فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (11- 18):

{كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)}
{كِراماً} لدينَا {كاتبين} لَها {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} من الأفعالِ قليلاً وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه عندَ الله عزَّ وجلَّ من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ الكرامَ وقولُه تعالَى: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لا يَخْفى. وقولُه تعالَى: {يَصْلَوْنَهَا} إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ: ما حالُهم فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا {يَوْمِ الدين} يومَ الجزاءِ الذي كانُوا يكذبونَ بهِ {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} طرفةَ عينٍ فإن المرادَ دوامُ نفِي الغَيبةِ لا نفي دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ الجملةَ الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بَها اسمرارُ النَّفِي لا نفيُ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد النَّفِي لا قبلَهُ وقيل: معناهُ وما كانُوا غائبينَ عنها قيلَ: ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبَما قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ» وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرةِ درايةِ الخلقِ على أيِّ صورةٍ تصورُوه فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ، على أنَّ ما الاستفهاميةَ خبرٌ ليومِ الدينِ لا بالعكسُ كما هُو رأي سيبويهٍ لما مرَّ من أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ، ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلبُ بها الوصفُ وإن كانتْ موضوعةً لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}
وقولُه تعالَى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} بيانٌ إجماليٌّ لشأن يومِ الدينِ إثرَ إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ فإنَّ نفيَ إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُما: كلُّ ما في القرآنِ من قولِه تعالَى ما أدراكَ فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قولِه وما يدريكَ فقد طُويَ عنْهُ. ويومَ مرفوعٌ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وحركتُه الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ: هُو يومَ لا يملكُ فيه نفسٌ من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ إلخ أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ كأنَّه قيلَ: بعد تفخيمِ أمرِ يومِ الدينِ وتشويقِه عليه الصلاةُ والسلامُ إلى معرفتِه اذكُر يومَ لا تملكُ نفسٌ إلخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ كما أنَّ إبدالهُ من يومِ الدينِ على قراءةِ الرفعِ كذلكَ بل الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ.
عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ الانفطارِ كتبَ الله تعالَى له بعددِ كلِّ قطرةٍ من السماءِ وبعددِ كلِّ قبرٍ حسنةً» والله تعالَى أعلمُ.

.سورة المطففين:

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}
{وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} قيلَ: الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ: العذابُ الأليمُ، وقيلَ: هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلغَ قعَرهُ، وقيلَ وقيلَ، وأياً ما كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ. والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ حقيرٌ. ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ. وقيلَ: قدمَها عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبها رجلٌ يعرفُ بأبي جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدِهما ويكتالُ بالآخرِ، وقيلَ: كانْ أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بياعاتُهم المنابذةَ والملامسةَ والمخاضرةَ فنزلتْ فحرجٍ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأَها عليهمُ وقالَ: «خمسٍ بخمسٍ ما نقصَ قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الفاحشةُ إلا فشَا فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ إلا مُنِعوا النباتَ وأُخِذاوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم القطرُ» وقولُه تعالَى: {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية تطفيفِهم الذي استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ أي إذَا اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ عَلَى بمِنَ لتضمينِ الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيالٌ مضرٌّ بِهم لكنْ لاَ علَى اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ بموجبِ الجوابِ فإنَّ المرادَ بالاستيفاءِ ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ المكيلِ وتحريكِ المكيالِ والاحتيالِ في ملئهِ وأما ما قيلَ: من أنَّ ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ لهم على الناسِ شيءٌ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ فيما بينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادرُ منه عند الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلاً يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلتُ عليكَ فكأنَّه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ.
وقد جُوِّز أنْ تكونَ على متعلقةً بيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفونَ لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ القصرَ يتقديمِ الجارِّ والمجرورِ وإنما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ، ولا ريبَ في أنَّ الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يتصورُ أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ. والضميرُ البارزُ في قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} للنَّاسِ أيْ إذ كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه {يُخْسِرُونَ} أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قولِه:
وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً

أي جنيتُ لكَ، وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ، وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلامِ لبيانِ سوءِ معاملتِهم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى.

.تفسير الآيات (4- 6):

{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}
وقولُه تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعُه موضعَ ضيمرِهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما الضميرُ فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلونَ منزلةَ المشارِ إليها إشارةً حسيةً، وما فيهِ منَ مَعْنى البُعدِ للإشعارِ ببُعدُ درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أنَّهم مبعوثونَ {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظناً ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} أي لحُكمِه وقضائِه منصوبٌ بإضمارِ أعنِي وقيلَ بمبعوثونَ أو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ أو مجرورٌ بدلاً من يومٍ عظيمٍ مبنيٌّ على الفتحِ لإضافتِه إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعاً كما هو رأيُ الكوفيينَ ويؤيد الأخيرينِ القَراءةُ بالرفعِ وبالجَرِّ. وفي هَذا الإنكارِ والتعجيبِ وإيرادِ الظنِّ ووصفِ اليومِ بالعِظمِ وقيامِ الناسِ فيه كافَّة لله تعالَى خاضعينَ ووصفِه تعالَى بربوبيةِ العاليمنَ من البيانِ البليغِ لعظمِ الذنبِ وتفاقمِ الإثمِ فِي التطفيفِ وأمثالِه ما لا يَخْفى.

.تفسير الآيات (7- 13):

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)}
{كَلاَّ} ردعٌ عما كانُوا عليهِ من التطفيفِ والغفلةِ عن البعثِ والحسابِ وقوله تعالى: {إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ} الخ. تعليل للردع أو وجوب الارتداعِ بطريقِ التحقيقِ وسجينٌ علمٌ لكتابٍ جامعٍ هو ديوانُ الشرِّ دْوّنَ فيه أعمالُ الشياطينِ وأعمالُ الكفرةِ والفسقةِ من الثقلينِ، منقولٌ من وصفٍ كحاتمٍ، وأصلُه فِعِّيلٌ من السجنِ وهو الحبسُ والتضييقُ لأنَّه سببُ الحبسِ والتضييقِ في جهنَمَ أو لأنَّه مطروحٌ كما قيلَ تحتَ الأرضِ السابعةِ في مكانٍ مُظلمٍ موحشٍ وهو مسكنُ إبليسَ وذريتِه فالمَعْنى أنَّ كتابَ الفجَّارِ الذينَ من جُمْلتِهم المطففونَ أي ما يكتبُ من أعمالِهم أو كتابةَ أعمالِهم لفي ذلكَ الكتابِ المُدونِ فيه قبائحُ أعمالِ المذكورينَ. وقولُه تعالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ} تهويلٌ لأمرِه أي هُو بحيثُ لا يبلغه درايةُ أحدٍ. وقولُه تعالى: {كتاب مَّرْقُومٌ} أي مسطورٌ بينُ الكتابةِ أو معلَّمٌ يعلُم مَنْ رآهُ أنه لا خيرَ فيه وقيلَ: هو اسمُ المكانِ والتقديرُ ما كتابُ السجينِ أو محلُّ كتابٍ مرقومٍ. وقولُه تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} متصلٌ بقولِه تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} وما بينهما اعتراضٌ وقولُه تعالى: {الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين} إما مجرورٌ على أنه صفةٌ ذامةٌ للمكذبينَ أو بدلٌ منه أو مرفوعٌ أو منصوبٌ على الذمِّ.
{وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} أي متجاوزِ عن حدودِ النَّظرِ والاعتبارِ غالٍ في التقليدِ حتَّى استقصرَ قُدرةَ الله تعالى وعلمَهُ عنِ الإعادةِ مع مشاهدتِه للبدءِ {أَثِيمٍ} أي منهمكٍ في الشهواتِ المخدجةِ الفانيةِ بحيثُ شغلتْهُ عمَّا وراءَها منَ اللذاتِ التامةِ الباقيةِ وحملتْه على إنكارِها. {إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} الناطقةُ بذلكَ {قَالَ} من فرطِ جهلهِ وإعراضِه عن الحقِّ الذي لا محيدَ عنْهُ {أساطير الأولين} أي هي حكاياتُ الأولينَ قال الكلبيُّ المرادُ بالمُعتدي الأثيمِ هو الوليدُ بنُ المغيرةِ، وقيلَ: النَّضرُ بنُ الحارثِ، وقيلَ عامٌّ لكلِّ منَ اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ، وقرئ: {إذَا يُتلى} بتذكيرِ الفعلِ، وقرئ: {أَإِذَا تُتلى} على الاستفهامِ الإنكاريِّ.

.تفسير الآيات (14- 20):

{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)}
{كَلاَّ} ردعٌ للمعتدي الأثيمِ عن ذلكَ القولِ الباطلِ وتكذيبٌ له فيهِ. وقولُه تعالَى: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بيانٌ لما أدَّى بهم إلى التفوهِ بتلكَ العظيمةِ أي ليسَ في آياتِنا ما يصحُّ أنْ يقالَ في شأنِها مثلُ هذه المقالاتِ الباطلةِ بلْ رَكِبَ على قلوبِهم وغلبَ عليها ما كانُوا بُكسبونَها من الكفرِ والمعاصِي حتى صارتْ كالصدأِ في المرآةِ فحالَ ذاكَ بينُهم وبينَ معرفةِ الحقِّ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبدَ كلما أذنبَ ذنباً حصلَ في قلبِه نكتةٌ سوادءُ حتى يسودَّ قلبُه». ولذلكَ قالُوا ما قالُوا والرينُ الصدأُ يقالُ رانَ عليهِ الذنبُ وغانَ عليهِ ريناً وغيناً، ويُقالُ رانَ فيه النومُ أي رسخَ فيهِ، وقرئ بإدغامِ اللامِ في الراءِ {كَلاَّ} ردعٌ وزجرٌ عن الكسبِ الرائنِ {إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فَلا يكادونَ يَرَونَهُ بخلافِ المؤمنينَ، وقيلَ: هو تمثيلٌ لإهانتِهم بإهانةِ من يُحجبُ عن الدخولِ على الملوكِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ وقَتَادةَ وابنِ أبي مليكةَ: محجوبونَ عن رحمتِه، وعن ابنِ كيسانَ: عن كرامتِه. {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} أي داخِلُو النارِ وثمَّ لتراخِي الرتبةِ فإنَّ صلْيَ الجحيمِ أشدُّ من الإهانةِ والحرمانِ من الرحمةِ والكرامةِ. {ثُمَّ يُقَالُ} لهُم توبيخاً وتقريعاً من جهةِ الزبانيةِ {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} فذوقُوا عذابَهُ.
{كَلاَّ} ردعٌ عمَّا كانُوا عليهِ بعد ردعٍ وزجرٍ إثرَ زجرٍ. وقوله تعالى: {إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ محلِ كتابِ الأبرارِ بعدَهُ بيانُ سوءِ حالِ الفُجَّارِ مُتصلاً ببيانِ سُوءِ حالِ كتابِهم وفيه تأكيدٌ للردعِ ووجوبُ الارتداعِ. وكتابُهم ما كُتبَ من أعمالِهم وعليونَ علمٌ لديوانِ الخيرِ الذي دُوِّنَ فيه كلُّ ما عملتْهُ الملائكةُ وصلحاءُ الثقلينِ منقولٌ من جمعٍ على فعيلٍ من العُلوِّ، سُمِّيَ بذلكَ إمَّا لأنَّه سببُ الارتفاعِ إلى أعالِي الدرجاتِ في الجنةِ وإمَّا لأنَّهُ مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ حيثُ يسكنُ الكروبيونَ تكريماً له وتعظيماً والكلامُ في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كتاب مَّرْقُومٌ} كما مرَّ في نظيرِه.

.تفسير الآيات (21- 26):

{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}
وقوله تعالى: {يَشْهَدُهُ المقربون} صفةٌ أُخرى لكتابَ أي يحضرونَهُ ويحفظونَهُ أو يشهدونَ بما فيه يومَ القيامةِ. {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِهم إثرَ بيانِ حالِ كتابِهم على طريقةِ ما مرَّ في شأن الفجَّارِ {على الأرائك} أي على الأسرةِ في الحجالِ ولا يكادُ تطلقُ الأريكةُ على السريرِ عندهم إلا عندَ كونِه في الحَجَلةِ {يُنظَرُونَ} أي إلى ما شاءوا مدَّ أعينِهم إليه من رغائب مناظرِ الجنةِ وإلى ما أولاهُم الله تعالى من النعمةِ والكرامةِ وإلى أعدائهم يعذبونَ في النارِ وما تحجبُ الحجالُ أبصارَهُم عن الإدراك.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه. والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن له حظٌ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ ما لَهم من آثارِ النعمةِ وأحكامِ البهجةِ بحيثُ لا يختصُّ برؤيةِ راءٍ دُونَ راءٍ {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شرابٍ خالصٍ لا غشَّ فيهِ. {مَّخْتُومٍ * ختامه مِسْكٌ} أي مختومٌ أوانيه وأكوابُه بالمسكِ مكانَ الطينِ ولعلَّه تمثيلٌ لكمالِ نفاستِه، وقيل: ختامُه مسكٌ أي مقطعُه رائحةُ مسكٍ. وقرئ: {خَاتَمهُ} بفتحِ التاء وكسرِها أي ما يُختم به ويُقطع. {وَفِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحيقِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ أو إلى ما ذُكرَ من أحوالِهم. وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ إما للإشعارِ بعلوِّ مرتبتِه وبُعد منزلتِه أو لكونِه في الجنةِ أي في ذلكَ خاصَّةً دونَ غيرِه {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي فليرغبْ الراغبونَ بالمبادرة إلى طاعة الله وقيلَ: فليعملِ العاملونَ كقولِه تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} وقيل: فليستبقِ المستبقونَ وأصلُ التنافسِ التغالبُ في الشيء النفيسِ وأصلُه من النفس لعزتها قال الواحديُّ: نفستُ الشيءَ أنفسُه نفاسةً، والتنافسُ تفاعلٌ منه كأنَّ كلَّ واحدٍ من الشخصينِ يريدُ أنْ يستأثرَ به. وقال البغويُّ: وأصلُه من الشيءِ النفيسِ الذي يحرصُ عليه نفوسُ الناسِ ويريدُه كلُّ أحدٍ لنفسِه وينفسُ به على غيرِه أي يضنّ بهِ.