فصل: تفسير الآيات (91- 93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (88- 89):

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً} أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، فحلالاً مفعول {كلوا}، ومما رزقكم إما حال منه تقدمت عليه لكونه نكرةً، أو متعلق بكلوا، ومِنْ ابتدائية، أو هو المفعول وحلالاً حال من الموصول، أو مِنْ عائدِه المحذوف، أو صفةٌ لمصدرٍ محذوف، أي أكلاً حلالاً، وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} توكيد للوصية بما أَمَر به، فإن الإيمان به تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه.
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم، وهو عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن، وهو قول مجاهد، قيل: كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة، فلما نزل النهي قالوا: كيف بأيْماننا؟ فنزلت، وعند الشافعي رحمه الله تعالى، ما يبدو من المرء من غير قصد كقوله: لا والله وبلى والله، وهو قول عائشةَ رضي الله تعالى عنها، و{في أيمانكم} صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر، أو حال منه {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان} أي بتعقيدكم الأَيمانَ وتوثيقها عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم، فحُذِف للعلم به، وقرئ بالتخفيف، وقرئ {عاقدتم} بمعنى عقدتم {فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفّرَ الخطيئة وتستُرَها، واستُدل بظاهره عن جواز التكفير قبل الحِنْث، وعندنا لا يجوز ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلَف على يمينٍ ورأى غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه» {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي ما أقصَدِه في النوع أو المقدار، وهو نصفُ صاع من بُر لكلِّ مسكين، ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعولٍ محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون، أو الرفعُ على أنه بدل من إطعام، وأهلون جمعُ أهلٍ كأَرَضون جمع أرض، وقرئ {أهاليكم} بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف، وهذا أيضاً جمع أهلٍ كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل، وقيل: جمع أهلاة {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على {إطعامُ} أو على محلَّ {من أوسط} على تقدير كونه بدلاً من {إطعام} وهو ثوب يغطي العورة، وقيل: ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار، وقرئ بضم الكاف وهي لغة كقِدوة في قُدوة وإسوة في أُسوة، وقرئ أو {كأُسوتهم} على أن الكاف في محل الرفع تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً وتقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تُطعموهم الأوسط {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة القتل، ومعنى {أو} إيجابُ إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيين للمكلف.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي شيئاً من الأمور المذكورة {فَصِيَامُ} أي فكفارتُه صيام {ثلاثة أَيَّامٍ} والتتابع شرط عندنا لقراءة {ثلاثة أيام متتابعات}، والشافعي رضي الله عنه لا يرى للشواذ حجة {ذلك} أي الذي ذكر {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} أي وحنِثْتم {واحفظوا أيمانكم} بأن تضِنوا بها ولا تبذُلوها كما يُشعر به قوله تعالى: {إِذَا حَلَفْتُمْ}، وقيل: بأن تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير، أو بأن تكفروها إذا حنِثتم، وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها {كذلك} إشارة إلى مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيينٍ آخَرَ مفهومٍ مما سبق، والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، ومحله في الأصل النصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف وأصل التقدير: يبين الله تبييناً كائناً مثلَ ذلك التبيين، فقدم على الفعل لإفادة القصر، واعتُبرت الكاف مقحمةً للنكتة المذكورة، فصار نفسَ المصدر لا نعتاً له، وقد مر تفصيله في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} أي ذلك البيان البديع {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه، وتقديم {لكم} على المفعول لما مر مراراً {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج.

.تفسير الآية رقم (90):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}
{يَأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب} أي الأصنامُ المنصوبةُ للعبادة {والازلام} سلف تفسيرها في أوائل السورة الكريمة {رِجْسٌ} قذر تعاف عنه العقول، وإفراده لأنه خبرُ الخمر، وخبرُ المعطوفات محذوفٌ ثقةً بالمذكور، أو المضاف محذوف أي شأن الخمر والميسر، إلخ {مِنْ عَمَلِ الشيطان} في محل الرفع على أنه صفةُ {رجس}، أي كائن من عمله لأنه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه {فاجتنبوه} أي الرجس أو ما ذكر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي راجين فلاحكم، وقيل: لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ولقد أُكِّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صُدِّرت الجملة بإنما وقُرِنا بالأصنام والأزلام، وسُمِّيا رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على أن تعاطيَها شرٌّ بحْتٌ، وأَمَر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك سبباً يرجى عنه الفلاح، فيكون ارتكابهما خَيبة ومَحْقة، ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم، فقيل:

.تفسير الآيات (91- 93):

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر} وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} إشارة إلى مفاسدهما الدينية، وتخصيصُهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما، وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصلاة والسلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتَّباً على ما تقدم من أصناف الصوارف، فقيل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أيذاناً بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشفِ ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذارَ قد انقطعت بالكلية.
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه {واحذروا} أي مخالفتَهما في ذلك فيدخل فيه مخالفةُ أمرِهما ونهْيِهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن الامتثال بما أُمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعةِ رسوله عليه الصلاة والسلام والاحترازِ عن مخالفتهما {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وخرج عن عُهدة الرسالة أيَّ خروج، وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب. وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى، وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضُروا بتولِّيكم الرسولَ لأنه ما كُلّف إلا البلاغَ المبينَ بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كُلِّفتموه فلا يساعده المقام، إذ لا يُتوهم منهم ادعاءُ أنهم بتوليهم يضرونه عليه الصلاة والسلام حتى يردَ عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم.
{لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ} أي إثم وحرج {فِيمَا طَعِمُواْ} أي تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ، منه قولُه تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} قيل: لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهم يشربونها، ونحن نشهد أنهم في الجنة، وفي رواية أخرى: «لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟»، وفي رواية أخرى: «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار؟ فنزلت»، وليست كلمة {ما} في ما طعموا عبارةً عن المباحات الخاصة، والإلزام تقييدُ إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى: {إِذَا مَا اتقوا} واللازمُ منْتفٍ بالضرورة، بل هي على عمومها موصولةً كانت أو موصوفة، وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها، والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقَوْا أن يكون في ذلك شيء من المحرمات، وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذورَ فيه، إذِ اللازمُ منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازم من الأول {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة، وقوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَواْ} عطف على {اتقوا} داخلٌ معه في حيِّز الشرط، أي اتقوا ما حُرّم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق {وَءامَنُواْ} أي بتحريمه، وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمَنُ به، أو واستمروا على الإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ} أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل، على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحةُ كل ما طعِموه في ذلك الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله، لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ {وَأَحْسِنُواْ} أي عملوا الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية، وليس تخصيص المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها، بل لبيان التعدد والتكرر بالغاً ما بلغ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة، وكانوا في طاعة الله ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من المباحات اتقَوْه، ثم.
.. وثم.. فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب، إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه.
وأنت خبير بأن ما عدا اتقاءِ المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح، وإنما ذكرت في حيز {إذا} شهادةً باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها، ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم، وقد أشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم، فإن مَساقَ النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذُكر من النعوت فيما سيأتي بقضية كلمة {إذا ما}، لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص، بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها، فكأنه قيل: ليس عليهم جُناح فيما طعِموه إذْ كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة، بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال. وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك، ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة.
هذا وقد قيل: التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة، أو باعتبار الحالات الثلاث: استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله عز وجل، ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ الإيمان إشارةً إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره، أو باعتبار المراتب الثلاث: المبدأ والوسط والمنتهى، أو باعتبار ما يُتَّقى، فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب، والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام، وبعضَ المباحات حفظاً للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة، وقيل: التكريرُ لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ونظائرِه، وقيل: المرادُ بالأول اتقاءُ الكفر، وبالثاني اتقاءُ الكبائر، وبالثالث اتقاءُ الصغائر. ولا ريب في أنه تعلُّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل {والله يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أبلغَ تقرير.

.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله ليُعامِلَّنكم معاملةَ مَنْ يختبركم ليتعرَّفَ أحوالَكم {بِشَىْء مّنَ الصيد} أي من صيدِ البَرّ مأكولاً أو غيرَ مأكول ما عدا المستثنياتِ من الفواسق، فاللام للعَهْد، نزلت عام الحُدَيْبية. ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم مُحرِمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدِها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وذلك قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} فهمُّوا بأخذها فنزلت، ورُوي أنه عَنَّ لهم حمارُ وحشٍ فحمل عليه أبو اليَسَر بنُ عمرو فطعنه برمحه وقتله، فقيل له: قتلته وأنت مُحرم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية، فالتأكيد القَسَميُّ في {ليبلونكم} إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحُّش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوعِ المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء، وتنكير {شيء} للتحقير المُؤْذِن بأن ذلك ليس من الفِتن الهائلة التي تزِلُّ فيها أقدامُ الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلافِ الأموال، وإنما هو من قبيل ما ابتُليَ به أهلُ أَيْلَةَ من صيد البحر، وفائدته التنبيه على أن من لم يثبّتْ في مثل هذا كيف يثبتُ عند شدائد المحن؟ فـ {من} في قوله تعالى: {مّنَ الصيد} بيانية قطعاً أي بشيء حقير هو الصيد، وجعلُها تبعيضيةً يقتضي اعتبارَ قِلَّته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا فيَعْرَى الكلامُ عن التنبيه المذكور.
{لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي ليتميز الخائفُ من عقابه الأخروي وهو غائبٌ مترقبٌ لقوة إيمانه، فلا يتعرض للصيد، ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيُقدم عليه، وإنما عبر عنْ ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذاناً بمدار الجزاءِ ثواباً وعقاباً فإنه أدْخَلُ في حملهم على الخوف، وقيل: المعنى ليتعلق علمه تعالى بمن يخافه بالفعل، فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقاً به قبل خوفه لكنّ تعلُّقَه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمرُ الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل، وقيل: هناك مضاف محذوف، والتقدير ليعلم أولياءَ الله، وقرئ {ليُعلِمَ} من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليُعْلِمَ الله عباده الخ، والعلمُ على القراءتين متعدَ إلى واحد، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} أي بعد بيان أنّ ما وقع ابتلاءٌ من جهته تعالى لِما ذُكر من الحِكمة لا بعد تحريمِه أو النهي عنه كما قاله بعضهم، إذ النهي والتحريم ليس أمراً حادثاً يترتب عليه الشرطية، بالفاء، ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون، لأن نفس الابتلاء لا يصلح مداراً لتشديد العذاب، بل ربما يتوهم كونُه عذراً مسوِّغاً لتخفيفه، وإنما الموجب للتشديد بيانُ كونه ابتلاءً، لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرةٌ صريحة، وعدمُ مبالاةٍ بتدبير الله تعالى، وخروجٌ عن طاعته، وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية.
أي: فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحُّشه منهم ابتلاءٌ مؤدَ إلى تمييز المطيع من العاصي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهيِّنة لا يكاد يُراعيه في عظائم المداحض. والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يُوسَعُ ظهرُه وبطنه جَلداً وينزع ثيابه.