فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ} أيْ منكُم {مِن قَوْمٍ} آخرينَ أيضاً منكُم وقولُه تعالى: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ} تعليلٌ للنَّهِي أو لموجبِه أيْ عَسى أنْ يكونَ المسخورُ منْهم خيراً عندَ الله تَعَالى منَ الساخرينَ، والقومُ مختصٌّ بالرجالِ لأنُهم القُوّامُ على النساءِ وهُو في الأصلِ إمَّا جمعُ قائمٍ كصَوْمٍ وزَوْرٍ في جمعِ صائمٍ وزائرٍ أو مصدرٌ نعتَ بهِ فشاعَ في الجمعِ، وأما تعميمُه للفريقينِ في مثلِ قومِ عادٍ وقومِ فرعونَ فإمَّا للتغليبِ أو لأنهنَّ توابعُ، واختيارُ الجمع لغلبةِ وقوعِ السخريةِ في المجامعِ، والتنكيرُ إمَّا للتعميمِ أو للقصدِ إلى نَهْي بعضِهم عنْ سُخريةِ بعضٍ لما أنَّها مما يجرِي بينَ بعضٍ وبعضٍ {وَلاَ نِسَاء} أيْ ولا تسخرْ نساءٌ من المؤمناتِ {مّن نّسَاء} منهنَّ {عسى أَن يَكُنَّ} أيْ المسخورُ منهُنَّ {خَيْراً مّنْهُنَّ} أيْ منَ الساخراتِ فإنَّ مناطَ الخيريةِ في الفريقينِ ليسَ ما يظهرُ للناسِ من الصورِ والأشكالِ ولا الأوضاعِ والأطوارِ التي عليَها يدورُ أمرُ السخريةِ غالباً بلْ إنما هُوَ الأمورُ الكامنةُ في القلوبِ فلا يجترىء أحدٌ على استحقارِ أحدٍ فلعلَّهُ أجمعُ منْهُ لما نيطَ بهِ الخيريةُ عندَ الله تعالَى فيظلَم نفسَهُ بتحقيرِ منْ وقَّره الله تعالَى والاستهانةِ بَمنْ عظَّمُه الله تعالَى وقرئ: {عَسَوا أنْ يكونُوا} و{عَسَينَ أنْ يكنَّ} فعسَى حينئذٍ هي ذاتُ الخبرِ كما في قولِه تعالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} وَأمَّا على الأولِ فهيَ التي لا خيرَ لها {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أيْ ولا يعبْ بعضُكم بعضاً فإنَّ المؤمنينَ كنفسٍ واحدةٍ أو لا تفعلُوا ما تُلمَزونَ بهِ فإنَّ منْ فعلَ ما يستحقُّ بهِ اللمزَ فقدْ لمزَ نفسَهُ واللمزُ الطعنُ باللسانِ وقرئ بضمِّ الميمِ {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} أيْ ولا يدْعُ بعضُكم بعضاً بلقبِ السوءِ فإنَّ النبزَ مختصٌ بهِ عُرْفاً {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئسَ الذكرُ المرتفعُ للمؤمنينَ أنْ يُذكرُوا بالفسقِ بعد دخولِهم الإيمانَ أو اشتهارِهم بهِ فإنَّ الاسمَ هاهنا بمَعنى الذكرِ منْ قولِهم طارَ اسمُه في الناسِ بالكرم أو باللؤمِ، والمرادُ بهِ إمَّا تهجينُ نسبةِ الكفرِ والفسوقِ إلى المؤمنينَ خصوصاً إذْ رُوي أنَّ الآيةَ نزلتْ في صفيةَ بنتِ حُيَيِّ أتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ إنَّ النساءَ يقُلنَ لي يَا يهوديةُ بنت يهوديينِ فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: هَلاَّ قلتِ إنَّ أبي هارونَ وعَمِّي مُوسى وزَوْجي محمدٌ عليهمْ السلامُ أوِ الدلالةُ عَلى أنَّ التنابزَ فسقٌ والجمعُ بينَهُ وبينَ الإيمانِ قبيحٌ {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عَمَّا نُهي عَنْهُ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضعِ العصيانِ موضعَ الطاعةِ وتعريضِ النفسِ للعذابِ.

.تفسير الآية رقم (12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن} أيْ كُونوا على جانبٍ منْهُ، وإبهامُ الكثيرِ لإيجابِ الاحتياطِ والتأملِ في كُلِّ ظَنٍ ظُنَّ حَتَّى يعلَم أنَّه من أيِّ قبيلٍ، فإنَّ منَ الظنِّ ما يجبُ اتباعُه كالظنِّ فيَما لا قاطعَ فيهِ من العملياتِ وحسنِ الظنِّ بالله تعَالَى، ومنْهُ ما يحرمُ كالظنِّ في الإلهياتِ والنبواتِ وحيثُ يخالفُه قاطعٌ وظنِّ السوءِ بالمؤمنينَ، ومنْهُ ما يباحُ كالظنِّ في الأمورِ المعاشيةِ {إِنَّ بَعْضَ الظن أَثُمَّ} تعليلٌ للأمرِ بالاجتنابِ أوْ لموجبهِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ والإثمُ الذنبُ الذي يستحقُّ العقوبةَ عليهِ وهمزتُه منقلبةُ منَ الواوِ كأنَّه يثمُ الأعمالَ أي يكسرها. {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعّل من الجسِّ لما فيهِ منْ مَعْنى الطلبِ كما أن التلمسَ بمَعنى التطلبِ لما في اللمسِ من الطلبِ وقد جاءَ بمعنى الطلبِ في قولِه تعالَى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} وقرئ بالحاءِ من الحَسِّ الذي هُوَ أثرُ الجَسِّ وغايتُه ولتقاربهمِا يقالُ للمشاعرِ الحواسُّ بالحاء والجيم وفي الحديث: «لا تتبعُوا عوراتِ المسلمينَ فإنَّ منْ تتبعَ عوراتِ المسلمينَ تتبعَ الله عورتَهُ حَتَّى يفضَحهُ ولو في جوفِ بيتِه» {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أي لا يذكرْ بعضُكم بعضاً بالسوءِ في غِيبتِه «وسُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الغِيْبَةِ فقالَ أنْ تذكَر أخاكَ بما يكَرهُ فإنْ كانَ فيهِ فقدِ اغتبتَهُ وإنْ لمْ يكُنْ فيهِ فقدْ بهّتهُ» وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عَنْهما الغِيبةُ إدامُ كلابِ الناسِ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تمثيلٌ وتصويرٌ لما يصدرُ عنِ المغتابِ منْ حيثُ صدورُهُ عنْهُ ومنْ حيثُ تعلقُه بصاحبِه عَلى أفحشِ وجهٍ وأشنعِه طبعاً وعقلاً وشرعاً معَ مبالغاتٍ من فُنونٍ شَتَّى الاستفهامُ التقريري وإسنادُ الفعلِ إلى أحدٍ إيذاناً بأنَّ أحداً من الأحدينَ لا يفعلُ ذلكَ وتعليقُ المحبةِ بَما هُوَ في غايةِ الكراهةِ وتمثيلُ الاغتيابِ بأكلِ لحمِ الإنسانِ وجعلُ المأكولِ أخاً للآكلِ وميتاً وإخراجُ تماثِلها مُخرجَ أمرٍ بينٍ غنيَ عنِ الإخبارِ بهِ وقرئ: {ميتاً} بالتشديدِ وانتصابُه عَلى الحاليةِ من اللحمِ وقيلَ من الأخِ والفاءُ في قولِه تعالَى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} لترتيبِ ما بعدَهَا عَلى ما قبلَها من التمثيلِ كأنَّه قيلَ وحيثُ كانَ الأمرُ كما ذكرَ فقد كرهتمُوه وقرئ: {كُرِّهتمُوه} أي جُبلتُمْ عَلى كراهتِهِ {واتقوا الله} بتركِ ما أمرتمْ باجتنابهِ والندمِ عَلى مَا صَدرَ عنكُم من قبلُ {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} مبالغٌ في قبولِ التوبةِ وإفاضةِ الرحمةِ حيثُ يجعلُ التائبَ كمنْ لَمْ يذنبْ ولا يخصُّ ذلكَ بتائبٍ دونَ تائبٍ بَلْ يعمُّ الجميعَ وإنْ كثرتْ ذنوبُهم. رُوي «أنَّ رجلينِ منَ الصحابةِ رضيَ الله عنُهم بعثَا سلمانَ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يبغِي لهما إدَاماً وكانَ أسامةُ على طعامِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ فقالَ ما عندِي شيءٌ فاخبرهما سلمانُ فقالاَ: لو بعثنا سلمانَ إلى بئرٍ سميحةٍ لغارَ ماؤُها فلمَّا رَاحا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لهُما مَا لي أَرَى خُضرةَ اللحمِ في أفواهِكُمَا فقالاَ ما تناولنَا لحماً فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إنكُما قدِ اغتبتُمَا».

.تفسير الآيات (13- 14):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدمَ وحواءَ أوْ خلقنَا كُلَّ واحدٍ منكُم من أبٍ وأمٍ الكُلُّ سواءٌ في ذلكَ فلا وَجْهَ للتفاخرِ بالنسبِ وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تأكيداً للنَّهي السابقِ بتقريرِ الأخوةِ المانعةِ منَ الاغتيابِ {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ} الشَّعبُ الجمعُ العظيمُ المنتسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ وهو يجمعُ القبائلَ، والقبيلةُ تجمعُ العمائرَ، والعَمارةُ تجمعُ البطونَ والبطنُ يجمعُ الأفخاذَ والفَخِذُ يجمعُ الفصائلَ فخُزَيمةُ شعبٌ وكنانةُ قبيلةٌ وقريشٌ عمارةٌ وقُصَي بطنٌ وهاشمٌ فخذٌ والعباسُ فصيلةٌ وقيلَ الشعوبُ بطونُ العجمِ والقبائلُ بطونُ العربِ {لتعارفوا} ليعرفُ بعضُكم بعضاً بحسب الأنسابِ فلاً يعتزَى أحدٌ إلى غيرِ آبائِه، لا لتتفاخرُوا بالآباءِ والقبائلِ وتَدَّعُوا التفاوتَ والتفاضلَ في الأنسابِ وقرئ: {تتعارفُوا} عَلى الأصلِ و{لَتّعارفُوا} بالإدغامِ و{لتعرِفُوا} {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} تعليلٌ للنَّهِي عنِ التفاخر بالأنسابِ المستفادِ من الكلامِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ كأنَّه قيلَ إنَّ الأكرمَ عندَهُ تعالَى هُو الأتقَى فإنْ فاخرتُم ففاخِروا بالتَّقوى وقرئ بأَنَّ المفتوحةِ عَلى حذفِ لامِ التعليلِ كأنَّه قيلَ لَم لا نتفاخرُ بالأنسابِ فقيلَ لأَنَّ أكرمَكُم عندَ الله أتقاكُم لا أنسبُكم فإنَّ مدارَ كمالِ النفوسِ وتفاوتِ الأشخاسِ هُو التَّقوى فمَنْ رامَ نيلَ الدرجاتِ العُلاَ فعليهِ التَّقوى قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «مَنْ سَرَّهُ أنْ يكونَ أكرمَ النَّاسِ فليتقِ الله» وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ «يَا أيُّها الناسُ إنمَّا الناسُ رجلانِ مؤمنٌ تقيٌ كريمٌ عَلى الله تعَالَى وفاجرٌ شقيٌّ هينٌ على الله تعَالَى» وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما كرمُ الدُّنيا الغِنى وكرمُ الآخرةِ التَّقوى {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكُم وبأعمالِكم {خَبِيرٌ} ببواطنِ أحوالِكم.
{قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا} نزلتْ في نفرٍ من بَني أَسَدٍ قَدمُوا المدينةَ في سنةِ جَدْبٍ فأظهرُوا الشهادتينَ وكانُوا يقولونَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أتيناكَ بالأثقالِ والعيالِ ولمْ نقاتِلْكَ كما قاتلكَ بنُو فلانٍ يريدونَ الصدقةَ ويمنونَ عليهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ما فعلُوا {قُلْ} رَدَّاً لهُمْ {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} إذِ الإيمانُ هُوَ التصديقُ المقارنُ للثقةِ وطمأنينةِ القلبِ ولم يحصُلْ لكُم ذلكَ وإلا لِمَا مننتُمْ عليَّ ما ذكرتُم كَما ينبىءُ عَنْه آخرُ السورةِ {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} فإنَّ الإسلامَ انقيادٌ ودخولٌ في السلمِ وإظهارُ الشهادةِ وتركُ المحاربةِ مشعرٌ بهِ، وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ عَلى أنْ يقالَ لاَ تقولُوا آمنَّا ولكنْ قولُوا أسلمنَا أو لم تُؤمنِوا ولكن أسلمتُم للاحترازِ منِ النَّهي عنِ التلفظِ بالإيمانِ وللتفادِي عنْ إخراجِ قولِهم مُخرجَ التسليمِ والاعتدادِ بهِ معَ كونِه تقولاً محضاً {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} حالٌ من ضميرِ قولُوا أيْ ولكِنْ قولُوا أسلمنَا حالَ عدمِ مواطأةِ قلوبِكم لألسنتِكم، ومَا في لمَّا مِنْ مَعنْى التوقعِ مشعرٌ بأنَّ هؤلاءِ قَد آمنُوا فيمَا بعدُ {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بالإخلاصِ وتركِ النفاقِ {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم} لا ينُقصْكُم {شَيْئاً} من أجورِها مِنْ لاتَ يليتُ لَيْتاً إذَا نقصَ وقرئ: {لا يأْلتِكُم} من الأَلْتِ وهيَ لغةُ غَطَفانَ أو شيئاً منَ النقصِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} لِمَا فرطَ منَ المطيعينَ {رَّحِيمٌ} بالتفضيلِ عليهمْ.

.تفسير الآيات (15- 18):

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لَمْ يشكُّوا، منِ ارتابَ مطاوعُ رَاَبهُ إذَا أوقعَهُ في الشِكِّ مع التهمةِ وفيهِ إشارةٌ إِلى أنَّ فيهمْ ما يوجبُ نَفي الإيمانِ عنهُمْ وثُمَّ للإشعارِ بأَنَّ اشتراطَ عدمِ الارتيابِ في اعتبارِ الإيمانِ ليسَ في حالِ إنشائِه فقطْ بلْ وفيما يُستقبلُ فهيَ كمَا في قولِه تعالَى ثم استقامُوا {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} في طاعتِه عَلى تكثرِ فنونِها من العباداتِ البدنيةِ المحضِة والماليةِ الصرفةِ والمشتملةِ عليهَما معاً كالحجِّ والجهادِ {أولئك} الموصوفونَ بمَا ذكرَ منَ الأوصافِ الجميلةِ {هُمُ الصادقون} أي الذينَ صدقُوا في دَعْوى الإيمانِ لا غيرُهم. رُوِي أنَّه لما نزلتْ الآيةُ جاءُوا وحلفُوا أنهم مؤمنونَ صادقونَ فنزلَ لتكذيبِهم قولُه تعالَى: {قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أيْ أتخبرونَهُ بذلكَ بقولِكم آمنَّا والتعبيرُ عَنْهُ بالتعليمِ لغايةِ تشنيعِهم {والله يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} حالٌ منْ مفعولِ تعلمونَ مؤكدةٌ لتشنيعِهم، وقولُه تعالَى: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ أيْ مبالغٌ في العلمِ بجميعِ الأشياءِ التي منْ جُملتها ما أخفَوهُ من الكفرِ عندَ إظهارِهم الإيمانَ وفيهِ مزيدُ تجهيلٍ وتوبيخٍ لهم {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} أيْ يعدّونَ إسلامَهم منَّةً عليكَ وهيَ النعمةُ التِّي لا يطلبُ مُوليها ثواباً ممنْ أنعمَ بَها عليهِ من المَنِّ بمَعنى القطعِ لأَنَّ المقصودَ بها قطعُ حاجتِه وقيلَ النعمةُ الثقيلةُ من المَنِّ {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} أيْ لا تعدُوا إسلامَكُم منَّةً عليَّ أوْ لاَ تمنُّوا عليَّ بإسلامِكم فنصبَ بنزعِ الخافضِ {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان} عَلى ما زعمتُم مَعَ أنَّ الهدايةَ لا تستلزمُ الاهتداءَ وقرئ: {إِنْ هداكُم} و{إِذْ هداكُم} {إِن كُنتُمْ صادقين} في ادعاءِ الإيمانِ وجوابُه محذوفٌ يدلُّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ فللهِ المنةُ عليكُمْ، وفي سياقِ النظمِ الكريمِ منَ اللطفِ ما لا يَخْفى فإنَّهمُ لمَّا سمَّوا ما صدرَ عنُهم إيماناً ومنُّوا بهِ فنُفَي كونُهُ إيماناً وسُمِّي إسلاماً قيلَ يمنونَ عليكَ بمَا هُو في الحقيقةِ إسلامٌ وليس بجديرٍ بالمَنِّ بلْ لو صَحَّ ادعاؤُهم للإيمانِ فلله المنةُ عليهِمْ بالهدايةِ إليهِ لاَ لهُمْ. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} أيْ ما غابَ فيهمَا {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سرِّكم وعلانيتِكم فكيفَ يَخْفَى عليهِ ما في ضمائرِكم وقرئ بالياءِ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ الحجراتِ أعطيَ من الأجرِ بعددِ منْ أطاعَ الله وعَصَاهُ».

.سورة ق:

.تفسير الآيات (1- 3):

{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}
{ق والقرءان المجيد} أيْ ذي المجدِ والشرفِ عَلى سائرِ الكتبِ أوْ لأنَّه كلامُ المجيدِ أوْ لأنَّ منْ علَم معانَيهُ وعمِلَ بما فيهِ مَجُدَ عندَ الله تَعَالَى وعندَ الناسِ والكلامُ فيهِ كالذَّي فُصِّلَ في مطلعِ سورةِ ص وَقولُه تعالَى: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ} أيْ لأَنْ جاءَهُم منذرٌ منْ جنسِهم لا من جنسِ المَلَكِ أوْ مِنْ جِلدتِهم، إضرابٌ عَمَّا ينبىءُ عنْهُ جوابُ القسمِ المحذوفِ كأنَّه قيلَ والقرآنِ المجيدِ أنزلناهُ إليكَ لتنذرَ بهِ الناسَ حسَبما وردَ في صدرِ سورةِ الأعرافِ كأنُه قيلَ بعدَ ذلكَ لم يؤمنُوا بهِ بلْ جعلُوا كلاً منَ المنذِر والمنذَرِ بهِ عُرضةً للنكيرِ والتعجيبِ معَ كونِهما أوفقَ شيءٍ لقضيةِ العقولِ وأَقرَبهُ إلى التلقِي بالقبولِ، وقيلَ التقديرُ والقرآنِ المجيدِ إنكَ لمنذرٌ ثمَّ قيلَ بعدَهُ إنَّهم شكُّوا فيهِ ثمَّ أُضربَ عنْهُ وقيلَ بلْ عجبُوا أيْ لم يكتفُوا بالشكِّ والردِّ بلْ جزمُوا بالخلافِ حتَّى جعلُوا ذلكَ منَ الأمورِ العجيبةِ وقيلَ هُوَ إضرابٌ عَمَّا يفهمُ منْ وصفِ القرآنِ بالمجيدِ كأنَّه قيلَ ليسَ سببُ امتناعِهم من الإيمانِ بالقرآنِ أنَّه لا مجدَ لهُ ولكنْ لجهلِهم {فَقَالَ الكافرون هذا شيء عَجِيبٌ} تفسيرٌ لتعجبِهم وبيانٌ لكونِه مقارناً لغايةِ الإنكارِ مع زيادةِ تفصيلٍ لمحلِّ التعجبِّ، وهذا إشارةٌ إلى كونِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ منذِراً بالقرآنِ وإضمارُهم أولاً للإشعارِ بتبعيتِهم بما أسندَ إليهمِ وإظهارِهم ثانياً للتسجيلِ عليهمْ بالكفرِ بموجبِه أوْ عطفٌ لتعجبِهم من البعثِ على تعجبِهم من البعثةِ على أنَّ هذَا إشارةٌ إلى مبهمٍ يفسرُهُ ما بعدَهُ من الجملةِ الإنكاريةِ، ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ إما لسبقِ اتصافِهم بَما يوجبُ كفرَهُم وإمَّا للإيذانِ بأنَّ تعجُّبُهم منَ البعثِ لدلالتِه على استقصارِهم لقدرةِ الله سبحانَهُ عنْهُ معَ معاينتِهم لقدرتِه تعالَى على مَا هُو أشقُّ منْهُ في قياسِ العقلِ من مصنوعاتِه البديعةِ أشنعُ من الأولِ وأعرقُ في كونِه كفراً.
{أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} تقريرٌ للتعجب وتأكيدٌ للإنكارِ والعاملُ في إذَا مضمرٌ غنيٌّ عنِ البيانِ لغايةِ شهرتِه معَ دلالةِ ما بعدَهُ عليهِ أيْ أحينَ نموتُ ونصيرُ تراباً نرجعُ كما ينطقُ به النذيرُ والمنذُر بهِ معَ كمالِ التباينِ بينَنا وبينَ الحياةِ حينئذٍ وَقرئ: {إِذَا متنَا} عَلى لفظِ الخبرِ أوْ على حذفِ أداةِ الإنكارِ {ذلك} إشارةٌ إلى محلِّ النزاعِ {رَجْعُ بَعِيدٌ} أيْ عنِ الأوهامِ أو العادةِ أو الإمكانِ وقيلَ الرجعُ بمعْنَى المرجوعِ الذي هُوَ الجوابُ فناصبُ الظرفِ حينئذٍ ما ينبىءُ عنه المنذرُ من البعثِ.

.تفسير الآيات (4- 8):

{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} رَدٌّ لاستبعادِهم وإزاحةٌ له فإنَّ منْ عمَّ علمُهُ ولطُفَ حَتَّى انتَهى إلى حيثُ علمَ ما تنقصُ الأرضُ من أجسادِ الموتَى وتأكلُ من لحومِهم وعظامِهم كيفَ يستبعدُ رجعُهُ إيَّاهمُ أحياءً كما كانُوا. عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابن آدمٍ يبلَى إلا عجبَ الذنبِ» وقيلَ ما تنقصُ الأرضُ منُهمْ ما يموتُ فيدفنُ في الأرضِ منهم {وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} حافظٌ لتفاصيلِ الأشياءِ كُلِّها أو محفوظٌ من التغيرِ، والمرادُ إما تمثيلُ علمِه تعالَى بكلياتِ الأشياءِ وجزئياتِها بعلم مَنْ عندَه كتابٌ محيطٌ يتلقى منْهُ كُلَّ شيءٍ أو تأكيدٌ لعلمِه تعالَى بها بثبوتِها في اللوحِ المحفوطِ عندَهُ {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ شناعتِهم السابقةِ إلى بيانِ ما هُو أشنعُ منْهُ وأفظعُ وهو تكذيبُهم للنبوةِ الثابتةِ بالمعجزاتِ الباهرةِ {لَمَّا جَاءهُمْ} مِنْ غيرِ تأملٍ وتفكرٍ، وقرئ: {لِمَا جاءهُم} بالكسرِ على أنَّ اللامَ للتوقيتِ أيْ وقتَ مجيئهِ إياهُم وقيلَ الحقُّ القرآنُ أو الإخبارُ بالبعثِ {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أيْ مضطربٌ لاقرارَ لهُ، منْ مَرَجَ الخاتمُ في أصبعِه حيثُ يقولونَ تارةً إنَّه شاعرٌ وتارةً ساحرٌ وأخرَى كاهنٌ {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} أيْ أغفلُوا أو أَعمُوا فلمْ ينظرُوا {إِلَى السماء فَوْقَهُمْ} بحيثُ يشاهدونَها كلَّ وقتٍ {كَيْفَ بنيناها} أيْ رفعناهَا بغيرِ عمدٍ {وزيناها} بمَا فيهَا منَ الكواكبِ المرتبةِ على نظامٍ بديعٍ {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} منْ فتوقٍ لملاستِها وسلامتِها من كُلِّ عيبٍ وخللٍ، ولعل تأخيرَ هَذا لمراعاةِ الفواصلِ {والأرض مددناها} أي بسطناهَا {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالاً ثوابتَ مِنْ رسَا الشيءُ إذَا ثبتَ والتعبيرُ عنْهَا بهذَا الوصفِ للإيذانِ بأن إلقاءَها بإرساءِ الأرضِ بهَا {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ} منْ كُلِّ صنفٍ {بَهِيجٍ} حسنٍ.
{تَبْصِرَةً وذكرى} علتانِ للأفعالِ المذكورةِ مَعْنى وإنِ انتصبتَا بالفعلِ الأخيرِ أو لفعلٍ مقدرٍ بطريقِ الاستئنافِ أيْ فعلنَا ما فعلنَا تبصيراً وتذكيراً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أيْ راجعٍ إلى ربِّه منفكرٍ في بدائعِ صنائعِه.