو أهلِ هذه القريةِ: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتُهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ العشرةَ قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلٌ مسلمٌ أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطاً قالوا: نحن أعلمُ بمن فيها لنُنجِّينه وأهلَه.
إن قيل: المتبادرُ من هذا الكلامِ أن يكون إبراهيمُ عليه السلام قد علِم أنهم مرسَلون لإهلاك قومِ لوطٍ قبل ذهابِ الرَّوع عن نفسه ولكن لم يقدِر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسِه فلما ذهب عنه الروعُ فرَغ لها مع أن ذهابَ الروعِ إنما هو قبل العِلم بذلك لقوله تعالى: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} قلنا: كان لوطٌ عليه السلام على شريعة إبراهيمَ عليه السلام وقومُه مكلّفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمتِه التي من جملتهم قومُ لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوفِ على قولهم: لا تخف، وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاصُ قومِ لوطٍ بالهلاك لا دخولُهم تحت العموم فتأملْ والله الموفق.

.تفسير الآيات (75- 77):

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
{إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ} غيرُ عَجولٍ على الانتقام ممن أساء إليه {أَوَّاهٌ} كثيرُ التأوّه على الذنوب والتأسفِ على الناس {مُّنِيبٌ} راجعٌ إلى الله تعالى والمقصودُ بتعداد صفاتِه الجميلةِ المذكورةِ بيانُ ما حَمله عليه السلام على ما صدر عنه من المجادلة.
{ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} أي قالت الملائكةُ: يا إبراهيمُ {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الجدالِ {إِنَّهُ} أي الشأنَ {قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي قَدَرُه الجاري على وفق قضائِه الأزليِّ الذي هو عبارةٌ عن الإرادة الأزليةِ والعنايةِ الإلهية المقتضيةِ لنظام الموجوداتِ على ترتيب خاصَ حسب تعلُّقِها بالأشياء في أوقاتها، وهو المعبّر عنه بالقدر {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما. {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: انطلَقوا من عند إبراهيمَ عليه السلام إلى لوط عليه السلام وبين القريتين أربعةُ فراسخَ ودخلوا عليه في صور غِلمانٍ مُرْدٍ حسانِ الوجوه فلذلك {سِىء بِهِمْ} أي ساءه مجيئُهم لظنه أنهم أناسٌ فخاف أن يقصِدهم قومُه ويعجِزَ عن مدافعتهم، وقرأ نافعٌ وابن عامر، والكسائي وأبو عمرو: {سيء} و{سيئت} بإشمام السينِ الضمَّ. روي أن الله تعالى قال للملائكة: لا تُهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربعَ شهادات فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمرُ هذه القريةِ؟ قالوا: وما أمرُها؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قريةٍ في الأرض عملاً، يقول ذلك أربعَ مراتٍ فدخلوا معه منزلَه ولم يعلم بذلك أحدٌ فخرجت امرأتُه فأخبرت به قومَها وقالت: إن في بيت لوطٍ رجالاً ما رأيتُ مثلَ وجوهِهم قط {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق بمكانهم صدرُه أو قلبُه أو وسعُه وطاقتُه وهو كنايةٌ عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروهِ والاحتيال فيه، وقيل: ضاقت نفسُه عن هذا الحادثِ، وذِكرُ الذرعِ مثلٌ وهو المساحة، وكأنه قدْرُ البدنِ مجازاً أي إن بدنَه ضاق قدرُه من احتمال ما وقع، وقيل: الذراعُ اسمٌ للجارحة من المِرْفق إلى الأنامل، والذرْعُ مدُّها، ومعنى ضيقِ الذرع في قوله تعالى: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قصرُها كما أن معنى سعتِها وبسطتها طولُها، ووجهُ التمثيلِ بذلك أن القصيرَ الذراعِ إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويلُ الذراعِ تقاصر عنه وعجِز عن تعاطيه، فضُرب مثلاً للذي قصُرت طاقتُه دون بلوغِ الأمر {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديدٌ، من عصَبه إذا شدّه.

.تفسير الآيات (78- 80):

{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
{وَجَاءهُ} أي لوطاً وهو في بيته مع أضيافه {قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي يسرعون كأنما يُدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه، والجملةُ حالٌ من قومه وكذا قوله تعالى: {وَمِن قَبْلُ} أي من قبلِ هذا الوقت {كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في علم السيئات فضَرُوا بها وتمرّنوا فيها حتى لم يبقَ عندهم قباحتُها ولذلك لم يستحيُوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعين مجاهرين {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فتزوّجُوهن وكانوا يطلُبونهن من قبلُ ولا يُجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتِهم لا لعدم مشروعيتِه فإن تزويجَ المسلماتِ من الكفار كان جائزاً وقد زوج النبيُّ عليه الصلاة والسلام ابنتيه من عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ، وأبي العاص بنِ الربيع قبل الوحي وهما كافران، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجَهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقايةَ ضيفِه وذلك غايةُ الكرم، وقيل: ما كان ذلك القولُ منه مُجرًى على الحقيقة من إرادة النكاحِ بل كان ذلك مبالغةً في التواضع لهم وإظهاراً لشدة امتعاضِه مما أرادوه عليه طمعاً في أن يستحيوا منه ويرِقّوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرارِ العلم عنده وعندهم بأن لا مناكحةَ بينهم وهو الأنسبُ بقولهم: لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه {فاتقوا الله} بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِى} أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاءَ ضيفِ الرجل وجارِه إخزاءٌ له أو لا تخجلوني من الخَزاية وهي الحياء {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح.
{قَالُواْ} معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى الله والنهي عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمتَ ألا سبيلَ إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرْضُك إلا عرضٌ سابرِيّ ولا مطمعَ لنا في ذلك {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الذُكرانِ، ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} أي لفعلتُ بكم ما فعلت وصنعتُ ما صنعت كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الارض أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} {أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عطفٌ على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعلِ أي لو قوِيتُ على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيزٍ قويّ أتمنّع به عنكم، شَبّهه بركن الجبل في الشدة والمنعة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحِم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» روي أنه عليه السلام أغلق بابَه دون أضيافِه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدارَ فلما رأت الملائكةُ ما على لوط من الكرب.

.تفسير الآية رقم (81):

{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}
{قَالُواْ} أي الرسل لمّا شاهدوا عجزَه عن مدافعة قومِه {يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} بضرر ولا مكروهٍ فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريلُ عليه السلام ربَّه ربَّ العزة جل جلاله في عقوبتهم فأذِن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحَه وله جناحان وعليه وشاح من دُرّ منظوم وهو برّاقُ الثنايا فضرب بجناحه وجوهَهم فطمَس أعينَهم وأعماهم كما قال عز وعلا: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فصاروا لا يعرِفون الطريق فخرجوا وهم يقولون: النجاءَ فإن في بيت لوطٍ قوماً سحَرة {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بالقطع، من الإسراء، وقرأ ابن كثير، ونافع، بالوصل حيث جاء في القرآن من السُّرى، والفاءُ لترتيب الأمر بالإسراءِ على الإخبار برسالتهم المؤذنِة بورود الأمرِ والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام {بِقِطْعٍ مّنَ اليل} في طائفة منه.
{وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ} أي لا يتخلفْ أو لا ينظُرْ إلى ورائه {أَحَدٌ} منك ومن أهلك، وإنما نُهوا عن ذلك ليجدّوا في السير فإن من يلتفتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفةٍ أو لئلا ترَوا ما ينزل من العذاب فترِقّوا لهم {إِلاَّ امرأتك} استثناءٌ من قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ويؤيده أنه قرئ {فأسرِ بأهلك بِقطْع من الليل إلا امرأتَك}، وقرئ بالرفع على البدل من أحدٌ، فالالتفاتُ بمعنى التخلف، لا بمعنى النظر إلى الخَلف كيلا يلزمَ التناقضُ بين القراءتين المتواترتين فإن النصبَ يقتضي كونَه عليه السلام غيرَ مأمورٍ بالإسراء بها، والرفعَ كونَه مأموراً بذلك، والاعتذارُ بأن مقتضى الرفعِ إنما هو مجردُ كونِها معهم وذلك لا يستدعي الأمرَ بالإسراء بها حتى يلزمَ المناقضةَ لجواز أن تسريَ هي بنفسها كما يُرى أنه عليه السلام لما أَسْرى بأهله تبِعَتْهم فلما سمعت هدّة العذابِ التفتت وقالت: يا قوماه فأدركها حجرٌ فقتلها وأن يسرِيَ بها عليه السلام من غير أمرٍ بذلك إذ موجبُ النصبِ إنما هو عدمُ الأمر بالإسراء بها لا النهيُ عن الإسراء بها حتى يكونَ عليه السلام بالإسراء بها مخالفاً للنهي لا يجدي نفعاً لأن انصرافَ الاستثناءِ إلى الالتفات يستدعي بقاءَ الأهل على العموم فيكون الإسراءُ بها مأموراً به قطعاً، وفي حمل الأهليةِ في إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفي الأخرى على النسَبية مع أن فيه ما لا يخفى من التحكم والاعتساف كرٌّ على ما فُرّ منه من المناقضة، فالأَولى حينئذ جعلُ الاستثناءِ على القراءتين من قوله: {لا يَلْتَفِتْ} مثلَ الذي في قوله تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} فإن ابنَ عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصحَ الرفعُ على البدل، ولا بُعد في كون أكثرِ القراءِ على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرُها بالالتفات بل عدمُ نهيِها عنه بطريق الاستصلاح ولذلك علله على طريقة الاستئنافِ بقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} من العذاب، وهو إمطارُ الأحجار وإن لم يصبْها الخسفُ، والضميرُ في إنه للشأن وقوله تعالى: {مُصِيبُهَا} خبرٌ وقوله: {مَا أصابهم} مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن الذي اسمُه ضميرُ الشأنِ، وفيه ما لا يخفى من تفخيم شأنِ ما أصابهم، ولا يحسُن جعلُ الاستثناءِ منقطعاً على قراءة الرفع.
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} أي موعدَ عذابِهم وهلاكهم، تعليلٌ للأمر بالإسراء والنهيِ عن الالتفات المُشعرِ بالحث على الإسراع {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} تأكيد للتعليل فإن قربَ الصبح داعٍ إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب، وروي أنه قال للملائكة: متى موعدُ هلاكِهم؟ قالوا: الصبحُ، قال: أريد أسرعَ من ذلك فقالوا ذلك. وإنما جُعل ميقاتُ هلاكِهم الصبحَ لأنه وقتُ الدعةِ والراحةِ فيكون حلولُ العذاب حينئذ أفظعَ ولأنه أنسبُ بكون ذلك عبرةً للناظرين.