فصل: تفسير الآية رقم (65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (55- 57):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
{يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدواب} بعد ما شرَح أحوال المهلَكين من شرار الكَفَرة شرَع في بيان أحوالِ الباقين منهم وتفصيلِ أحكامِهم.
وقوله تعالى: {عَندَ الله} أي في حكمه وقضائه {الذين كَفَرُواْ} أي أصروا على الكفر ولجّوا فيه، جُعلوا شرَّ الدوابِّ لا شرَّ الناسِ إيماءً إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدوابِّ ومع ذلك شرٌّ من جميع أفرادِها حسبما نطقَ به قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (سورة الفرقان، الآية 44) وقوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} حكمٌ مترتبٌ على تماديهم في الفكر ورسوخِهم فيه وتسجيلٌ عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ أصلا جيء به على وجه الاعتراضِ لا أنه عطفٌ كفروا داخلٌ معه في حيز الصلةِ التي لا حكمَ فيه بالفعل، وقوله تعالى: {الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدلٌ من الموصول الأولِ أو عطفُ بيانٍ له أو نصبٌ على الذم أي عاهدتَهم، ومِنْ للإيذان بأن المعاهدَة التي هي عبارةٌ عن إعطاء العهدِ وأخذه من الجانبين معتبرةٌ هاهنا من حيث أخذُه عليه الصلاة والسلام عهدَهم إذ هو المناطُ لقباحة ما نُعيَ عليهم من النقض لا إعطاؤُه عليه الصلاة والسلام إياهم عهدَه كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدَهم، وقيل: هي للتبعيض لأن المباشِرَ بالذات للعهد بعضُهم لا كلُّهم {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} عطفٌ على عاهدتَ داخلٌ معه في حكم الصلةِ، وصيغة الاستقبالِ للدِلالة على تجدّد النقضِ وتعدُّدِه وكونِهم على نيته في كل حالٍ، أي ينقضون عهدَهم الذي أخذتَه منهم {فِي كُلّ مَرَّةٍ} أي من مرات المعاهدةِ إذ هي التي يُتوقعُ فيها عدمُ النقضِ ويُستقبح وجودُه لا من مرات المحاربة كما قيل إذ لا يتوقع فيها عدمُ النقضِ بل لا يُتصور أصلاً حتى يُستقبَح فيها وجودُه لكونها مَظِنةً لعدمه، فلا فائدةَ في تقييد النقضِ بالوقوع في كل مرةٍ من مراتها بل لا صِحةَ له قطعاً لأن النقضَ لا يتحقق إلا في المرة الواردةِ على المعاهدة لا في المرات الواقعةِ بعدها بلا معاهدة، ولئن سلم أن المرادَ هي المراتُ الواقعةُ إثرَ المعاهدةِ يبقى النقضُ الواقعُ بلا محاربةٍ كبيع السلاحِ ونحوه خارجاً من البيان، ولئن عُدّ ذلك من المحاربة فلا محيصَ من لزوم خلوِّ الكلامِ عن الفائدة بالمرة لأن المحاربةَ بهذا المعنى عينُ النقضِ فيؤولُ الأمرُ إلى أن يقال: ينقضون عهدَهم في كل مرةٍ من مرات النقض، وحملُ المحاربةِ على محاربة غيرهِم ليكونَ المعنى ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداءِ مع كونه في غاية البُعد والركاكة يستلزِمُ خروجَ بدئِهم بالنقض من البيان {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} حالٌ من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحالُ أنهم لا يتقون سُبّةَ الغدرِ ولا يبالون بما فيه من العار والنار، وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} شروعٌ في بيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ بهم {فِى الحرب} أي في تضاعيفهم {فَشَرّدْ بِهِم} أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقاً عنيفاً موجباً للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل {مّنْ خَلْفِهِمْ} أي مَنْ وراءَهم من الكفرة، وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريبٌ من هؤلاء، وقرئ {شرِّذْ} بالذال المعجمةِ، ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق، وقرئ {مِنْ خلفِهم} أي افعلِ التشريدَ من ورائهم، والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بما شاهدوا مما نزل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر.

.تفسير الآيات (58- 59):

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}
وقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} بيانٌ لأحكام المشرِفين إلى نقض العهدِ إثرَ بيانِ أحكامِ الناقضين له بالفعل، والخوفُ مستعارٌ للعلم أي وإما تعلَمنَّ من قوم من المعاهِدين نقضَ عهدٍ فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائلِ الغدرِ ومخايلِ الشر {فانبذ إِلَيْهِمْ} أي فاطرَح إليهم عهدَهم {على سَوَاء} على طريق مستوٍ قَصْدٍ بأن تُظهر لهم النقصَ وتُخبِرَهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعتَ ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجِزْهم الحربَ وهم على توهم بقاءِ العهدِ كيلا يكونَ من قِبَلك شائبةُ خيانةٍ أصلا فالجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من النابذ أي فانِبذْ إليهم ثابتاً على سواءٍ وقيل: على استواءٍ في العلم بنقض العهدِ بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم، أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأول حالٌ من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبين {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} تعليلٌ للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة التي هي خيانةٌ فيكونُ تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها وإما باعتبار استتباعِه للقتال بالآخرة فيكونُ حثاً له عليه الصلاة والسلام على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً، كأنه قيل: وإما تعلَمنَّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم ثم قاتِلْهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى: {سَبَقُواْ} أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضاً مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط، وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضاً وقيل: هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا، وهي مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، والتقديرُ ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا ويعضُده قراءة من قرأ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً} وقولُه تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ} الآية، قاله الزجاج وقرئ بالتاء على خطاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرئ {ولا تحسبن الذين} بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم، تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئنافِ، وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام التعليلِ، وقيل: الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ، وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه، وقيل: نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرئ {لا يعجزونِ} بكسر النون ولا يعجزونِّ بالتشديد.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} توجيهُ الخطاب إلى المؤمنين لما أن المأمورَ به من وظائف الكلِّ كما أن توجيهَه فيما سبق وما لحِق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكون ما في حيزه من وظائفه عليه الصلاة والسلام أي أعِدّوا لقتال الذين نُبذ إليهم العهدُ وهيِّئوا لحِرابهم أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأنسبُ بسياق النظمِ الكريم {مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} من كل ما يُتقوَّى به في الحرب كائناً ما كان وعن عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه سمعتُه عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر: «ألا إن القوةَ الرميُ» قالها ثلاثاً. ولعل تخصيصَه عليه الصلاة والسلام إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القُوى {وَمِن رّبَاطِ الخيل} الرباطُ اسمٌ للخيل التي ترُبط في سبيل الله تعالى فِعال بمعنى مفعول أو مصدرٌ سميت هي به يقال: رَبَط ربطاً ورِباطاً ورابط مُرابطة ورِباطاً، أو جمعُ رَبيطٍ كفصيل وفصال، أو جمع رَبْطٍ ككعْبٍ وكَعاب وكلب وكلاب، وقرئ {رُبُط الخيل} بضم الباء وسكونها جمع رباط، وعطفُها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادِها كعطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوّفون وقرئ {تُرهّبون} بالتشديد وقرئ {تُخزون به} والضميرُ لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسبُ ومحلُّ الجملةِ النصبُ على الحالية من فاعل أعدوا مرهِبين به أو من الموصول أو من عائده المحذوفِ أي أعدوا ما استطعتموه مُرهَباً به {عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} وهم كفارُ مكة خُصّوا بذلك من بين الكفار مع كون الكلِّ كذلك لغاية عتوِّهم ومجاوزتِهم الحدَّ في العداوة {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا} من غيرهم من الكفرة وقيل: هم اليهودُ وقيل: المنافقون وقيل: الفرسُ {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسبُ بقوله تعالى: {الله يَعْلَمُهُمْ} أي لا غيرُه تعالى أيضاً: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} لإعداد العَتادِ قلَّ أو جل: {فِى سَبِيلِ الله} الذي أوضحه الجهاد {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي جزاؤه كاملاً {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بترك الإثابة أو بنقض الثوابِ، والتعبيرُ عن تركها بالظلم مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يكون تركُ ترتيبِه عليها ظلماً لبيان كمالِ نزاهتِه سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح، وإبرازُ الإثابةِ في معرِضِ الأمور الواجبةِ عليه تعالى كما مر في تفسير قولِه تعالى: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} {وَإِن جَنَحُواْ} الجُنوحُ الميلُ ومنه الجنَاح ويعدّى باللام وبإلى، أي إن مالوا {لِلسَّلْمِ} أي للصلح بوقوع الرهبةِ في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعدادِ وإعتادِ العتاد {فاجنح لَهَا} أي للسلم، والتأنيثُ لحمله على نقيضه قال:
السِّلمُ تأخذ منها ما رضيتَ به ** والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جُرَعُ

وقرئ {فاجنُحْ} بضم النون {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ولا تخَفْ أن يُظهروا لك السلمَ وجوانحُهم مطويةٌ على المكر والكيد {أَنَّهُ} تعالى {هُوَ السميع} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخِداع {العليم} فيعلم نياتِهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويردُّ كيدَهم في نحرهم والآيةُ خاصّةٌ باليهود وقيل: عامة نسختها آيةُ السيف.

.تفسير الآيات (62- 64):

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بإظهار السلم وإبطالِ الحراب {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرُك عليهم {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} تعليلٌ لكفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام بطريق الاستئنافِ، فإن تأييدَه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيدِ من الوقوع من دلائل تأييدِه تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد مِنْ عنده بلا واسطة كقوله تعالى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أو بالملائكة مع خَرقه للعادات {وبالمؤمنين} من المهاجرين والأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالُك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة، وهذا من أبهر معجزاتِه عليه الصلاة والسلام {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الارض جَمِيعاً} أي لتأليف ما بينهم {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ مقررٌ لما قبله ومبين لعزة المطلبِ وصعوبةِ المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفقٌ منفقٌ في إصلاح ذاتِ البين جميعَ ما في الأرض من الأموال والذخائر لم يقدِرْ على التأليف والإصلاحِ، وذكرُ القلوب للإشعار بأن التأليفَ بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليفُ ظاهراً {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قلباً وقالَباً بقدرته الباهرة {إِنَّهُ عَزِيزٌ} كاملُ القدرةِ والغلبة لا يستعصي عليه شيءٌ مما يريده {حَكِيمٌ} يعلم كيفيةَ تسخيرِ ما يريده وقيل: الآيةُ في الأوس والخزرج كان بينهم إِحَنٌ لا أمدَ لها ووقائعُ أفنت ساداتِهم وأعاظِمَهم ودقت أعناقَهم وجماجمَهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافَوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصاراً.
{ياأيها النبى} شروعٌ في بيان كفايتِه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في مادة خاصةٍ وتصديرُ الجملة بحرفي النداءِ والتنبيهِ للتنبيه على مزيد الاعتناءِ بمضمونها، وإيرادهُ عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم {حَسْبَكَ الله} أي كافيك في جميع أمورِك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحِراب {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} في محل النصبِ على أنه مفعولٌ معه أي كفاك وكفي أتباعَك الله ناصراً كما في قول من قال:
فحسبُك والضحّاكَ عضْبٌ مهندُ

وقيل: في موضع الجر عطفاً على الضمير كما هو رأيُ الكوفيين أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفعِ عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآيةُ نزلت في البيداء في غزوة بدرٍ قبل القتالِ. وقيل: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثم أسلم عمرُ رضى الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه.

.تفسير الآية رقم (65):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)}
{ياأيها النبى} بعد ما بين كفايتَه إياهم بالنصر والإمدادِ أُمر عليه الصلاة والسلام بترتيب مبادي نصرِه وإمدادِه وتكريرُ الخطاب على الوجه على المذكور لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن المأمور به {حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي بالِغْ في حثّهم عليه وترغيبِهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغّبة التي أعظمُها تذكيرُ وعدِه تعالى بالنصر وحُكمُه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصلُ التحريضِ الحَرَضُ وهو أن ينهكه المرضُ حتى يُشفيَ على الموت وقال الراغب: كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به قلت: فالأوجهُ حينئذ أن يُجعل الحرَضُ عبارةً عن ضعف القلب الذي هو من باب نَهْكِ المرض، وقيل: معنى تحريضِهم تسميتُهم حرضاً بأن يقال: إني أراك في هذا الأمر حَرَضاً أي محرّضاً فيه لتهييجه إلى الأقدام وقرئ {حرِّص} بالصاد المهملة وهو واضح.
{إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} وعدٌ كريمٌ منه تعالى بتغليب كلِّ جماعةٍ من المؤمنين على عشرة أمثالِهم بطريق الاستئنافِ بعد الأمر بتحريضهم، وقوله تعالى: {وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا} مع انفهام مضمونِه مما قبله لكون كل منهما عدةً بتأييد الواحدِ على العشرة لزيادة التقريرِ المفيدةِ لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوتَ فيما بين كلَ من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبيّن أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى: {مّنَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ للألف وهذا القيدُ معتبرٌ في المِائتين أيضاً وقد تُرك ذكرُه تعويلاً على ذكره هاهنا كما ترك قيدُ الصبر هاهنا مع كونه معتبراً حتماً ثقةً بذكره هناك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قومُ جَهلةٌ بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً بأمر الله تعالى وإعلاءً لكلمته وابتغاءً لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهليةِ واتّباعِ خطواتِ الشيطانِ وإثارةِ ثائرةِ البغي والعُدوانِ فلا يستحقون إلا القهرَ والخِذلانَ، وأما ما قيل من أن مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخِر لا يؤمن بالميعاد فالسعادةُ عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشِحّ بها ولا يعرِّضها للزوال بمزاولة الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامةُ فيفِر فيُغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادةَ في هذه الحياة الفانية وإنما السعادةُ هي الحياةُ الباقيةُ فلا يبالي بهذه الحياةِ الدنيا ولا يقيم لها وزناً فيُقدم على الجهاد بقلب قوي وعزمٍ صحيحٍ فيقوم الواحدُ من مثله مقامُ الكثير فكلامٌ حقٌّ لكنه لا يلائم المقام.