فصل: تفسير الآيات (82- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (82- 83):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي وقتُ عذابِنا وموعدُه وهو الصبح {جَعَلْنَا عاليها} أي عاليَ قُرى قومِ لوطٍ وهي التي عبّر عنها بالمؤتفكات، وهي خمسُ مدائنَ فيها أربعُمائةِ ألفِ ألفٍ {سَافِلَهَا} أي قلبناها على تلك الهيئةِ وجُعل عالِيها مفعولاً أولَ للجعل وسافلَها مفعولاً ثانياً له وإن تحقق القلبُ بالعكس أيضاً لتهويل الأمرِ وتفظيعِ الخطبِ لأن جعلَ عالِيها الذي هو مَقارُّهم ومساكنُهم سافلَها أشدُّ عليهم وأشقُّ من جعل سافِلها عاليَها وإن كان مستلزِماً له. روي أنه جعلَ جبريلُ عليه السلام جناحَه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهلُ السماء نُباحَ الكلاب وصياحَ الديَكةِ ثم قلبها عليهم، وإسنادُ الجعلِ والإمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبّبُ لتفخيم الأمرِ وتهويلِ الخطب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} على أهل المدائنِ أو شُذّاذهم {حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} من طين متحجّر كقوله: {حِجَارَةً مّن طِينٍ} وأصله سنك كل فعُرّب وقيل: هو من أسْجله إذا أرسله أو أدرّ عطيتَه والمعنى: منْ مثْلِ الشيءِ المرسَل أو مثلَ العطيةِ في الإدرار أو من السِّجِلّ أي مما كتب الله تعالى أن يعذبهم به، وقيل: أصله من سِجّينٍ أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً {مَّنْضُودٍ} نُضِد في السماء نضْداً معدًّا للعذاب، وقيل: يُرسَل بعضُه إثرَ بعضٍ كقِطار الأمطار {مُّسَوَّمَةً} مُعْلمةً للعذاب. وقيل: معلمةً ببياض وحُمرة أو بسِيما تتميز به عن حجارة الأرض أو باسم مَنْ ترمى به {عِندَ رَبّكَ} في خزائنه التي لا يتصرّف فيها غيرُه عز وجل {وَمَا هِىَ} أي الحجارةُ الموصوفة {مِنَ الظالمين} من كل ظالمٍ {بِبَعِيدٍ} فإنهم بسبب ظلمِهم مستحقون لها وملابَسون بها، وفيه وعيدٌ شديد لأهل الظلمِ كافةً. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريلَ عليه السلام فقال: يعني ظالمي أمتِك ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجرٍ يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وقيل: الضميرُ للقُرى أي هي قريبةُ من ظالمي مكةَ يمرّون بها في مسايرهم وأسفارِهم إلى الشام، وتذكيرُ البعيدِ على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوف مذكّرٍ أي بشي بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البُعد من الأرض إلا أنها حين هَوَت منها فهي أسرعُ شيء لحُوقاً بهم فكأنها بمكان قريبٍ منهم. أو لأنه على زِنة المَصْدرِ كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكرُ والمؤنث.

.تفسير الآيات (84- 85):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}
{إلى مَدْيَنَ} أي أولاد مدينَ بنِ إبراهيم عليه السلام أو جعل اسماً للقبيلة بالغلبة أو أهلِ مدينَ وهو بلدٌ بناه مدينُ فسُمّي باسمه {أخاهم} أي نسيبَهم {شُعَيْبًا} وهو ابن ميكيلَ بنِ يشجُرَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيبُ الأنبياءِ لحسن مراجعتِه قومَه، والجملةُ معطوفةٌ على قوله تعالى: {إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} أي وأرسلنا إلى مدينَ أخاهم شعيباً {قَالَ} استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال كما قال مَنْ قبله من الرسل عليهم السلام {يَا قَومِ اعبدوا الله} وحدَه ولا تشركوا به شيئاً {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} تحقيقٌ للتوحيد وتعليلٌ للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو مَلاكُ أمر الدينِ وأولُ ما يجب على المكلّفين نهاهم عن ترتيب مبادئ ما اعتادوه من البَخْس والتطفيف عادةً مستمرةً فقال: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوقِ الناس {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي ملتبسين بثروة واسعةٍ تُغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكراً عليها أو أراكم بخير فلا تُزيلوه بما أنتم عليه من الشر على كل حال، علةٌ للنهي عُقّبت بعلة أخرى أعني قولَه عز وجل: {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تنتهوا عن ذلك {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} لا يشِذّ منه شاذٌّ منكم، وقيل: عذابَ يومٍ مُهلك من قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} وأصلُه من إحاطة العدو، والمرادُ عذابُ يومِ القيامة أو عذابُ الاستئصالِ، ووصفُ اليومِ بالإحاطة وهي حالُ العذاب على الإسناد المجازيِّ وفيه من المبالغة ما لا يخفى، فإن اليومَ زمانٌ يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً للأمر والنهي جميعاً {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} أي بالعدل من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ فإن الزيادةَ في الكيل والوزنِ وإن كان تفضّلاً مندوباً إليه لكنها في الآلة محظورةٌ كالنقص، فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيالِ والناقصَ للاستعمال وقت الكيل، وإنما أُمر بتسويتهما وتعديلِهما صريحاً بعد النهي عن نقصهما مبالغةً في الحمل على الإيفاء والمنعِ من البخس وتنبيهاً على أنه لا يكفيهم مجردُ الكفِّ عن النقص والبخسِ بل يجب عليهم إصلاحُ ما أفسدوه وجعلوه معياراً لظلمهم وقانوناً لعدوانهم {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس} بسبب نقصِهما وعدم اعتدالِهما {أَشْيَاءهُمْ} التي يشترونها بهما، وقد صرّح بالنهي عن البخس بعد ما عُلم ذلك في ضمن النهي عن نقص المعيار والأمرِ بإيفائه اهتماماً بشأنه وترغيباً في إيفاء الحقوقِ بعد الترهيبِ والزجر عن نقصها، ويجوز أن يكون المرادُ بالأمر بإيفاء المكيالِ والميزان الأمرَ بإيفاء المَكيلاتِ والموزوناتِ، ويكونُ النهيُ عن البخس عاماً للنقص في المقدار وغيره تعميماً بعد التخصيص كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الارض مُفْسِدِينَ} فإن العَثَى يعم نقصَ الحقوقِ وغيرَه من أنواع الفسادِ، وقيل: البخسُ المكسُ كأخذ العشورِ في المعاملات. قال زهير بن أبي سلمى:
أفي كل أسواقِ العراقِ إتاوة ** وفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرهمِ

والعثى في الأرض السرقةُ وقطعُ الطريق والغارةُ، وفائدةُ الحال إخراجُ ما يُقصد به الإصلاحُ كما فعله الخضرُ عليه السلام من خرق السفينةِ وقتلِ الغلام، وقيل: معناه ولا تعثَوا في الأرض مفسدين أمْرَ آخرتِكم ومصالحَ دينكم.

.تفسير الآيات (86- 87):

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
{بَقِيَّتُ الله} أي ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّةِ عن تعاطي المحرمات {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالبخس والتطفيفِ فإن ذلك هباءٌ منثور بل شرٌّ محض وإن زعمتم أن فيه خيراً كقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات} {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا فإن خيريّتَها باستتباع الثوابِ مع النجاة، وذلك مشروطٌ بالإيمان لا محالة أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم، وقيل: الطاعاتُ كقوله عز وجل: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} وقرئ {تقيةُ الله} بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالَكم فأجازيَكم وإنما أنا ناصحٌ مبلِّغٌ وقد أعذرتُ إذ أنذرتُ ولم آلُ في ذلك جهداً أو ما أنا بحافظ ومستبْقٍ عليكم نِعمَ الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع.
{قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا} من الأوثان أجابوا بذلك أمرَه عليه السلام إياهم بعبادة الله وحدَه المتضمنَ لنهيهم عن عبادة الأصنامِ ولقد بالغوا في ذلك وبلغوا أقصى مراتبِ الخلاعة والمُجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحي الآمرِ بذلك حتى ادّعَوا أن لا أمرَ به من العقل واللُّب أصلاً وأنه من أحكام الوسوسةِ والجنون، وعلى ذلك بنوا استفهامَهم وقالوا بطريق الاستهزاءِ: أصلاتُك التي هي من نتائج الوسوسةِ وأفاعيلِ المجانين تأمُرك بأن نترك عبادةَ الأوثانِ التي توارَثْناها أباً عن جد؟ وإنما جعلوه عليه السلام مأموراً مع أن الصادرَ عنه إنما هو الأمرُ بعبادة الله وغيرُ ذلك من الشرائع، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم بذلك من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمورٌ بتبليغه إليهم، وتخصيصُهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكامِ النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام كان كثيرَ الصلاةِ معروفاً بذلك، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين سائر شعائرِ الدينِ ضِحْكةً لهم وقرئ {أصلواتُك} {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَآء} جوابٌ عن أمره عليه السلام بإيفاء الحقوقِ ونهيِه عن البخس والنقصِ معطوفٌ على ما، أي أو أن نتركَ أن نفعلَ في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاءِ والزيادةِ والنقصِ، وقرئ بالتاء في الفعلين عطفاً على مفعول تأمُرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء، وتجويزُ العطفِ على ما قيل يستدعي أن يراد بالترك معنيان متخالفان، والمرادُ بفعله عليه السلام إيحابُ الإيفاءِ والعدلِ في معاملاتهم لا نفسُ الأيفاء، فإن ذلك ليس من أفعاله عليه السلام بل من أفعالهم، وإنما لم نقُلْ عطفاً على أن نترُك لأن الترك ليس مأموراً به على الحقيقة، بل المأمورُ به تكليفُه عليه السلام إياهم وأمرُه بذلك، والمعنى أصلاتُك تأمرُك أن تكلِّفَنا أن نترك ما يعبدُ آباؤُنا، وحملُه على معنى أصلاتُك تأمرك بما ليس في وُسعك وعُهدتك من أفاعيل غيرِك ليكون ذلك تعريضاً منهم بركاكة رأيِه عليه السلام واستهزاءً به من تلك الجهةِ يأباه دخولُ الهمزةِ على الصلاة دون الأمرِ ويستدعي أن يصدُر عنه عليه السلام في أثناء الدعوةِ ما يدل على ذلك أو يوهمه وأبى ذلك فتأمل.
وقرئ بالنون في الأول والتاء في الثاني عطفاً على أن نترك أي أو أن نفعل نحن في أموالنا عند المعاملةِ ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء.
{إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد} وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم، وإنما أرادوا بذلك وصفَه بضدّيهما كقول الخزَنة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} ويجوز أن يكون تعليلاً لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليمُ الرشيد على زعمك، وأما وصفُه بهما على الحقيقة فيأباه مقامُ الاستهزاء، اللهم إلا أن يُراد بالصلاة الدينُ كما قيل.

.تفسير الآية رقم (88):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} أي حجة واضحةٍ وبرهانٍ نيِّر، عبّر عما آتاه الله تعالى من النبوة والحكمة رداً على مقالتهم الشنعاءِ في جعلهم أمرَه ونهيَه غيرَ مستندٍ إلى سند {مّن رَّبّى} ومالكِ أموري، وإيرادُ حرفِ الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحججِ لاعتبار حال المخاطَبين ومراعاةِ حُسنِ المحاورةِ معهم كما ذكرناه في نظائره {وَرَزَقَنِى مِنْهُ} أي من لديه {رِزْقًا حَسَنًا} هو النبوةُ والحِكمةُ أيضاً عبّر عنهما بذلك تنبيهاً على أنهما مع كونهما بينةً رزقٌ حسنٌ، كيف لا وذلك مناطُ الحياةِ الأبديةِ له ولأمته، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه فحوى الكلامِ أي أتقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاءِ والغُواةِ وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصِح أن يتفوّه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسةِ والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن أمرتُكم به من التوحيد وتركِ عبادة الأصنامِ والاجتنابِ عن البخس والتطفيفِ ليس مما يأمر به آمرُ العقلِ ويقضي به قاضي الفِطنة، وإنما تأمُر به صلاتُك التي هي من أحكام الوسوسةِ والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالكِ أمورِي ثابتاً على النبوة والحِكمةِ التي ليس وراءَها غايةٌ للكمال ولا مطمَحٌ لطامح ورزقني بذلك رزقاً حسناً أتقولون في شأني وشأنِ أفعالي ما تقولون مما لا خيرَ فيه ولا شرَّ وراءه هذا هو الجوابُ الذي يستدعيه السباقُ والسياقُ ويساعده النظمُ الكريمُ.
وأما ما قيل من أن المحذوفَ أيصِحّ لي أن لا آمرَكم بترك عبادةِ الأوثانِ والكفِّ عن المعاصي، أو أهل يسعْ لي مع هذا الإنعام الجامعِ للسعادات الروحانيةِ والجُسمانية أن أخونَ في وحيه وأخالفَه في أمره ونهيِه فبمعزل من ذلك، وإنما يناسب تقديرُه إن حمل كلامُهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدينُ على معنى: أدينُك يأمرُك أن تكلفنا بترك عبادةِ آلهتِنا القديمة وتركِ التصرّفِ المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشُقَّ عصانا، وهذا مما لا ينبغي أن يصدُر عنك فإنك أنت المشهورُ بالحلم الفاضلِ والرشدِ الكاملِ فيما بيننا كما كان قولُ قومِ صالح {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} مسروداً على ذلك النمطِ فأُجيبوا بما أجيبوا به، وعلى هذا الوجهِ يكون المرادُ بالرزق الحسنِ الحلالَ الذي آتاه الله تعالى، والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبياً من عند الله تعالى ورزقني مالاً حلالاً أستغني به عن العالمين أيصِحّ أن أخالف أمرَه وأوافقَكم فيما تأتون وما تذرون.
{وَمَا أُرِيدُ} بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي أقصِدَه بعد ما ولَّيتم عنه وأستبِدَّ به دونكم.
يقال: خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدتُه وهو مولَ عنه وخالفتُه عن كذا إذا كان الأمرُ على العكس {إِنْ أُرِيدُ} بما أباشره من الأمر والنهي {إِلاَّ الإصلاح} إلا أن أُصلِحَكم بالنصيحة والموعظة {مَا استطعت} أي مقدارَ ما استطعتُه من الإصلاح، والتقييدُ به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وُسعه منه {وَمَا تَوْفِيقِى} أي كوني موفقاً لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم {إِلاَّ بالله} أي بتأييده ومعونتِه بل الإصلاحُ من حيث الخلقُ مستندٌ إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرةِ قاله عليه السلام تحقيقاً للحق وإزاحةً لما عسى يوهمه إسنادُ الاستطاعةِ إليه بإرادته من استبداده بذلك {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ذلك مُعرِضاً عما عداه فإنه القادرُ على كل مقدورٍ وما عداه عاجزٌ محْضٌ في حد ذاتِه بل معدومٌ ساقطٌ عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمدادِ به والاستظهار {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجِعُ فيما أنا بصدده، ويجوز أن يكون المرادُ وما كوني موفقاً لإصابة الحقِّ والصوابِ في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونتِه عليه توكلتُ، وهو إشارةٌ إلى محض التوحيدِ الذاتي والفعليِّ وإليه أنيب، أي عليه أقبل بشراشِر نفسي في مجامع أموري. وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ على الماضي الأنسبِ للتقرر والتحقّقِ كما في التوكل لاستحضار الصورةِ والدلالةِ على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطفِ المراجعةِ ورِفق الاستنزالِ والمحافظةِ على قواعد حسنِ المجاراة والمحاورَة وتمهيدِ معاقدِ الحقِّ بطلب التوفيقِ من جناب الله تعالى والاستعانةِ في أموره، وحسمِ أطماعِ الكفار وإظهار الفراغِ عنهم وعدمِ المبالاة بمعاداتهم، وأما تهديدُهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابةَ إنما هي الرجوعُ الاختياريُّ بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوعُ الاضطراريُّ للجزاء أو ما يعمه.

.تفسير الآية رقم (89):

{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)}
{وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يَكسِبنّكم، من جرَمتُه ذنباً مثلُ كسبته مالاً {شِقَاقِى} معاداتي وأصلُهما أن أحد المتعادِيَين يكون في عُدوةٍ وشقَ والآخرُ في آخرَ {أَن يُصِيبَكُمُ} مفعولٌ ثانٍ ليجرمنكم أي لا تكسِبْكم معاداتُكم لي أن يصيبكم {مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح {أَوْ قَوْمَ صالح} من الصيحة والرجفةِ، وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمتُه ذنباً إذا جعلته جارِماً له أي كاسباً وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المالَ من كسب المالَ فكما لا فرق بين كسبته مالاً وأكسبته إياه لا فرق جرَمته ذنباً وأجرمتُه إياه في المعنى، إلا أن الأولَ أصحُ وأدور على ألسنة الفصحاءِ وقرأ أبو حيوة {مثلَ ما أصاب} بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله:
لم يمنع الشربَ منها غير أن نطَقت ** حمامةٌ في غصون ذاتُ أوقالِ

وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للشقاق عن كسب إصابةِ العذابِ لكنه في الحقيقة نهيٌ للكفرة عن مشاقّته عليه السلام على ألطف أسلوبٍ وأبدعِه كما مر في سورة المائدة عند قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} الآية {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} زماناً أو مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلَهم من الأمم المعدودةِ فاعتبروا بهم، فكأنه إنما غير أسلوبَ التحذيرِ بهم ولم يصرِّح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربِهم إيذاناً بأن ذلك مغنٍ عن ذكره لشهرة كونِه منظوماً في سِمْطِ ما ذُكر من دواهي الأممِ المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعُد أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابكم، وإفرادُ البعيدِ مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكُهم على نية المضافِ أو وما هم بشيء بعيد، لأن المقصودَ إفادةُ عدم بعدِهم على الإطلاق لا من حيث خصوصيةُ كونِهم قوماً أو ما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد، ولا يبعُد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق، ولما أنذرهم عليه السلام بسوء عاقبة صنيعِهم عقّبه طمعاً في ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال: