فصل: تفسير الآية رقم (113):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (113):

{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)}
{قَالُواْ} استئناف كما سبق {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} تمهيدُ عذرٍ وبيانٍ لِمَا دعاهم إلى السؤال، أي لسنا نريد بالسؤال إزاحةَ شُبهتِنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك، حتى يقدحَ ذلك في الإيمان والتقوى، بل نريد أن نأكلَ منها أي أكلَ تبرّكٍ، وقيل: أكلَ حاجةٍ وتمتُّع {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل، فإن انضمامَ علم المشاهدةِ إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازديادَ الطُمأنينة وقوةَ اليقين {وَنَعْلَمَ} أي علماً يقينياً لا يحوم حوله شائبةُ شُبهةٍ أصلاً، وقرئ {ليُعْلَمَ} على البناء للمفعول {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} {أنْ} هي المخففة من أنّ، وضميرُ الشأن محذوفٌ، أي ونلعم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يُجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} نشهد عليها عند الذين لم يحضُروها من بني إسرائيل ليزدادَ المؤمنون منهم بشهادتنا طُمأنينةً ويقيناً، ويؤمنَ بسببها كفارُهم، أو {من الشاهدين} للعَيْن دون السامعين للخبر، و{عليها} متعلقٌ بالشاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف، وبيانٌ لما يشهدون عليه إن جُعلتْ موصولة، كأنه قيل: على أي شيء يشهدون؟ فقيل: عليها، فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول، أو هو حال من اسم كان، أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين.

.تفسير الآيات (114- 115):

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
{قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك، وأنهم لا يُقلعون عنه، أزمعَ على استدعائها واستنزالها، وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها.
رُوي أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال: {اللهم رَبَّنَآ} ربنا، ناداه سبحانه وتعالى مرتين، مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات، ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية، وإظهاراً لغاية التضرّع، ومبالغةً في الاستدعاء {أُنزِلَ عَلَيْنَا} تقديمُ الظرف على قوله: {مَائِدَةً} لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله: {مّنَ السماء} متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة، أي كائنةً من السماء نازلةً منها.
وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيداً} في محل النصب على أنه صفةٌ لمائدة، واسم تكون ضمير المائدة، وخبرُها إما عيداً و{لنا} حال منه، أو من ضمير {تكون} عند من يجوِّز إعمالَها في الحال، وإما {لنا}، وعيداً حال من الضمير في لنا، لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً، أو من ضمير {تكون} عند من يرى ذلك، أي يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه، وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها، وقيل: العيدُ السرورُ العائد، ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً، وقرئ {تكن} بالجزم على جواب الأمر كما في قوله: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى} خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وهاهنا من الشواذ {لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} بدل من {لنا} بإعادة العامل، أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا. رُوي أنها نزلت يوم الأحد، ولذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل: للرؤساء منا والأتباع، وقيل: يأكل منها أولُنا وآخرُنا، وقرئ {لأُولانا وأُخْرانا} بمعنى الأمة والطائفة {وَءايَةٌ} عطف على عيداً {مِنكَ} متعلق بمحذوف وهو صفة لآية، أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي {وارزقنا} أي المائدة أو الشكر عليها {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل، أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض، وفي إقباله عليه السلام على الدعاء بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادتِه ما لم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الداعية إلى الإجابة والقَبول دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين، وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة، كما في قول إبراهيم عليه السلام.
{قَالَ الله} استئناف كما سبق {إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمالِ اللطف والإحسان، كما في قوله تعالى: {قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} الخ، بعد قوله تعالى: {لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه} الخ، مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً، تحقيقٌ للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه، وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ المائدة عليكم مراتٍ كثيرة، وقرئ بالتخفيف، وقيل: الإنزالُ والتنزيلُ بمعنى واحد {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد تنزيلها {مّنكُمْ} متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل {يكفرْ} {فَإِنّى أُعَذّبُهُ} بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة {عَذَاباً} اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب، وقيل: مصدر بحذف الزوائد، وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين، وجَوَّز أن يكون الفعل مفعولاً به على الاتساع، وقوله تعالى: {لاَّ أُعَذّبُهُ} في محل النصب على أنه صفة لعذاباً، والضمير له أي {أعذبه} تعذيباً لا أعذب مثل ذلك التعذيب {أَحَداً مّن العالمين} أي من عالَمِي زمانِهم أو من العالمين جميعاً، قيل: لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم، فاستعفَوْا وقالوا: لا نريدها فلم تنزِلْ، وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله: والصحيحُ الذي عليه جماهيرُ الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت.
روي أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب، إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بين غمامتين، غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمةً للعالمين، ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خيرِ الرازقين، فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً، وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ، وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ، وعلى الثاني عَسَلٌ، وعلى الثالث سَمْنٌ، وعلى الرابع جُبْنٌ، وعلى الخامس قدَيدٌ، فقال شمعونُ رأسُ الحواريين: يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أو من طعام الآخرة؟ قال: ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله، فقالوا: يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى؟ فقال: يا سمكةُ احْيَيْ بإذنِ الله، فاضطربت، ثم قال لها: عُودي كما كنت، فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة، ثم عَصَوا فمُسخوا قردةً وخنازيرَ.
وقيل: كانت تأتيهم أربعين يوماً غِباً، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء، والصغار والكبار، يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظللها. ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه، ولا مريضٌ إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً، ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ، فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات، ويأكلون العَذِرة في الحُشوش، فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه السلام وبكَوُا الممسوخين، فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه السلام بكتْ وجعلت تطيف به، وجعل يدعوهم بأسمائهم واحداً بعد واحد، فيبكُون ويُشيرون برؤوسهم، ولا يقدِرون على الكلام، فعاشوا ثلاثةَ أيام ثم هلَكوا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عيسى عليه السلام قال لهم: صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله ما شئتم يُعطِكم، فصاموا فلما فرَغوا قالوا: إنا لو عمِلنا لأحدٍ فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا، وسألوا الله تعالى المائدة، فأقبلت الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ، حتى وضعتْها بين أيديهم، فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها أولُهم. قال كعب: نزلت منكوسةً تطير بها الملائكةُ بين السماء والأرض، عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ. وقال قتادة: كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة. وقال عطيةُ العوفي: نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت سمكةٌ وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ، فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحِك من لم يشهَدْ وقالوا: ويحكم إنما سحَر أعينَكم، فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته على بصيرة، ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره، فمُسخوا خنازيرَ، فمكثوا كذلك ثلاثةَ أيام ثم هلكوا لم يتوالدوا، ولم يأكُلوا ولم يشربوا، وكذلك كلُّ ممسوخ.

.تفسير الآية رقم (116):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}
{وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ} معطوف على {إذ قال الحواريون} منصوب بما نَصَبه من المُضمر المخاطَبِ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على ذلك، أي اذكُرْ للناس وقت قولِ الله عز وجل له عليه السلام في الآخرة توبيخاً للكَفَرة وتبكيتاً لهم، فإقرارُه عليه السلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية، وأمرُه لهم بعبادته عز وجل، وصيغة الماضي لما مرّ من الد2لالة على التحقّق والوقوع {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} الاتخاذُ إما متعدَ إلى مفعولين {فإلهين} ثانيهما، وإما إلى واحد فهو حال من المفعول، وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ، والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزةَ المُبتدأ على الاستعمال الفاشي، وعليه قوله تعالى: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} ونظائرُه، بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام، أو من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى: {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} وقوله تعالى: {مِن دُونِ الله} متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على أنه حال من فاعله، أي متجاوزين الله، أو بمحذوفٍ هو صفة لإلهين، أي كائنيْن من دونه تعالى، وأياً ما كان فالمرادُ اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا} وقولِه عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} إلى قوله سبحانه وتعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} إذْ به يتأتّى التوبيخُ ويتسنّى التقريعُ والتبكيت. ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال، ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى، بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلَّيْن، ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض، فقد أبعد عن الحق بمراحِلَ، وأما من تعمق فقال: إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادةٍ، فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما، ومن لم يعبُده تعالى فقد غفَل عما يُجْديه واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب مَنْ قبلةَ، فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً، لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل، وإظهارُ الاسم الجليل لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام.
{قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ؟ فقيل: يقول، وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ مراراً {سبحانك} {سبحان} عَلمٌ للتسبيح، وانتصابُه على المصدرية، ولا يكاد يُذْكر ناصبُه، وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق، من السَّبْح الذي هو الذهاب والإبعادُ في الأرض، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصةً، المشيرِ إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن، ومن جهة إقامته مُقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى، أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك، وأما تقديرُ من أن يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سِياقُ النظم الكريم وسياقُه، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين للمُنَزَّه منه، و{ما} عبارة عن القول المذكور، أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحِقّ لي أن أقوله، وإيثارُ ليس على الفعل المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ التأكيد بما في حيزه من الباء، فإن اسمه ضميرُه العائد إلى {ما}، وخبرَه {بحق} والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقياً لك أو نحوه.
وقوله تعالى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} استئناف مقرِّرٌ لعدم صدور القولِ المذكور عنه عليه السلام بالطريق البرهاني، فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به قطعاً، فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتماً ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى} استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله كأنه قيل: لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي، فكيف بما أُعلنُه؟ وقوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} بيانٌ للواقع وإظهارٌ لقصوره، أي ولا أعلم ما تُخفيه من معلوماتك، وقوله: {فِى نَفْسِكَ} للمشاكلة. وقيل: المرادُ بالنفس هو الذاتُ، ونسبةُ المعلومات إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ المتعلِّقُ بها، فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} تعليلٌ لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً.

.تفسير الآية رقم (117):

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
وقوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما صدر عنه قد أُدرج فيه عدمَ صدورِ القول المذكور عنه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، حيثُ حكم بانتفاء صدور جميع الأقوالِ المغايِرَةِ للمأمور به، فدخل فيه انفاءُ صدور القولِ المذكور دخولاً أولياً، أي ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، وإنما قيل: {ما قلت لهم} نزولاً على قضية حسن الأدب، ومراعاةً لما ورد في الاستفهام. وقوله تعالى: {أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} تفسيرٌ للمأمور به، وقيل: عطفُ بيانٍ للضمير في به، وقيل: بدلٌ منه، وليس من شرط البدل جوازُ طرحِ المُبْدَل منه مُطلقاً ليلزَمَ بقاءُ الموصول بلا عائد، وقيل: خبرُ مُضمرٍ أو مفعولُه مثلُ هو أو أعني. {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} رقيباً أراعي أحوالهم وأحمِلُهم على العمل بموجب أمرك، وأمنعهم عن المخالفة، أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ما مصدرية ظرفية تقدَّر بمصدرٍ مضافٍ إليه زمانٌ، ودمت صلتها، أي كنت شهيداً عليهم مدة دوامي فيما بينهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} بالرفع إلى السماء كما في قوله تعالى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} فإن التوفيَ أخذُ الشيء وافياً، والموتُ نوع منه، قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} لا غيرَك، {فأنت} ضميرُ الفصل أو تأكيدٌ، وقرئ {الرقيبُ} بالرفع على أنه خبرُ {أنت} والجملة خبرٌ لكان وعليهم متعلق به، أي أنت كنت الحافظَ لأعمالهم والمراقبَ فمنعتَ من أردت عِصْمتَه عن المخالفة، بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها، بإرسال الرسل وإنزال الآياتِ، وخذَلْتَ من خذلتَ من الضالين فقالوا ما قالوا {وَأَنتَ على كُلّ شيء شَهِيدٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله، فيه إيذانٌ بأنه تعالى كان هو الشهيدَ على الكل حين كونِه عليه السلام فيما بينهم، و{على} متعلقةٌ بشهيد، والتقديم لمراعاة الفاصلة.