فصل: تفسير الآية رقم (82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (78- 79):

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}
{لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} أي لعنهم الله عز وجل، وبناءُ الفعل للمفعول للجَرْي على سَنن الكبرياء {مِن بَنِى إسراءيل} متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً من الموصول أو من فاعل كفروا، وقوله تعالى: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} متعلق بلُعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على لسانهما، وقيل: إن أهل أَيْلةَ لما اعتدَوا في السبت دعا عليهم داود عليه السلام وقال: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخهم الله قردة، وأصحابُ المائدة لما كفروا قال عيسى عليه السلام: اللهم عذِّبْ من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذِّبْه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازيرَ وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي {ذلك} إشارة إلى اللعن المذكور وإيثارُه على الضمير للتنبيه على كمال ظهوره وامتيازِه عن نظائره وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} والجملة مستأنَفةٌ واقعة موقع الجواب عما نشأ من الكلام كأنه قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعنُ الهائل الفظيعُ بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر، كما يفيده الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل، وينبىء عنه قوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} فإنه استئناف مفيد بغبارته لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمرارُه إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينْهَى كلُّ واحد منهم الآخَرَ عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهورُ لصيغة التفاعل، بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة، من غير اعتبار أن يكون كل واحد منهم ناهياً ومنهياً معاً، كما في تراءَوْا الهلالَ، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء، يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه، فالجملة حينئذ مفسرةٌ لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحاً، وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر، بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقت من الأوقات، ومن ضرورته استمرارُ فعل المنكر حسبما سبق، وعلى كل تقدير فما يفيده تنكيرُ المنكر من الوحدة نوعية لا شخصية، فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهْي به، لِما أن متعلَّق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلقُ به النهي، والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحقّقه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزمَ كونُ النهي بعد الفعل، فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المِثْل أو جعلِ الفعل عبارةً عن الإرادة، على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول فلابد من المصير إلى أحد ما ذُكر من الوجهين، أو إلى تقدير المثل، أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته، وفي كل ذلك تعسفٌ لا يخفى.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي، كيف لا وقد أداهم إلى ما شُرح من اللعن الكبير وليس في تسبُّبه بذلك دلالةٌ على خروج كفرهم عن السببية، مع الإشارة إلى سببيته له فيما سبق من قوله تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} فإن إجراء الحكم على الموصول مُشعرٌ بعِلِّية ما في حيز الصلة له، لما أن ما ذكر في حيز السببية مشتملٌ على كفرهم أيضاً.

.تفسير الآيات (80- 81):

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
{ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} أي من أهل الكتاب ككعبِ بن الأشرف وأضرابِه حيث خرجوا إلى مشركي مكةَ ليتّفقوا على محاربة النبي عليه الصلاة والسلام، والرؤيةُ بصرية وقوله تعالى: {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} حال من {كثيراً} لكونه موصوفاً، أي يوالون المشركين بُغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤنين، وقيل: مِنْ منافقي أهل الكتاب يتولَّوْن اليهود. وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والحسن، وقيل: يوالون المشركين ويُصافوُنهم {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} لبئس شيئاً قدّموا ليَرِدوا عليه يوم القيامة {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوصُ بالذم على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه، تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغةً في الذم أي موجبُ سُخطِه تعالى، ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبرُه، والرابط عند من يشترطه هو العموم، أو لا حاجة إليه، لأن الجملةَ عينُ المبتدأ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ينبىء عنه الجملة المتقدمة، كأنه قيل: ما هو؟ أو أيُّ شيء هو؟ فقيل: هو أنْ سخِط الله عليهم، وقيل: المخصوصُ بالذم محذوفٌ و{ما} اسم تامٌّ معرفةٌ في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم، و{قدمت لهم أنفسهم} جملة في محل الرفع على أنها صفة للمخصوصِ بالذم قائمةٌ مَقامه، والتقدير لبئس الشيءُ شيءٌ قدّمتْه لهم أنفسُهم، فقوله تعالى: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} بدلٌ من {شيء} المحذوفِ، وهذا مذهب سيبويه {وَفِى العذاب} أي عذاب جهنم {هُمْ خالدون} أبد الآبدين {وَلَوْ كَانُواْ} أي الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ} أي نبيهم {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} من الكتاب، أو لو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيماناً صحيحاً {مَا اتَّخَذُوهُمْ} أي المشركين واليهود {أَوْلِيَاء} فإن الإيمان بما ذُكر وازعٌ عن تولِّيهم قطعاً {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمرِّدون في النفاق مفرِّطون فيه.

.تفسير الآية رقم (82):

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ} جملة مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر، وسائرِ أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين. أُكِّدت بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها، والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد صالح له، إيذاناً بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس. والوُجدانُ متعدَ إلى اثنين، أحدُهما أشدُّ الناس والثاني اليهودُ وما عُطف عليه، وقيل: بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبر، ومصبّ الفائدة هو الخبرُ لا المبتدأ، ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذ دل على الترتيب دليل، وهاهنا دليل واضح عليه، وهو أن المقصودَ بيانُ كون الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين، لا كونِ أشدِّهم عداوةً لهم الطائفتين المذكورتين، وأنت خبير بأنه بمعزل من الدلالة على ذلك، كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير، إذ المعنى أنك إن قصدتَ أن تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً، وبالغْتَ في تعرُّف أحوالهم الظاهرةِ والباطنة، وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة، لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا غيرُ فتأملْ.
واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ {بعداوةً} مقويةٌ لعملها، ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها، كما في قوله: ورهبةً عقابَك، وقيل: متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة، أي كائنةً للذين آمنوا، وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعُف كفرهم، وانهماكهم في ابتاع الهوى، وقربهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم. وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لَزِّهما في قَرنٍ واحد إشعارٌ بتقدمهم عليهم في العداوة، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص، {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} أعيد الموصول مع صلته رَوْماً لزيادة التوضيح والبيان {الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} عبر عنهم بذلك إشعاراً بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصارُ الله وأَوْدُ أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام، وعلى هذه النكتة مبنى الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق، والعدولُ عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخِراً: ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ، أو بأن يقال: أولا لتجدن أبعد الناس مودة الخ، للإيذان بكمال تبايُن ما بين الفريقين من التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين، والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر.
{ذلك} أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ} أي بسبب أن منهم {قِسّيسِينَ} وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم، والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل، سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم، قاله الراغب، وقيل: القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم، وقيل: قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى، وقيل: إنه أعجمي، وقال قُطرُبُ: القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم، وقيل: ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه، وبقي منهم رجل يقال له: قِسيسُ لم يبدِّلْ دينه، فمن راعى هديه ودينه قيل له: قسيس. {وَرُهْبَاناً} وهو جمع راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان، وقيل: إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قال:
لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل ** لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ

والترهب التعبد في الصومعة، قال الراغب: الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف، والتنكير لإفادة الكثرة، ولابد من اعتبارها في القسيسين أيضاً، إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين، فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها، وإلا فمن اليهود أيضاً قوم مهتدون، ألا يُرى إلى عبد اللَّه بن سلام وأضرابه، قال تعالى: {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الخ، لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على {أن منهم}، أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموه، ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر.

.تفسير الآيات (83- 84):

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول} عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون، وأن أعينَهم تفيض من الدمع عند سماع القرآن، وهو بيانٌ لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم، ومسارعتِهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} أي تمتلىء بالدمع، فاستُعير له الفيضُ الذي هو الانصبابُ عن امتلاءٍ مبالغةً، أو جُعلت أعينُهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} {من} الأولى لابتداء الغاية، والثانية لتبيين الموصول، أي ابتدأ الفيض ونشأ من معرفة الحق وحصل من أجله وبسببه، ويحتمل أن تكون الثانية تبعيضية، لأن ما عرفوه بعضُ الحق، وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله، وقرءوا القرآن، وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ {تُرى أعينُهم} على صيغة المبني للمفعول {يَقُولُونَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل: ماذا يقولون؟ فقيل: يقولون: {رَبَّنَا ءامَنَّا} بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما، وقيل: حال من الضمير في عرفوا أو من الضمير المجرور في أعينهم، لما أن المضاف جزؤه، كما في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا} {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته، أو مع أمته الذين هم شهداءُ على الأمم يوم القيامة، وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.
{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} كلام مستأنَفٌ قالوه تحقيقاً لإيمانهم، وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيِه بالكلية، على أن قوله تعالى: {لاَ نُؤْمِنُ} حال من الضمير في {لنا}، والعامل ما فيه من الاستقرار أيْ أيُّ شيءٍ حصل لنا غيرَ مؤمنين؟ على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب والمسبَّب جميعاً، كما في قوله تعالى: {لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} ونظائرِه لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وأمثاله فإن همزة الاستفهام كما تكون تارة لإنكار الواقع كما في أتضرِبُ أباك؟ وأخرى لإنكار الوقوع كما في أأضرب أبي؟ كذلك ما الاستفهامية قد تكون لإنكار سبب الواقع ونفْيِه فقط كما في الآية الثانية، وقوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} فيكون مضمون الجملة الحالية محققاً، فإن كلاًّ من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمرٌ محققٌ قد أنكروا نفي سببه، وقد يكون الإنكارُ سببَ الوقوعِ ونفيَه، فيسريان إلى المسبب أيضاً كما في الآية الأولى، فيكون مضمون الجملة الحالية مفروضاً قطعاً، فإن عدم العبادة أمر مفروض حتماً، وقوله تعالى: {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ، والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيداً بها، أي أيُّ شيء حصل لنا غير مؤمنين؟ ونحن نطمع في صحبة الصالحين، أو من الضمير في {لا نؤمن} على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم، مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين، وقيل: معطوف على {نؤمن} على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور؟

.تفسير الآيات (85- 87):

{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}
{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} أي عن اعتقاد، من قولك: هذا قول فلان أي مُعتقدُه، وقرئ {فآتاهم الله} {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين} أي الذين أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور، والآيات الأربع، رُوي أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفرَ بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان، فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريمَ، فبكَوْا وآمنوا بالقرآن، وقيل: نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكَوا وآمنوا.
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم} عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين، وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} أي ما طاب ولذ منه، كأنه لمّا تضمّن ما سلف من مدح النصارى على الترهّب وترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات، عقّب ذلك بالنهي عن الإفراط في الباب، أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار فرقّوا واجتمعوا في بيت عثمانَ بنِ مظعونٍ، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين وألا يناموا على الفُرش، ولا يأكلوا اللحم والودَك، ولا يقرَبوا النساء والطيِّب، ويرفضوا الدنيا ويلْبَسوا المُسوح، ويَسيحُوا في الأرض، ويجُبُّوا مذاكيرَهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «إني لم أومر بذك، إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأُفطر، وآكلُ اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغِب عن سنتي فليس مني» فنزلت.
{وَلاَ تَعْتَدُواْ} أي لا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات، أو جَعَلَ تحريمَ الطيبات اعتداءً وظلماً، فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخُل تحته النهيُ عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده عَقيبه، أو أريدَ ولا تعتدوا بذلك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} تعليل لما قبله.