فصل: تفسير الآيات (99- 100):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (99- 100):

{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)}
{لَوْ كَانَ هَؤُلاء} أي أصنامُهم {ءالِهَةً} كما يزعمون {مَّا وَرَدُوهَا} وحيث تبين ورودُهم إياها تعين امتناعُ كونها آلهةً بالضرورة، وهذا كما ترى صريحٌ في أن المرادَ بما يعبدون هي الأصنامُ لأن المرادَ إثباتُ نقيضِ ما يدّعونه وهم إنما يدّعون إلهية الأصنام لا إلهية الشياطين حتى يُحتجَّ بورودها النارَ على عدم آلِهيّتها، وأما ما وقع في الحديث الشريف فقد وقع بطريق التكملة بانجرار الكلام إليه عند بيان ما سيق له النظمُ الكريم بطريق العبارة، حيث سأل ابنُ الزبعرى عن حال سائرِ المعبودين وكان الاقتصارُ على الجواب الأول مما يوهم الرخصةَ في عبادتهم في الجملة لأنهم المعبودون عندهم، أجيب ببيان أن المعبودين هم الشياطينُ وأنهم داخلون في حكم النص لكن بطريق الدِلالة لا بطريق العبارة لئلا يلزَمَ التدافعُ بين الخبرين {وَكُلٌّ} أي من العبَدة والمعبودين {فِيهَا خالدون} لا خلاصَ لهم عنها.
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي أنينٌ وتنفسٌ شديدٌ وهو مع كونه من أفعال العبَدة أضيف إلى الكل للتغليب، ويجوز أن يكون الضميرُ للعبدة لعدم الإلباس وكذا في قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمع بعضُهم زفيرَ بعض لشدة الهول وفظاعةِ العذاب، وقيل: لا يسمعون ما يسرهم من الكلام.

.تفسير الآيات (101- 103):

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
{إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} شروعٌ في بيان حال المؤمنين إثرَ شرح حالِ الكفرة حسبما جرت به سنةُ التنزيل من شفْع الوعد بالوعيد وإيرادِ الترغيب مع الترهيب، أي سبقت لهم منا في التقدير الخَصلةُ الحسنى التي هي أحسنُ الخصال وهي السعادةُ، وقيل: التوفيقُ للطاعة أو سبقت لهم كلمتُنا بالبشرى بالثواب على الطاعة وهو الأدخلُ الأظهرُ في الحمل عليها لما أن الأولَين مع خفائهما ليسا من مقدورات المكلفين، فالجملةُ مع ما بعدها تفصيلٌ لما أُجمل في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتبون} كما أن ما قبلها من قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الخ، تفصيلٌ لما أُجمل في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ} إلخ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف والفضل، أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل {عَنْهَا} أي عن جهنم {مُبْعَدُونَ} لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار، وما روي أن علياً رضي الله تعالى عنه خطب يوماً فقرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعدٌ وسعيدٌ وعبدُ الرحمن بنُ عوف وأبو عبيدةَ بنُ الجراح رضوانُ الله تعالى عنهم أجمعين، ثم أقيمت الصلاةُ فقام يجرّ رداءه ويقول: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} ليس بنص في كون الموصول عبارةً عن طائفة مخصوصة، والحسيسُ صوتٌ يُحَسّ به، أي لا يسمعون صوتَها سمعاً ضعيفاً كما هو المعهودُ عند كون المصوِّت بعيداً وإن كان صوتُه في غاية الشدة، لا أنهم لا يسمعون صوتَها الخفيَّ في نفسه فقط، والجملةُ بدلٌ من مبعَدون أو حال من ضميره مَسوقةٌ للمبالغة في إنقاذهم منها وقوله تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون} بيانٌ لفوزهم بالمطالب إثرَ بيان خلاصِهم من المهالك والمعاطب أي دائمون في غاية التنعمَ، وتقديمُ الظرف للقصر والاهتمام به.
وقوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} بيانٌ لنجاتهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار، لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة، عن الحسن رضي الله عنه أنه الانصرافُ إلى النار، وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار، وقيل: حين يُذبح الموتُ في صورة كبشٍ أملحَ، وقيل: النفخةُ الأخيرة لقوله تعالى: {فَفَزِعَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض} وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله: {إِلاَّ مَن شَاء الله} لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة، على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة كما سيأتي في سورة النمل {وتتلقاهم الملئكة} أي تسقبلهم مهنّئين لهم {هذا يَوْمُكُمُ} على إرادة القولِ أي قائلين: هذا اليومُ يومُكم {الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات، وهذا كما ترى صريحٌ في أن المرادَ بالذين سبقت لهم الحسنى كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحةِ لا مَنْ ذكر من المسيح وعُزيرٍ والملائكة عليهم السلام خاصة كما قيل.

.تفسير الآيات (104- 106):

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}
{يَوْمَ نَطْوِى السماء} بنون العظمة منصوبٌ باذكرْ، وقيل: ظرفٌ لقوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع} وقيل: بتتلقاهم، وقيل: حالٌ مقدرة من الضمير المحذوفِ في توعدون والطيُّ ضدُّ النشر، وقيل: المحوِ، وقرئ: {يُطوى} بالياء والتاء والبناء للمفعول {كَطَىّ السجل} وهي الصحيفة أي طياً كطيّ الطوُّمار، وقرئ: {السَّجْل} كلفظ الدلو وبالكسر و{السُّجُلّ} على وزن العُتُلّ وهما لغتان واللام في قوله تعالى: {لِلْكُتُبِ} متعلقةٌ بمحذوف هو حال من السجلّ أو صفةٌ له على رأي من يجوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه، أي كطي السجل كائناً للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتبَ عبارةٌ عن الصحائف وما كتب فيها فسجلُّها بعضُ أجزائها وبه يتعلق الطيُّ حقيقةً، وقرئ: {للكتاب} وهو إما مصدرٌ واللامُ للتعليل أي كما يُطوى الطومارُ للكتابة أو اسم كالإمام فاللامُ كما ذكر أولاً، وقيل: السجلُّ اسمُ ملَكٍ يطوي كتبَ أعمالِ بني آدمَ إذا رُفعت إليه، وقيل: هو كاتبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي نعيد ما خلقناه مبتدأً إعادةً مثلَ بدئنا إياه في كونها إيجاداً بعد العدم أو جمعاً من الأجزاء المتبدّدة، والمقصودُ بيانُ صِحّةِ الإعادةِ بالقياس على المبدأ لشمول الإمكانِ الذاتي المصحّح للمقدورية وتناولِ القدرة لهما على السواء، وما كافةٌ أو مصدرية وأولَ مفعولٌ لبدأنا أو لفعل يفسّره نعيده، أو موصولةٌ والكافُ متعلقةٌ بمحذوف يفسره نعيده أي نعيدُه مثل الذي بدأناه وأولَ خلقٍ ظرفٌ لبدأنا أو حالٌ من ضمير الموصول المحذوف {وَعْداً} مصدرٌ مؤكد لفعله ومقرّرٌ لنعيده أو منتصبٌ به لأنه عِدَةٌ بالإعادة {عَلَيْنَا} أي علينا إنجازُه {إِنَّا كُنَّا فاعلين} لما ذكر لا محالة.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} هو كتابُ داودَ عليه السلام، وقيل: هو اسمٌ لجنس ما أُنزل على الأنبياء عليهم السلام {مِن بَعْدِ الذكر} أي التوراةِ وقيل: اللوحِ المحفوظ أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داودَ بعد ما كتبنا في التوراة أو كتبنا في جميع الكتب المنزلة بعد ما كتبنا وأثبتنا في اللوح المحفوظ {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} أي عامةُ المؤمنين بعد إجلاءِ الكفار، وهذا وعدٌ منه تعالى بإظهار الدينِ وإعزازِ أهلِه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المرادَ أرضُ الجنة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} وقيل: الأرضُ المقدسة يرثها أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ فِي هذا} أي فيما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظِ البالغة والوعدِ والوعيد والبراهينِ القاطعة الدالة على التوحيد وصحةِ النبوة {لبلاغا} أي كفايةً أو سببَ بلوغٍ إلى البُغية {لّقَوْمٍ عابدين} أي لقوم همُّهم العبادةُ دون العادة.

.تفسير الآيات (107- 111):

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)}
{وَمَا أرسلناك} بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكامِ وغير ذلك من الأمور التي هي مناطٌ لسعادة الدارين {إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} هو في حيز النصب على أنه استثناءٌ من أعم العلل أو من أعم الأحوال، أي ما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعةِ للعالمين قاطبةً، أو ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حالَ كونِك رحمةً لهم فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين ومنشأٌ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن لم يغتنمْ مغانمَ آثارِه فإنما فرَّط في نفسه وحُرمةِ حقه لا أنه تعالى حَرَمه مما يُسعِده، وقيل: كونُه رحمةً في حق الكفار أمنُهم من الخسف والمسخِ والاستئصال حسبما ينطِق به قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} {قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد} أي ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحدٌ لأنه المقصودُ الأصليُّ من البعثة، وأما ما عداه فمن الأحكام المتفرِّعة عليه فإنما الأولى لقصر الحُكم على الشيء كقولك: إنما يقوم زيد أي ما يقوم إلا زيد، والثانيةُ لقصر الشيءِ على الحكم كقولك: إنما زيدٌ قائم أي ليس له إلا صفةُ القيام {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي مخلِصون العبادةَ لله تعالى مخصِّصون لها به تعالى، والفاءُ للدِلالة على أن ما قبلها موجبٌ لما بعدها. قالوا: فيه دَلالةٌ على أن صفةَ الوَحْدانية تصحّ أن يكون طريقُها السمعَ.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإسلام وعن شرائعه ومباديه ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من الوحي {فَقُلْ} لهم {ءاذَنتُكُمْ} أي أعلمتُكم ما أُمرت به أو حربي لكم {على سَوَاء} كائنين على سواءٍ في الإعلام به لم أطْوِه عن أحد منكم أو مستوين به أنا وأنتم في العلم بما أعلمتُكم به أو في المعاداة أو إيذاناً على سواء، وقيل: أعلمتكم أني على سواء أي عدلٍ واستقامة رأيٍ بالبرهان النيّر {وَإِنْ أَدْرِى} أي ما أدري {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} من غلَبة المسلمين وظهورِ الدين أو الحشرُ مع كونه آتياً لا محالة.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول} أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيبِ الآياتِ التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الإحْن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيراً وقطميراً.
{وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} أي ما أدري لعل تأخيرَ جزائِكم استدراجٌ لكم وزيادةٌ في افتتانكم، أو امتحانٌ لكم لينظُرَ كيف تعملون {ومتاع إلى حِينٍ} أي وتمتُّعٌ لكم إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئتَه المبنيةُ على الحِكَم البالغةِ ليكون ذلك حجةً عليكم.

.تفسير الآية رقم (112):

{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
{قَالَ رَبّ احكم بالحق} حكايةٌ لدعائه عليه الصلاة والسلام، وقرئ: {قلْ رب} على صيغة الأمر أي اقضِ بيننا وبين أهل مكةَ بالعدل المقتضي لتعجيل العذابِ والتشديد عليهم، وقد استجيب دعاؤُه عليه السلام حيث عُذّبوا ببدر أيَّ تعذيبٍ، وقرئ: {ربُّ احكم} بضم الباء و{ربِّ أحكَمُ} على صيغةِ التفضيل و{ربِّ} أَحكِمْ من الإحكام {وَرَبُّنَا الرحمن} مبتدأ أي كثيرُ الرحمة على عباده وقوله تعالى: {المستعان} أي المطلوبُ منه المعونةُ خبر، أو خبرٌ آخرُ للمبتدأ، وإضافةُ الربِّ فيما سبق إلى ضميره عليه السلام خاصة لما أن الدعاءَ من الوظائف الخاصةِ به عليه السلام كما أن إضافتَه هاهنا إلى ضمير الجمعِ المنتظمِ للمؤمنين أيضاً لما أن الاستعانةَ من الوظائف العامة لهم {على مَا تَصِفُونَ} من الحال فإنهم كانوا يقولون: إن الشوكةَ تكون لهم وإن رايةَ الإسلام تخفُق ثم تركُد وإن المتوعَّد به لو كان حقاً لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خيرَ فيه، فاستجاب الله عز وجل دعوةَ رسوله عليه السلام فخيب آمالَهم وغيّر أحوالَهم ونصر أولياءَه عليهم، فأصابهم يومَ بدرٍ ما أصابهم، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله، وقرئ: {يصفون} بالياء التحتانية.
وعن النبي عليه السلام: «من قرأ {اقترب} حاسبه الله تعالى حساباً يسيراً وصافحه وسلم عليه كلُّ نبيَ ذُكر اسمُه في القرآن».

.سورة الحج:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
{يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ} خطابٌ يعمُّ حُكمُه المكلفين عند النُّزولِ ومَن سينتظم في سلكهم بعدُ من الموجودين القاصرين عن رتبةِ التكليفِ والحادثين بعدَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وإنْ كان خطابُ المشافهةِ مختصًّا بالفريق الأولِ على الوجه الذي مرَّ تقريرُه في مطلعِ سورةِ النساءِ. ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكورِ فواردةٌ على نهجِ التغليبِ لعدمِ تناولِها للإناثِ حقيقةً إلا عندَ الحنابلةِ. والمأمورُ به مطلقُ التَّقوى الذي هو التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ، ويندرجُ فيه الإيمانُ بالله واليومِ الآخرِ حسبما وردَ به الشرعُ اندراجاً أولياً. والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به ترهيباً وترغيباً. أي احذَرُوا عقوبةَ مالكِ أمورِكم ومُربِّيكم. وقولُه تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شيء عَظِيمٌ} تعليلٌ لموجبِ الأمرِ بذكرِ بعضِ عقوباتِه الهائلةِ فإنَّ ملاحظةَ عِظَمِها وهولِها وفظاعةِ ما هيَ من مباديهِ ومقدماتِه من الأحوالِ والأهوالِ التي لا مَلْجأَ منها سوى التَّدرعِ بلباسِ التَّقوى مما يوجبُ مزيدَ الاعتناءِ بملابستِه وملازمتِه لا محالةَ. والزلزلةُ التحريكُ الشديدُ والإزعاجُ العنيفُ بطريقِ التكريرِ بحيث يزيلُ الأشياءَ من مقارِّها ويُخرجُها عن مراكزِها. وإضافتُها إلى الساعةِ إمَّا إضافةُ المصدرِ إلى فاعلِه، على المجازِ الحكميِّ. كأنَّها هي التي تزلزلُ الأشياءَ، أو إضافتُه إلى الظَّرفِ إمَّا بإجرائِه مُجرى المفعولِ به اتساعاً، أو بتقديرِ في كما في قولِه تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} وهي الزَّلزلةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} عن الحسنِ أنَّها تكونُ يومَ القيامةِ. وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: زلزلةُ السَّاعةِ قيامُها، وعن علقمةَ والشَّعبيِّ: أنَّها قبلَ طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها، فإضافتُها إلى الساعةِ حينئذٍ لكونِها من أشراطِها، وفي التعبيرِ عنها بالشيءِ إيذانٌ بأنَّ العقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنهِها والعبارةُ ضيقةٌ لا تحيطُ بها إلاَّ على وجهِ الإبهامِ.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} منتصبٌ بما بعدَهُ قُدِّمَ عليهِ اهتماماً بهِ. والضميرُ للزَّلزلةِ أي وقتَ رؤيتِكم إيَّاها ومشاهدتِكم لهولِ مطلعِها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي مباشرةٍ للإرضاعِ. {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تغفلُ وتذهلُ مع دهشةٍ عمَّا هيَ بصددِ إرضاعِه من طفلِها الذي ألقمتْهُ ثديَها. والتعبيرُ عنه بمَا دونِ مَنْ لتأكيدِ الذهولِ وكونِه بحيثُ لا يخطرُ ببالِها أنَّه ماذا لا أنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل: مَا مصدريةٌ أي تذهلُ عنْ إرضاعِها. والأولُ أدلُّ على شدةِ الهولِ وكمالِ الانزعاجِ. وقرئ: {تُذهَل} من الإذهالِ مبنياً للمفعولِ أو مبنياً للفاعلِ مع نصبِ كلُّ، أي تُذهلها الزلزلةُ. {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تُلقي جنينَها لغيرِ تمامٍ، كما أنَّ المرضعةَ تذهلُ عن ولدِها لغيرِ فطامٍ.
وهذا ظاهرٌ على قولِ علقمةَ والشَّعبيِّ وأمَّا على ما رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فقدْ قيلَ إنَّه تمثيلٌ لتهويلِ الأمرِ، وفيه أنَّ الأمرَ حينئذٍ أشدُّ من ذلكَ وأعظمُ وأهولُ ممَّا وُصفَ وأطمُّ. وقيلَ: إنَّ ذلكَ يكونُ عند النفخةِ الثَّانيةِ، فإنَّهم يقومونَ على ما صُعقوا في النفخةِ الأولى فتقومُ المرضعةُ على إرضاعِها والحاملُ على حملِها. ولا ريبَ في أنَّ قيامَ الناسِ من قبورِهم بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ لا قبلَها حتى يتصورَ ما ذُكر. {وَتَرَى الناس} بفتحِ التَّاءِ والرَّاءِ على خطابِ كلِّ واحدٍ من المُخاطبينَ برؤيةِ الزَّلزلةِ. والاختلافُ بالجمعيةِ والإفرادِ لِمَا أنَّ المرئيَّ في الأولِ هي الزلزلةُ التي يشاهدُهَا الجميعُ وفي الثَّاني حالُ مَن عَدَا المخاطبِ منهم فلابد من إفرادِ المخاطبِ على وجهٍ يعمُّ كلَّ واحدٍ منهم لكلِّ من غيرِ اعتبارِ اتِّصافِه بتلكَ الحالةِ فإنَّ المرادَ بيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مشاعرِه لأنَّ مدارَه حيثيةُ رؤيتِه للزلزلةِ لا لغيرِها كأنَّه قيلَ: ويصيرُ النَّاسُ سُكارى الخ، وإنما أوترَ عليهِ ما في التنزيلِ للإيذانِ بكمالِ ظهورِ تلك الحالةِ فيهم وبلوغِها من الجلاءِ إلى حدَ لا يكادُ يخفى على أحدٍ أي يراهم كلُّ أحدٍ {سكارى} أي كأنَّهم سُكارى {وَمَا هُم بسكارى} حقيقةً {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فيُرهقهم هولُه ويطيرُ عقولَهم ويَسلُبُ تمييزَهُم فهو الذي جعلَهم كما وُصفوا وقرئ: {تُرَى} بضمِّ التَّاءِ وفتحِ الرَّاءِ مُسنداً إلى المخاطبِ منْ رأيتكَ قائماً أو رُؤيتكَ قائماً والنَّاسُ منصوبٌ أي تظنُّهم سُكارى. وقرئ برفعِ النَّاسَ على إسنادِ الفعلِ المجهولِ إليهِ، والتأنيثُ على تأويلِ الجماعةِ وقرئ تُرِي بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ أي تُرِي الزلزلةُ الخلقَ جميعَ الناسِ سُكارى وقرئ: {سَكْرى} و{سَكْرى} كعطْشى وجَوْعى إجراءً للسُّكرِ مجرَى العللِ.