فصل: سورة هود عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (104- 106):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}
{قُلْ} لجمهور المشركين {يأَيُّهَا الناس} أوثر الخطاب باسم الجنس مصدراً بحرف التنبيه تعميماً للتبليغ وإظهاراً لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم {إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِى} الذي أتعبّد الله عز وجل به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفتُه {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} في وقت من الأوقات {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} ثم يَفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب أي فاعلموا أنه تخصيصُ العبادةِ به ورفضُ عبادةِ ما سواه من الأصنام وغيرِها مما تعبدونه جهلاً، وتقديمُ تركِ عبادةِ الغير على عبادته تعالى لتقدم التخليةِ على التحلية كما في كلمة التوحيد، وللإيذان بالمخالفة من أول الأمر أو إن كنتم في شك من صحة ديني وسَدادِه فاعلموا أن خلاصتَه إخلاصُ العبادة لمن بيده الإيجادُ والإعدام دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام فاعِرضوها على عقولكم وأجيلوا فيها أفكارَكم وانظُروا فيها بعين الإنصافِ لتعلموا أنه حقٌّ لا ريب فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحةِ للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضُه للعاقل في هذا الباب هو الشكُّ في صحته، وأما القطعُ بعدمها فمما لا سبيلَ إليه وإن كنتم في شك من ثباتي على الدين فاعلموا أني لا أتركه أبداً {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} بما دل عليه العقلُ ونطق به الوحيُ وهو تصريحٌ بأن ما هو عليه من دين التوحيدِ ليس بطريق العقلِ الصِّرْفِ بل بالإمداد السماويِّ والتوفيق الإلهي، وحذفُ حرفِ الجر من {أن} يجوز أن يكون من باب الحذفِ المطردِ مع أنْ وأنّ، وأن يكون خاصاً بفعل الأمرِ كما في قوله:
أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} عطفٌ على أن أكونَ خلا أن صلةَ أن محكيةٌ بصيغة الأمرِ ولا ضيرَ في ذلك لأن مناطَ جوازِ وصلها بصيغ الأفعال دلالتُها على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبيةِ، ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية، وليس الموصولُ الحرفيُّ كذلك أي وأُمرتُ بالاستقامة في الدين والاستبدادِ فيه بأداء المأمورِ به والانتهاءِ عن المنهيِّ عنه أو باستقبال القبلةِ في الصلاة وعدمِ الالتفات إلى اليمين والشمال {حَنِيفاً} حالٌ من الدين أو الوجه أي مائلاً عن الأديان الباطلة {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} عطفٌ على أقم داخلٌ تحت الأمرِ أي لا تكونن منهم اعتقاداً ولا عملاً وقوله عز وعلا: {وَلاَ تَدْعُ} عطف على قوله تعالى: {قُلْ ياأيها الناس} غير داخل تحت الأمر وقيل: على ما قبله من النهي والوجهُ هو الأولُ لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقةٌ لا يمكن فصلُ بعضِها عن بعض كما ترى ولا وجهَ لإدراج الكلِّ تحت الأمرِ، وهو تأكيدٌ للنهي المذكورِ وتفصيلٌ لما أجمل فيه إظهاراً لكمال العنايةِ بالأمر وكشفاً عن وجه بُطلان ما عليه المشركون أي لا تدْعُ {مِن دُونِ الله} استقلالاً ولا اشتراكاً {مَا لاَ يَنفَعُكَ} إذا دعوتَه بدفع مكروهٍ أو جلبِ محبوب {وَلاَ يَضُرُّكَ} إذا تركتَه بسلب المحبوبِ دفعاً أو رفعاً أو بإيقاع المكروهِ، وتقديمُ النفعِ على الضرر غنيٌّ عن بيان السبب {فَإِن فَعَلْتَ} أي ما نُهيتَ عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر، كنّى به عنه تنويهاً لشأنه عليه السلام وتنبيهاً على رفعة مكانِه من أن يُنسَب إليه عبادةُ غير الله سبحانه ولو في ضمن الجملةِ الشرطية {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} جزاءٌ للشرط وجوابٌ لسؤال من يسأل عن تَبِعة ما نُهي عنه.

.تفسير الآيات (107- 108):

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)}
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} تقريرٌ لما أورد في حيز الصلة من سلب النفعِ من الأصنام وتصويرٌ لاختصاصه به سبحانه {فَلاَ كاشف لَهُ} عنك كائناً من كان وما كان {إِلاَّ هُوَ} وحده فيثبت عدمُ كشفِ الأصنامِ بالطريق البرهاني وهو بيانٌ لعدم النفعِ برفع المكروهِ المستلزِمِ لعدم النفعِ بجلب المحبوبِ استلزاماً ظاهراً فإن رفعَ المكروهِ أدنى مراتبِ النفعِ فإذا انتفى انتفى النفعُ بالكلية.
{وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} تحقيقٌ لسلب الضررِ الواردِ في حيز الصلةِ، أي إن يُرِدْ أن يصيبَك بخير {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} الذي من جملته ما أرادك به من الخير فهو دليلٌ على جواب الشرطِ لا نفسُ الجواب، وفيه إيذانٌ بأن فيضانَ الخير منه تعالى بطريق التفضّل من غير استحقاقٍ عليه سبحانه أي لا أحدَ يقدِر على رده كائناً ما كان فيدخل فيه الأصنامُ دخولاً أولياً وهو بيانٌ لعدم ضُرِّها بدفع المحبوبِ قبلَ وقوعِه المستلزمِ لعدم ضُّرِّها برفعه أو بإيقاع المكروهِ استلزاماً جلياً، ولعل ذكرَ الإرادةِ مع الخير والمسِّ مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخيرَ مُراد بالذات وأن الضُرَّ إنما يَمسُّ من يَمَسّه لما يوجبه من الدواعي الخارجيةِ لا بالقصد الأوليّ أو أريد معنى الفعلين في كلَ من الضر والخير وأنه لا رادَّ لما يريد منهما ولا مزيلَ لما يصيب به منهما فأوجزَ الكلامَ بأن ذكرَ في أحدهما المسَّ وفي الآخر الإرادةَ ليدل بما ذكر في كل جانبٍ على ما تُرك في الجانب الآخر على أنه قد صرّح بالإصابة حيث قيل: {يُصَيبُ بِهِ} إظهاراً لكمال العنايةِ بجانب الخير كما ينبىء عنه تركُ الاستثناءِ فيه أي يصيب بفضله الواسعِ المنتظمِ لما أرادك به من الخير، وجعلُ الفضلِ عبارةً عن ذلك الخير بعينه على أن يكون من باب وضعِ المُظهرِ في موضع المُضمَرِ لما ذُكر من الفائدة يأباه قوله عز وجل: {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} فإن ذلك ينادي بعموم الفضل، وقوله عز قائلاً: {وَهُوَ الغفور الرحيم} تذييلٌ لقوله تعالى: {يُصَيبُ بِهِ} الخ، مقرِّرٌ لمضمونه، والكلُّ تذييلٌ للشرطية الأخيرةِ محققٌ لمضمونها.
{قُلْ} مخاطباً لأولئك الكفرةِ بعد ما بلّغتهم ما أوحيَ إليك {ياأيها الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ} وهو القرآنُ العظيمُ المشتمِلُ على محاسن الأحكامِ التي من جملتها ما مر آنفاً من أصول الدينِ واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبقَ عذرٌ {فَمَنُ اهتدى} بالإيمان به والعملِ بما في مطاويه {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} أي منفعةُ اهتدائِه لها خاصة {وَمَن ضَلَّ} بالكفر به والإعراض عنه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فوبالُ الضلالِ مقصورٌ عليها، والمرادُ تنزيهُ ساحةِ الرسالةِ عن شائبة غرضٍ عائد إليه عليه السلام من جلب نفعٍ أو دفع ضرَ كما يلوح به إسنادُ المجيء إلى الحق من غير إشعارٍ بكون ذلك بواسطته {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ موصولٍ إلى أمركم وإنما أنا بشيرٌ ونذير.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
{واتبع} اعتقاداً وعملاً وتبليغاً {مَا يوحى إِلَيْكَ} على نهج التجددِ والاستمرارِ من الحق المذكورِ المتأكِّدِ يوماً فيوماً، وفي التعبير عن بلوغه إليهم بالمجيء وإليه عليه السلام بالوحي تنبيهٌ على ما بين المرتبتين من التنائي {واصبر} على ما يعتريك من مشاقِّ التبليغِ {حتى يَحْكُمَ الله} بالنُصرة عليهم أو بالأمر بالقتال {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطّلاعه على السرائر اطّلاعَه على الظواهر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ يونُسَ أُعطيَ له من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد من صَدَّقَ بيونُسَ وكذّب به وبعدد مَنْ غرِق مع فرعونَ» والحمدُ لله وحده.

.سورة هود عليه السلام:

مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
{الر} محلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وقيل: على أنه مبتدأٌ والأولُ هو الأظهرُ كما أشير إليه في سورة يونُسَ، أو النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحو اذكُر أو اقرأ على تقدير كونِه اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثرِ، أو لا محلَّ له من الإعراب مسرودٌ على نمط التعديدِ حسبما فُصِّل في أخوَاته، وقوله تعالى: {كِتَابٌ} خبرٌ له على الوجه الثاني، ولمبتدأ محذوفٍ على الوجوه الباقيةِ {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} نُظمت نظماً مُتْقناً لا يعتريه خللٌ بوجه من الوجوه أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائِقها أو مُنعت من النسخ بمعنى التغييرِ مطلقاً أو أُيّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على كونها من عند الله عز وجل أو على ثبوتِ مدلولاتِها فالمرادُ بالآيات جميعُها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعيةِ فالمرادُ بها بعضُها المشتملُ عليها كما إذا فُسِّر الأحكامُ بالمنع من النسخ بمعنى تبديلِ الحُكمِ الشرعيِّ خاصةً، وأما تفسيرُه بالمنع من الفساد أخذاً من قولهم: أحكمتَ الدابة إذا وضعتَ عليها الحَكَمة لتمنعَها من الجِماح ففيه إيهامُ ما لا يكاد يليقُ بشأن الآياتِ الكريمةِ من التداعي إلى الفساد لولا المانع، وفي إسناد الإحكامِ على الوجوه المذكورةِ إلى آيات الكتابِ دون نفسِه لاسيما على الوجوه الشاملةِ لكل آية منه من حسن الموقعِ والدِلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي جُعلت فصولاً من الأحكام والدلائل والمواعظِ والقِصصِ أو فُصّل فيها مَهمّاتُ العبادِ في المعاش والمعادِ على الإسناد المجازيِّ والتفسيرُ بجعلها آيةً آيةً لا يساعده، لأن ذلك من الأوصاف الأوليةِ فلا يناسب عطفُه على أحكامها بكلمة التراخي، وأما المعنيان الأوّلانِ فهما وإن كانا مع الأحكام زماناً حيث لم تزَل الآياتُ مُحكمةً مفصّلة لا أنها أُحكِمَتْ أو فُصِّلَت بعد أن لم تكن كذلك، إذ الفعلانِ من قَبيل قولِهم: سبحان من صغّر البَعوضَ وكبّر الفيلَ، إلا أنهما حيث كانا من صفات الآياتِ باعتبار نسبةِ بعضِها إلى بعض على وجه يستتبِعُ أحكاماً مخصوصةً وآثاراً معتدًّا بها، وبملاحظة مصالحِ العبادِ ناسبَ أن يشار إلى تراخي رتبتِهما عن رتبة الإحكام، وإن حُمل جعلُها آية آيةً على معنى تفريقِ بعضِها عن بعض يكونُ من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثارِ، أو فُرّقت في التنزيل منجّمة بحسب المصالحِ فإن أريد تنزيلُها المنجَّمُ بالفعل فالتراخي زمانيٌّ وإن أريد جعلُها في نفسها بحيث يكون نزولُها منجّماً حسبما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ فهو رُتبيٌّ لأن ذلك وصفٌ لازمٌ لها حقيقٌ بأن يُرتَّبَ على وصف إحكامِها وقرئ {أحكمتُ آياتِه ثم فصّلتُ} على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أي فرّقت بين الحق والباطل.
{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفةٌ للكتاب وُصف بها بعد ما وصُف بإحكام آياتِه وتفصيلِها الدالّين على رتبتِه من حيث الذاتُ إبانةً لجلالة شأنِه من حيث الإضافةُ، أو خبرٌ للمبتدأ المذكور أو المحذوفِ، أو صلةٌ للفعلين وفي بنائها للمفعول ثم إيرادِ الفاعلِ بعنوان الحِكمة البالغةِ والإحاطةِ بجلائلها ودقائِقها منكراً بالتنكير التفخيميّ وربطِهما به لا على النهج المعهودِ في إسناد الأفاعيلِ إلى فواعلها مع رعاية حسنِ الطباقِ من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونِهما على أكمل ما يكون ما لا يُكتنه كُنهُه.

.تفسير الآيات (2- 3):

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مفعولٌ له حُذف عنه اللامُ مع فقدان الشرطِ، أعني كونَه فعلاً لفاعل الفعلِ المعللِ جرياً على سنن القياسِ المطّردِ في حذف حرفِ الجرِّ مع أن المصدريةِ، كأنه قيل: كتابٌ أُحكمت آياتُه ثم فُصّلت لئلا تعبدوا إلا الله، أي لتترُكوا عبادةَ غيرِ الله عز وجل وتتمحّضوا في عبادته، فإن الإحكامَ والتفصيلَ على ما فُصّل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيدِ وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبةً. وقيل: أنْ مفسرةٌ لما في التفصيل من معنى القولِ أي قيل: لا تعبدوا إلا الله {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ} من جهة الله تعالى {نَّذِيرٌ} أُنذركمَ عذابَه إن لم تتركو ما أنتم عليه من الكفر وعبادةِ غيرِ الله تعالى {وَبَشِيرٌ} أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحّضتم في عبادته، ولمّا ذُكر شؤون الكتابِ من إحكام آياتهِ وتفصيلِها وكونِ ذلك من قِبَل الله تعالى وأُورد معظمُ ما نُظم في سلك الغايةِ والأمرِ من التوحيد وتركِ الإشراك وُسِّط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفارَ والتوبة ذِكرُ أن من نُزّل عليه ذلك الكتابُ مرسَلٌ من عند الله تعالى لتبليغ أحكامِه وترشيحِها بالمؤيدات من الوعد والوعيدِ للإيذان بأن التوحيدَ في أقصى مراتبِ الأهمية حتى أُفرد بالذكر وأُيِّد إيجابُه بالخطاب غِبَّ الكتابِ مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارِناً للحُكم برسالته عليه السلام كذلك في الذكر لا ينفكّ أحدُهما عن الآخر، وقد رُوعيَ في سَوق الخطابِ بتقديم الإنذار على التبشير ما رُوعيَ في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخليةِ على التحليةِ لتجاوب أطرافِ الكلامِ، ويجوز أن يكون قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} كلاماً منقطعاً عما قبله وارداً على لسانه عليه السلام إغراءً لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه عليه السلام قال: تركَ عبادةِ غيرِ الله أي الزموه، على معنى اترُكوا عبادةَ غيرِ الله تركاً مستمراً إنني لكم من جهة الله تعالى نذيرٌ وبشير، أي نذير أنذرُكم من عقابه على تقدير استمرارِكم على الكفر وبشيرٌ أبشرّكم بثوابه على تقدير تركِكم له وتوحيدِكم، ولما سيق إليهم حديثُ التوحيدِ وأُكد ذلك بخطاب الرسولِ صلى الله عليه وسلم على وجه الإنذارِ والتبشيرِ شُرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمّن تفصيلَ ما أجمل وصف البشير والنذير فقيل: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} وهو معطوفٌ على أن لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أنْ مصدريةٌ لجواز كون صلتِها أمراً أو نهياً كما في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا} لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دلالتُه على المصدر وهو موجودٌ فيهما، ووجوبِ كونِها خبريةً في صلة الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبريةً، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك، ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالة على المصدر سواءً ساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبما ساغ وقوعُ الفعلِ فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي نحوُ تجرّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبال {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} عطف على استغفروا والكلامُ فيه كالكلام فيه والمعنى فُعل ما فُعل من الإحكام والتفصيلِ لتخصّوا الله تعالى بالعبادة وتطلُبوا منه سَتر ما فرَط منكم من الشرك ثم ترجِعوا إليه بالطاعة أو تستمرّوا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفارِ أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي، وعلى الثاني أنْ مفسرةٌ أي قيل في أثناء تفصيلِ الآياتِ: لا تعبدوا إلا الله واستغفِروه ثم توبوا إليه، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ تلقينٌ للمخاطَبين وإرشادٌ لهم إلى طريق الابتهالِ في السؤال وترشيحٌ لما يعقُبه من التمتيع وإيتاءِ الفضلِ بقوله تعالى: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} أي تمتيعاً، وانتصابُه على أنه مصدرٌ حذف منه الزوائدُ كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً} أو على أنه مفعولٌ به وهو اسمٌ لما يُتمتّع به من منافع الدنيا من الأموال والبنينَ وغيرِ ذلك، والمعنى يُعِيْشُكم عَيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيءٌ مما تشتهون ولا ينغصُه شيءٌ من المكدرات {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} مقدّرٍ عند الله عز وجل وهو آخرُ أعمارِكم، ولما كان ذلك غايةً لا يطمح وراءَها طامحٌ جرى التمتيعُ إليها مجرى التأييدِ عادةً أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في الطاعة والعملِ {فَضْلَهُ} جزاءَ فضلِه إما في الدنيا أو في الآخرة، وهذه تكملةٌ لما أُجمل من التمتيع إلى أجل مسمًّى وتبيينٌ لما عسى يعسُر فهمُ حكمتِه من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحالِ بين العاملين، فرب إنسانٍ له فضلٌ طاعةٌ وعملٌ لا يُمتّع في الدنيا أكثرَ مما مُتِّع آخرُ دونه في الفضل، وربما يكون المفضولُ أكثرَ تمتيعاً فقيل: ويُعطِ كلَّ فاضلٍ جزاءَ فضلِه، إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة، وذلك مما لا مرد له وهذا ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرُع في الإنذار فقيل: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تتولوا عما أُلقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبةِ، وإنما أُخّر عن البشارة جرياً على سنن تقدمِ الرحمةِ على الغضب أو لأن العذابَ قد علّق بالتولي عما ذكر من التوحيد والاستغفارِ والتوبةِ وذلك يستدعي سابقةَ ذكرِه، وقرئ {تُوَلّوا} من ولى {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بموجب الشفقة والرأفةِ أو أتوقع {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو القيامةُ وُصف بالكِبَر كما وصف بالعِظَم في قوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} إما لكونه كذلك في نفسه أو وُصف بوصف ما يكون فيه كما وُصفَ بالثقل في قوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السموات والارض} وقيل: يوُم الشدائد وقد ابتلُوا بقَحطٍ أكلوا فيه الجيَفَ، وأياً ما كان ففي إضافةِ العذابِ إليه تهويلٌ وتفظيعٌ له.