فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (5):

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)}
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} الكافُ في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هذه الحالُ كحال إخراجِك يعني أن حالَهم في كراهتهم لِما رأيتَ مع كونه حقاً كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حقٌّ أو في محل النصبِ على أنه صفةٌ لمصدر مقدرٍ في قوله تعالى: {الانفال لِلَّهِ} أي الأنفالُ ثبتتْ لله والرسولِ مع كراهتهم ثباتاً مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة إخراجاً ملتبساً بالحق {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} أي والحالُ أن فريقاً منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبعِ عن القتالِ أو لعدم الاستعدادِ وذلك «أن عِيرَ قريشٍ أقبلت من الشام وفيها تجارةٌ عظيمةٌ ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيانَ، وعمرو بنُ العاص، وعمْرُو بنُ هشام، فأخبر جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجَبَهم تلقِّي العِيرِ لكثرة الخيرِ وقلةِ القوم، فلما خرجوا بلغ أهلَ مكةَ خبرُ خروجِهم فنادى أبو جهلٍ فوق الكعبةِ يا أهل مكةَ النجاءَ النجاءَ على كل صَعْب وذَلَول عِيرُكم أموالُكم إن أصابها محمدٌ لم تُفلِحوا بعدها أبداً، وقد رأت أختُ العباسِ بنِ عبد المطلبِ رضي الله عنه رؤيا فقالت لأخيها: إني رأيتُ عجباً رأيت كأن ملَكاً نزل من السماء فأخذ صخْرةً من الجبل ثم حلّق بها فلم يبق بيتٌ من بيوت مكةَ إلا أصابه حجرٌ من تلك الصخرة فحدّث بها العباسُ رضي الله عنه فقال أبو جهل: ما يرضى رجالُهم أن يتنبّأوا حتى تتنبأَ نساؤُهم فخرج أبو جهلٍ بجميع أهلِ مكةَ وهم النفيرُ فقيل له: إن العِيرَ أخذت طريقَ الساحلِ ونجحت فارجِعْ بالناس إلى مكَة فقال: لا واللاتِ لا يكون أبداً ننحَرَ الجَزورَ ونشربَ الخمور ونُقيمَ القينات والمعازِفَ ببدر فيتسامع جميعُ العرب بمَخْرَجنا وأن محمداً لم يُصِب العِيرَ وأنا قد أعناه فمضى بهم إلى بدر، ماءٍ كانت العربُ تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزل جبريلُ عليه السلام فقال: يا محمدُ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العِيرَ وإما قريشاً فاستشار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابَه فقال: ما تقولون؟ إن القومَ قد خرجوا من مكةَ على كل صَعْبٍ وذَلولٍ فالعِيرُ أحبُّ إليكم أم النفيرُ؟ فقالوا: بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوِّ فتغير وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحرِ، وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعِير ودعِ العدوَّ فقام عندما غضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمرُ رضي الله عنهما فأحسنا قام سعدُ بن عُبادةَ فقال: انظُر أمرَك فامضِ فوالله لو سِرتَ إلى عدنِ أَبْيَنَ ما تخلف عنك رجلٌ من الأنصار ثم قال المقدادُ بنُ عمرو رضي الله عنه: يا رسولَ الله امضِ لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببْتَ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيلَ لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عينٌ منا تطرِفُ، فضحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أشيروا علي أيها الناس، وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا بُرَآءُ من ذِمامِك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمامنا نمنعُك مما نمنع منه أبناءَنا ونساءَنا فكان النبي عليه الصلاة والسلام يتخوّف أن تكون الأنصارُ لا ترى عليهم نُصرتَه إلا على عدو دَهِمَهُ بالمدينة فقام سعدُ بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسولَ الله قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحقُّ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعةِ فامضِ يا رسولَ الله لما أردتَ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا وإنا لصُبرٌ عند الحرب صُدقٌ عند اللقاء ولعل الله يُريك منا ما تَقَرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله ففرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبسَطه قولُ سعد ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشِروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظرُ إلى مصارع القوم» ورُوي: أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرَغ من بدر: «عليك بالعِير ليس دونها شيءٌ فناداه العباس رضي الله عنه وهو في وِثاقه لا يصلح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لم؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك».

.تفسير الآيات (6- 7):

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)}
{يجادلونك فِي الحق} الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير، والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى: {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} منصوبٌ بيجادلونك، وما مصدرية أي بعد تبين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما تواجهوا ويقولون: ما كان خروجُنا إلا للعِير، وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} الكافُ في محل النصبِ على الحالية من الضمير في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا، وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة. روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان جميلِ صنعِ الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءةِ الهِمّةِ وقُصورِ الرأي والخوفِ والجزعِ، وإذْ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوينِ والالتفات، وإحدى الطائفتين مفعولٌ ثانٍ ليعدُكم أي اذكروا وقتَ وعدِ الله إياكم إحدى الطائفتين، وتذكيرُ الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما فيه من الحوادث لما مر مراراً من المبالغة في إيجاب ذكرِها لِما أن إيجابَ ذكر الوقتِ إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها، فإذا استُحضر كان ما وقع فيه حاضراً مفصّلاً كأنه مشاهَدٌ عياناً، وقرئ {يَعدْكم} بسكون الدال تخفيفاً، وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها وقوله تعالى: {أَنَّهَا لَكُمْ} بدلُ اشتمالٍ من إحدى الطائفتين مُبينٌ لكيفية الوعدِ أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنةٌ لكم مختصّةٌ بكم مسخّرةٌ لكم تتسلطون عليها تسلّطَ الُملاّكِ وتتصرفون فيهم كيف شئتم {وَتَوَدُّونَ} عطفٌ على يعدكم داخلٌ تحت الأمرِ بالذكر أي تحبون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} من الطائفتين لا ذاتَ الشوْكةِ وهي النفيرُ ورئيسُهم أبو جهلٍ وهم ألفُ مقاتلٍ، وغيرُ ذاتِ الشَّوكة هي العِيرُ إذ يكن فيها إلا أربعون فارساً ورأسُهم أبو سفيانَ. والتعبيرُ عنهم بهذا العنوانِ للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجبِ كراهتِهم ونفرتِهم عن موافاة النفيرِ، والشوْكةُ: العدةُ، مستعارةٌ من واحدة الشَّوْك وشوك القنا سباها {وَيُرِيدُ الله} عطفٌ على تودّون منتظمٌ معه في سلك التذكيرِ ليُظهِرَ لهم عظيمَ لطفِ الله بهم مع دناءة هِممِهم وقصور آرائِهم، أي اذكُروا وقت وعِده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتِكم لأدناهما وإرادتَه تعالى لأعلاهما وذلك قوله تعالى: {أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أي يُثْبِتَه ويُعلِيَه {بكلماته} أي بآياته المنزلةِ في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضَى من أسرهم وقتلهم وطرحِهم في قَليب بدر، وقرئ {بكلمته} {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي آخِرَهم ويستأصِلَهم بالمرة، المعنى أنتم تريدون سَفْسافَ الأمور والله عز وعلا يريد معالِيَها وما يرجِعُ إلى علو كلمةِ الحقِّ وسموِّ رتبةِ الدين، وشتان بين المُرادَين.

.تفسير الآيات (8- 9):

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}
وقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان الحِكمةِ الداعيةِ إلى اختيار ذاتِ الشوكة ونصرِهم عليها مع إرادتهم لغيرها، واللامُ متعلقةٌ بفعل مقدر مؤخر عنها، أي لهذه الغايةِ الجليلةِ فعَل ما فعَل لا لشيء آخرَ وليس فيه تكرارٌ إذ الأولُ لبيان تفاوتِ ما بين الإرادتين، وهذا لبيان الحِكمةِ الداعية إلى ما ذكر، ومعنى إحقاقِ الحقِّ إظهارُ حقّيتِه لا جعلُه حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي المشركون ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بدلٌ من إذ يعدكم معمولٌ لعامله، فالمراد تذكيرُ استمدادِهم منه سبحانه والتجائِهم إليه تعالى حين ضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّتْ بهم العِللُ، وإمدادُه تعالى حينئذ وقيل: متعلقٌ بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية، وما قيل من أن قولَه تعالى ليُحِق مستقبلٌ لأنه منصوبٌ بأن فلا يمكن عملُه في إذا لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونَه مستقبَلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غايةٌ له في الفعل المقدرِ لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثةِ حتى لا يعملَ فيه بل هما في وقت واحدٍ وإنما عبّر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمان النزولِ، وصيغةُ الاستقبالِ في تستغيثون لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة، وقيل: متعلقٌ بمضمر مستأنفٍ أي اذكروا وقت استغاثتِكم وذلك أنهم لما علموا أنه لابد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين: أيْ ربُّ انصُرنا على عدوك يا غياثَ المستغيثين أغِثْنا، وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألفٌ وإلى أصحابه وهو ثلثُمائة وبضعةَ عشرَ فاستقبل القِبلةَ ومد يديه يدعو: «اللهَّم أنجِزْ لي ما وعدتني اللهم إنْ تهلِكْ هذه العِصابةُ لا تعبَدْ في الأرض فما زال كذلك حتى سقط رداؤُه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله كفاك مناشدتُك ربَّك فإنه سيُنجز لك ما وعدك».
{فاستجاب لَكُمْ} عطفٌ على تستغيثون داخلٌ معه في حكم التذكيرِ لِما عرفت أنه ماضٍ وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة {أَنّي مُمِدُّكُمْ} أي بأني، فحُذف الجارُّ وسُلّط عليه الفعلُ فنصَب محلَّه، وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القولِ أو على إجراء استجابَ مجرى قال لأن الاستجابةَ من مقولة القول {بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ} أي جاعلين غيرَهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤُهم المستتبِعون لغيرهم، وقد اكتُفي هاهنا بهذا البيانِ الإجماليِّ وبيِّن في سورة آلِ عمرانَ مقدارُ عدِّهم، وقيل: معناه مُتْبعِين أنفسَهم ملائكةً آخرين أو متْبعين المؤمنين أو بعضَهم بعضاً، من أردفتُه إذا جئتُ بعده، أو متبعين بعضَهم بعضَ المؤمنين أو أنفسَهم المؤمنين، من أردفتُه إياه فردِفَه، وقرئ {مردَفين} بفتح الدال أي مُتْبَعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقَتَهم وقرئ {مرُدّفين} بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلُهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاءُ في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الإتباع، وقرى بآلاف ليوافقَ ما في سورة آل عمران.
ووجهُ التوفيق بينه وبين المشهورِ أن المرادَ بالألفِ الذين كانوا على المقدمة أو الساقةُ أو وجوهُهم وأعيانُهم أو من قاتل منهم واختُلف في مقاتلتهم وقد روي أخبارٌ تدل على وقوعها.

.تفسير الآية رقم (10):

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وإنما التأثيُر مختصٌّ به عز وجل ليثق المؤمنون ولا يقنَطوا من النصر عند فُقدانِ أسبابِه، والجعلُ متعدَ إلى مفعول واحد هو الضميرُ العائد إلى مصدر فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً مُغنياً عن التصريح به، كأنه قيل: فأمدكم بهم وما جعل إمدادَكم بهم {إِلاَّ بشرى} وهو استثناءٌ مفرّغٌ من أعم العلل أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكة عياناً لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} أي بالإمداد {قُلُوبُكُمْ} وتسكنَ إليه نفوسُكم كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك، فكلاهما مفعولٌ له للجعل، وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه وبقي الثاني على حاله لفقدانها، وقيل: للإشارة إلى أصالته في العِلّية وأهميتِه في نفسه كما قيل في قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بعدم مباشرةِ الملائكةِ للقتال وإنما كان إمدادُهم بتقويه قلوب المباشرين وتكثيرِ سوادِهم ونحوه كما هو رأيُ بعضِ السلف وقيل: الجعلُ متعدَ إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناءٌ من أعم المفاعيل، أي وما جعله الله شيئاً من الأشياء إلا بشارةً لكم فاللام في ولتطمئن متعلقةٌ بمحذوف مؤخر تقديره ولتطمئن به قلوبُكم فعَلَ ذلك لا لشيء آخَرَ {وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصر على الإطلاق {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده عز وجل من غير أن يكون فيه شركةٌ من جهة الأسبابِ والعددِ، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جريانِ السنةِ الإلهية {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يغالَب في حُكمه ولا يُنازَع في أقضيته {حَكِيمٌ} يفعل كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحةُ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها متضمنٌ للإشعار بأن النصرَ الواقعَ على الوجه المذكورِ من مقتَضَيات الحِكَم البالغةِ.

.تفسير الآية رقم (11):

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)}
{إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس} أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى، وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليه لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون، أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا، وقيل: هو متعلقٌ بالنصر أو بما في {من عند الله} من معنى الفعلِ، أو بالجعل وليس بواضح، وقرئ {يُغْشيكم} من الإغشاء بمعنى التغشية، والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرئ {يغشاكم} على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله تعالى: {أَمَنَةً مّنْهُ} على القراءتين الأُوليين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون أمناً كما في قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} على أحد الوجهين، وقيل: منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ، والأَمَنةُ بمعنى الأمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بـ {يغشاكم} باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر، وقرئ {أمْنةً} كرحمة {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاءً} تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له، فعند ورودِه يتمكّن عندها فضلُ تمكنٍ، وتقديمُ عليكم لما أن بيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بيان كونه من السماء وقرئ بالتخفيف من الإنزال {لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} أي من الحديث الأصغرِ والأكبر.
{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً، والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش. روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرُهم وقد غلب المشركون على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال: أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق، وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء، وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عز وجل المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضأوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ وذلك قوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعدُ بمشاهَدة طلائعِه {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} فلا تسوخ في الرمل، فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون للربط فإن القلبَ إذا قوِي وتمكّن فيه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب.