فصل: تفسير الآية رقم (106):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (106):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} استئناف مَسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم، وتصديرُه بحرفي النداءِ والتنبيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه، وقولُه عز وجل: {شهادة بَيْنِكُمْ} بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً، إما باعتبار جَرَيانِها بينهم، أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بينهم من الخصومات، مبتدأ، وقوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} أي شارفه وظهرت علائمُه، ظرفٌ لها، وتقديمُ المفعول لإفادة كمالِ تمكن الفاعل عند النفْس وقت ورودِه عليها، فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت، وقولُه تعالى: {حِينَ الوصية} بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم، ولا لحضوره كما قيل، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها، وقوله تعالى: {اثنان} خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف، أي شهادةُ بينكم حينئذ شهادةُ اثنين، أو فاعلُ {شهادةُ بينكم} على أن خبرها محذوف، أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان، وقرئ {شهادةٌ} بالرفع والتنوين، والإعرابُ كما سبق، وقرئ {شهادةً} بالنصب والتنوين على أن عاملها المضمرَ هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له، وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له. وقيل: من المسلمين وهما صفتان لاثنان {أَوْ آخَرَان} عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية، أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بينكم آخران، أو ليقم {شهادةً بينكم} آخران، وقوله تعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} صفةٌ لـ {آخَران} أي كائنان من غيركم أي من الأجانب، وقيل: من أهل الذمة، وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لاسيما في السفر، ثم نسخ. وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} {إِنْ أَنتُمْ} مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم، فلما حُذف الفعل انفصل الضمير، وهذا رأيُ جمهور البَصْريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا، فقوله تعالى: {ضَرَبْتُمْ فِي الارض} أي سافرتم فيها، لا محل له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً، ومرفوع على الخبرية عند الباقين. وقوله تعالى: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} عطفٌ على الشرطية، وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ، وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولى أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار، فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل، والأنسب أن يقدَّر عينُ ما سبق، أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بينِكم شهادةُ آخَرَيْن، أو فأَنْ يشهَدَ آخران، على الوجوه المذكورة ثمَةَ، وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} استئنافٌ وقعَ جواباً عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل: فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين؟ فقيل: تحبِسونهما وتَصْبِرونهما للتحليف {مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ} وقيل: هو صفة لـ {آخران}، والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام، وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه، وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً، على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهما، إذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف، وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي، والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر، وعدمُ تعيينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب.
وقد روي أن النبي عليه الصلاةَ والسلام وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي، وقيل: بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق، وناهيةٌ عن الكذِب والزور {اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب}
{فَيُقْسِمَانِ بالله} عطفٌ على تحبسونهما وقوله تعالى: {إِنِ ارتبتم} شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب، أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله، وقولُه تعالى: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً} جوابٌ للقسم، وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط، فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً، فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونها كما في قولك: والله إن أتيتَني لأكرمنك، ولا ريب في استحالة ذلك هاهنا لأن القسم وجوابه كلاهما منفصل وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى، والاشتراءُ هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذُها بدلاً منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل، وإن كان مستلزِماً له، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع، ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل، كما هو المعتبر في المستعار منه حسبما مر تفصيلُه في تفسير قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} والضمير في {به} لله، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله، أي مِنْ حُرمته عَرَضاً من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، وقيل: الضمير للقسم، فلابد من تقدير مضافٍ البتةَ، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله، أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرَضاً من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب، أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى، سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب، أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم، ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك، وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عَرَض الدينا كالقسم الكاذب لكن لا محذور فيه، وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له هاهنا حتى يصِحَّ التبروءُ منه، وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب، وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعمالِ الصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يُتصوَّرَ جعلُ ما أُخذَ باستعمالِه مأخوذاً بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف، فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل، وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ} أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي قريباً منا، تأكيدٌ لتبرُّئهم من الحلِف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذُ لأنفسنا بدلاً من حُرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء، فكيف إذا لم يكنْ كذلك، وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال، بل هي راجعة إليه، وجواب {لو} محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه، أي لا نشتري به ثمناً، والجملة معطوفةٌ على أخرى مثلِها، كما فُصِّل في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} الخ، وقوله عز وجل: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بإقامتها، معطوفٌ على {لا نشتري به} داخلٌ معه في حكم القسم، وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة، ثم ابتدأ {آلله} بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه بغير مد، كقولهم: الله لأفعلن {إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الاثمين} أي إن كتمناها، وقرئ {لمِلاثِمين} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدخال النون فيها.

.تفسير الآية رقم (107):

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}
{فَإِنْ عُثِرَ} أي اطُّلع بعد التحليف {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} حسبما اعترفا به بقولهما: إنا إذاً لمن الآثمين، أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريفٍ وكَتم بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي {فَآخَرَانِ} أي رجلان آخران، وهو مبتدأ خبرُه {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} ولا محذورَ في الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وَصفِه الذي هو الجارُّ والمجرور بعده، أي يوقمان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما، وليس المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم يؤدِّياها كما هي، بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما {مِنَ الذين استحق} على البناء للفاعل على قراءة عليَ وابنِ عباس وأُبيَ رضي الله عنهم، أي من أهل البيت الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان من بينهم، أي الأقربانِ إلى الميت، الوارثانِ له، الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه، ومفعولُ {استحق} محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها، لأنها حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَيْن، وهما في الحقيقة الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وضع المُظْهر مقام المُضْمَر، وقرئ على البناء للمفعول وهو الأظهر، أي من الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم، وهم أهلُ الميت وعشيرتُه، فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: الأوليان، أو بدلٌ من الضمير في {يقومان} أو من {آخران} وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذف المضاف، أي استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة، وقرئ {الأولِّين} على أنه صفة للذين الخ، مجرور أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقَّ بها، وقرئ {الأولَيْن} على التثنية وانتصابُه على المدح، وقرئ {الأولان}.
{فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على يقومان {لشهادتنا} المرادُ بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى: {فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله} أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها {أَحَقُّ} بالقبول {مِن شهادتهما} أي من يمينهما مع كونها كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم، ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة، فصيغةُ التفضيلِ مع أنه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر في أيديهما {وَمَا اعتدينا} عطف على جواب القسم أي ما تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما {أَنَاْ إِذِنَ لَّمِنَ الظالمين} استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله، أي إنا إنِ اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى، أو لمن الواضعين الحقَّ في غير موضعه، ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه، فإن لم يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتيابٌ بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت، فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة، وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ الورثةُ وعُمل بأيْمانهم.
ولعل تخصصَ الاثنين لخصوص الواقعة، فإنه رُوي «أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ بدَّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيين ومعهما بديلُ بنُ أبي مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً، فلما قدِموا الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في متاعِه ولم يخبرْهما بذلك، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى أهله، ومات، ففتشاه، فوجدوا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ مثقالٍ منقوشاً بالذهب، فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله، فأصابوا فيه الكتاب، فطلبوا منهما الإناءَ فقالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعَه إليكم ففعلنا، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الآية، فاستحلَفَهما بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك فخلَّى عليه الصلاة والسلام سبيلهما، ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ فقال مَنْ بيده: اشتريتُه من تميم وعدي، وقيل: لما طالت المدةُ أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا: كنا اشتريناه من بديل، فقالوا: ألم نقلْ لكما: هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً، فقلتما: لا؟ قالا: ما كان لنا بينةٌ فكرِهنا أن نُقِرَّ به، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ} الآية، فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا، فدفع الإناءَ إليهما». وفي رواية إلى أولياء الميت.
واعلم أنهما إن كانا وارثين {لبديل} فلا نسخ إلا في وصف اليمين، فإن الوارثَ لا يُحَلَّفُ على البَتات، وإلا فهو منسوخ.

.تفسير الآية رقم (108):

{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
{ذلك} كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة، أي الحُكم الذي تقدم تفصيلُه {أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا} أي أقربُ أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ عن وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفاً من العذاب الأخروي، وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ المذكور، وقوله تعالى: {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة، معطوفٌ على مقدَّرٍ يْنبىء عنه المقامُ كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه، فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها. وقيل: هو عطفٌ على {يأتوا} على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على وجهها، فيظهرُ كذبُهم بنكولهم، وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ، وهو أداءُ الشهادة على الصدق، والامتناعُ عن أدائها على الكذب، فيأباه المقام، إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلاً ضرورةَ أن الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب، فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعاً، فليس هناك أمران أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ {أو} وإنما يتأتى ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة، على أن إضافةَ الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل {واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ {واسمعوا} ما تؤمرون به كائناً ما كان سمعَ طاعةٍ وقَبول {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة، أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعُهم.