فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (10):

{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)}
{إِذْ جَاءُوكُم} بدلٌ من إذْ جاءتْكُم {مّن فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعَهم من أهلِ نحدٍ قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنَّضيرِ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ. {وَإِذْ زَاغَتِ الابصار} عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل: عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل: هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ. والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرارِ. وقُرى الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي.

.تفسير الآيات (11- 13):

{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)}
{هُنَالِكَ} ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ. {ابتلى المؤمنون} أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المُخلِص من المنافقِ والرَّاسخُ من المتزلزلِ. {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} من الهَولِ والفزعِ وقرئ بفتحِ الزَّاي {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} عطفٌ على إذْ زاغتِ. وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِّلالةِ على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي ضعفُ اعتقادٍ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ {إِلاَّ غُرُوراً} أي وعدَ غرورٍ وقيل: قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ.
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأشياعُه {ياأهل يَثْرِبَ} هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل: اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال «هي طَيبةُ» أو «طَابةُ» كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم هاهنا يُريدون المعسكرَ. وقرئ بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ أو لا موضعَ قيامٍ لكم {فارجعوا} أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل: المَعنى لا قيامَ لكم في دين محمد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعُوا عمَّا بايعتُموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه أو لا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى} معطوفٌ على قالتْ. وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمةَ استأذنُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم. وقولُه تعالى: {يَقُولُونَ} بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ. والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عوّرةٍ من عوَّرتِ الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قرئ بَها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ {وَمَا هي بِعَوْرَةٍ} والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ {إِن يُرِيدُونَ} ما يُريدون بالاستئذانِ {إِلاَّ فِرَاراً} من القتالِ.

.تفسير الآيات (14- 17):

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أُسند الدُّخولُ إلى بيوتِهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ دخولِها مطلقاً كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخولِ عليهم مطلقاً كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ {مّنْ أَقْطَارِهَا} أي من جميعِ جوانبِها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلِّيةِ ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهلِ الدَّعارةِ والفسادِ {ثُمَّ سُئِلُواْ} من جهةِ طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلةِ والرَّجفةِ الهائلةِ {الفتنة} أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفرِ مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمانِ والطَّاعةِ {لأَتَوْهَا} لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهيةِ الدَّهياءِ والغارةِ الشَّعواءِ. وقرئ: {لأتَوَها} بالقصرِ أي لفعلُوها وجَاؤها {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا} بالفتنةِ أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها {إِلاَّ يَسِيراً} ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمانِ فضلاً عن التعلل باختلال البيوتِ مع سلامتِها كما فعلُوا الآنَ وقيل: ما لبثُوا بالمدينةِ بعد الارتدادِ إلا يسيراً والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ. هذا وأما تخصيصُ فرضِ الدُّخولِ بتلك العساكرِ المتحزبةِ فمع منافاتِه للعمومِ المستفادِ من تجريدِ الدُّخولِ عن الفاعلِ ففيه ضربٌ من فسادِ الوضعِ لما عَرَفت من أنَّ مساقَ النَّظم الكريمِ لبيانِ أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقِّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارعُوا إليه آثرَ ذي أثيرٍ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم ففرضُ الدُّخولِ عليهم من جهةِ العساكرِ المذكورةِ وإسنادِ سؤالِ الفتنةِ والدَّعوةِ إلى الكفرِ إلى طائفةٍ أُخرى من مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدِّينِ المُباشرون لقتالِ المؤمنين المُصرُّون على الإعراضِ عن الحقِّ المُجدُّون في الدُّعاءِ إلى الكُفر والضَّلالِ بمعزلٍ من التَّقريبَ.
{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الادبار} فإنَّ بني حارثةَ عاهدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثلِه وقيل: هم قُومٌ غابُوا عن وقعةِ بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامةِ والفضيلةِ فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالاً لنقاتلنَّ {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً} مطلوباً مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل: مسؤولاً عن الوفاءِ به ومجازي عليهِ {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل} فإنَّه لابد لكلِّ شخصٍ من حتفِ أنفٍ أو قيلِ سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلمُ {وَإِذّن لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلاً فمُتعتم بالتَّأخيرِ لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلاَّ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأولِ لما في العصمةِ من مَعنى المنعِ {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً} ينفعُهم {وَلاَ نَصِيراً} يدفعُ عنهم الضَّررَ.

.تفسير الآيات (18- 20):

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} أي المُثبطين للنَّاسِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهُم المنافقونَ {والقائلين لإخوانهم} من منافِقي المدينةِ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} وهو صوتٌ سُمي به فعلٌ متعدَ نحو احضرْ أو قرِّب ويستوي فيه الواحدُ والجماعةُ على لغةِ أهلِ الحجازِ وأما بنُو تميمٍ فيقولون هُلمَّ يا رجلُ وهلمُّوا يا رجالُ أي قرِّبوا أنفسَكم إلينا وهذا يدلُّ على أنَّهم عند هذا القولِ خارجون من المعسكرِ متوجِّهون نحوَ المدينةِ {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرابَ والقتالَ {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً فإنَّهم يعتذرون ويُثبطون ما أمكنَ لهم ويخرجون مع المؤمنينَ يُوهمونهم أنَّه معهم ولا تراهُم يبارزون ويُقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه كقولِه تعالى: {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} وقيل إنَّه من تتمةِ كلامِهم معناه ولا يأتي أصحابُ محمدٍ حربَ الأحزابِ ولا يُقاومونهم إلا قليلاً {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاءُ عليكم بالمعاونةِ أو النَّفقةِ في سبيلِ الله أو الظَّفرِ والغنيمةِ جمع شحيحٍ ونصبُه على الحاليةِ من فاعلِ يأتُون من المعوقينَ أو على الذمِّ {فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} في أحداقِهم {كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} صفةٌ لمصدرِ ينظرون أو حالٌ من فاعله أو لمصدرِ تدورُ أو حالٌ من أعينُهم أي ينظرون نظراً كائناً كنظرِ المغشيِّ عليه من معالجةِ سكراتِ الموتِ حَذَراً وخَوَراً ولَوذاً بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدورُ أعينُهم دوراناً كائناً كدورانِ عينِه أو تدورُ أعينُهم كائنةً كعينهِ {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف} وحِيزت الغنائمُ {سَلَقُوكُم} ضربُوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وقالُوا وفروا قسمَتنا فإنَّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكُم وبمكاننا غلبتُم عدوَّكم وبنا نُصرتم عليه والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ. وقرئ: {صَلَقوُكم} {أَشِحَّةً عَلَى الخير} نُصب على الحاليَّةِ أو الذمِّ ويُؤيده القراءةُ بالرَّفعِ {أولئك} الموصوفون بما ذُكر من صفاتِ السُّوء {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بالإخلاصِ {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أظهرَ بطلانَها إذ لم يثبُت لهم أعمالٌ فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقَهم فلم يبقَ مستتبعاً لمنعفةٍ دنيويةٍ أصلاً {وَكَانَ ذلك} الإحباطُ {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً وتخصيصُ يُسره بالذكرِ مع أنَّ كلَّ شيءٍ عليه تعالى يسيرٌ لبيانِ أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بأنْ يظهر حبُوطها لكمالِ تعاضدِ الدَّواعِي وعدمِ الصَّوارفِ بالكُلِّيةِ {يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي هؤلاءِ لجبنِهم يظنُّون أنَّ الأحزابَ لم ينهزمُوا ففرُّوا إلى داخلِ المدينةِ {وَإِن يَأْتِ الاحزاب} كرَّةً ثانيةً {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الاعراب} تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ حاصلون بين الأعرابِ وقرئ: {بُدَّى} جمع بادٍ كغازٍ وغُزَّى {يُسْئَلُونَ} كلَّ قادمٍ من جانبِ المدينةِ وقرئ: {يُساءلون} أي يتساءلُون ومعناه يقولُ بعضُهم لبعضٍ ماذا سمعتَ ماذا بلغكَ أو يتساءلُون الأعرابَ كما يقال رأيتُ الهلالَ وتراءيناهُ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد تُجرَّدُ عن معنى كونِ ما أُسندت إليه فاعلاً من وجهٍ ومفعولاً من وجهٍ ويكتفي بتعدُّدِ الفاعلِ كما في المثالِ المذكورِ ونظائرِه {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عمَّا جَرَى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} هذه الكرَّة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} رياءً وخوفاً من التَّعييرِ.

.تفسير الآيات (21- 22):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} خَصلةٌ حسنةٌ حقُّها أنْ يُؤتسى بها كالثَّباتِ في الحربِ ومقاساةِ الشَّدائدِ أو هو في نفسه قدوة يحق التأسّي به كقولك في البيضة عشرون منّاً حديداً أي هي في نفسِها هذا القدُر من الحديدِ وقرئ بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيها {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي ثوابَ الله أو لقاءَهُ أو أيَّامَ الله واليَّومَ الآخرَ خُصوصاً وقيل: هو مثلُ قولِك أرجُو زيداً وفضَله فإنَّ اليومَ الآخرَ من أيامِ الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدلٌ من لكُم والأكثرونَ على أنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبدلُّ منه {وَذَكَرَ الله} أي وقَرن بالرَّجاءِ ذكَر الله {كَثِيراً} أي ذكراً كَثيراً أو زماناً كَثيراً فإنَّ المُثابرةَ على ذكرِه تعالى تُؤدِّي إلى مُلازمةِ الطَّاعةِ وبها يتحقَّقُ الانتساءُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
{وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب} بيانٌ لما صدَر عن خُلَّصِ المؤمنينَ عند اشتباهِ الشؤونِ واختلافِ الظُّنونِ بعد حكايةِ ما صدرَ عن غيرِهم أي لمَّا شاهدُوهم حسبما وصفُوا لهم {قَالُواْ هذا} مُشيرين إلى ما شاهدُوه من حيثُ هو غيرِ أنْ يخطرَ ببالِهم لفظٌ يدلُّ عليه فضلاً عن تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما من أحكامِ اللَّفظِ كما مرَّ في قولِه تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى} وجعله إشارةً إلى الخطبِ أو البلاءِ من نتائجِ النَّظرِ الجليلِ فتدبَّر. نَعم يجوزُ التَّذكيرُ باعتبارِ الخبرِ الذي هُو {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} فإنَّ ذلكَ العُنوان أولُ ما يخطُر ببالِهم عند المُشاهدةِ ومرادُهم بذلك ما وعدُوه بقولِه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء} إلى قولِه تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} وقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «سيشتدُّ الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم والعاقبةُ لكم عليهم» وقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «إنَّ الأحزابَ سائرونَ إليكُم بعدَ تسعِ ليالٍ أو عشرٍ». وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وفتح الهمزةِ {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أي ظهَر صدقُ خبرِ الله تعالى ورسولِه أو صَدَقا في النُّصرة والثَّوابِ كما صَدَقا في البلاءِ وإظهارِ الاسمِ للتَّعظيم {وَمَا زَادَهُمْ} أي ما رَأَوه {إِلاَّ إِيمَانًا} بالله تعالى وبمواعيدهِ {وَتَسْلِيماً} لأوامرِه ومقاديرِه.

.تفسير الآية رقم (23):

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}
{مِنَ المؤمنين} أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} من الثَّباتِ مع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجالٌ من الصَّحابةِ رضي الله عنهُم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعبُ بنُ عُميرٍ وأنسُ بنُ النَّضرِ وغيرُهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ. ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كما في قولِهم: صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما بجعلِ المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه:
نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي

وقالوا له: سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} تفصيلٌ لحالِ الصَّادقينَ وتقسيمٌ لهم إلى قسمينِ. والنَّحبُ النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه، وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله} الآيةَ، أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعبِ بنِ عميرٍ وأنسِ بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ بنِ مالكٍ وغيرِهم رضوان الله عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي.
{وَمِنْهُمُ} أي وبعضُهم أو بعضٌ منهم {مَّن يَنتَظِرُ} أي قضاءَ نحبِه لكونِه موقناً كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً. هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إمَّا بتنزيلِ التزامِ أسبابِه التي هي أفعالٌ اختياريَّةٌ للنَّاذرِ منزلةَ التزامِ نفسِه وإمَّا بتنزيلِ نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقامِ المدحِ، وأياً ما كان ففي وصفِهم بالانتظارِ المُنبىءِ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ، وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ {وَمَا بَدَّلُواْ} عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه {تَبْدِيلاً} أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكونُ، أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحُكمِ ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أنَّ طلحةَ رضي الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يدُه فقال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
«أوجبَ طلحةُ الجنَّة» وفي رواية: «أوجبَ طلحةُ» وعنه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ في رواية جابرٍ رضي الله عنه: «مَن سرَّه أنْ ينظرَ إلى شهيدٍ يمشِي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ» وفي روايةِ عائشةَ رضي الله عنها: «مَنْ سرَّه أنْ ينظرَ إلى شهيدٍ يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ» وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً.