فصل: تفسير الآيات (5- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (5- 8):

{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}
{واختلاف اليل والنهار} بالجرِّ على إضمارِ الجارِّ المذكورِ في الآيتينِ قبلَهُ. وقد قرئ بذكرِه. والمرادُ باختلافِهما إمَّا تعاقُبهما أو تفاوتُهما طولاً وقِصَراً. {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء} عطفٌ على اختلافِ {مِن رّزْقِ} أي من مطرٍ، وهو سببُ للرزقِ عُبرَ عنهُ بذلكَ تنبيهاً على كونِه آيةً من جِهتَيْ القُدرةِ والرحمةِ. {فَأحْيَا بِهِ الأرض} بأنْ أخرجَ منها أصنافَ الزروعِ والثمراتِ والنباتِ. {بَعْدَ مَوْتِهَا} وعرائها عن آثارِ الحياةِ وانتقاءِ قوةِ التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ. {وَتَصْرِيفِ الرياح} من جهةٍ إلى أُخرى، ومن حالٍ إلى حالٍ. وقرئ بتوحيدِ الريحِ. وتأخيرُه عن إنزالِ المطرِ مع تقدمِه عليهِ في الوجودِ، إمَّا للإيذانِ بأنه آيةٌ مستقلةٌ حيثُ لو رُوعيَ الترتيبُ الوجوديُّ لربما تُوهم أنَّ مجموعَ تصريفِ الرياحِ وإنزالِ المطرِ آيةٌ واحدةٌ، وإمَّا لأنَّ كونَ التصريفِ آيةً ليسَ لمجردِ كونِه مبدأً لإنشاءِ المطرِ بل لهُ ولسائرِ المنافعِ التي من جُملتها سوقُ السفنِ في البحارِ. {ءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُهُ ما تقدمَ من الجارِّ والمجرورِ. والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلَها. وقرئ بالنصبِ على الاختصاصِ، وقيلَ: على أنَّها اسمُ أنَّ والمجرورُ المتقدمُ خبرُها بطريقِ العطفِ على معمولَيْ عاملينِ مختلفينِ هُمَا أنَّ وفي أقيمتِ الواوُ مُقامَهُما فعملتِ الجرَّ في اختلافِ والنصبَ في آياتٍ. وتنكيرُ آياتٍ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ كماً وكيفاً واختلافُ الفواصلِ لاختلافِ مراتبِ الآياتِ في الدقةِ والجلاءِ.
{تِلْكَ آيات الله} مبتدأٌ وخبرٌ. وقولُه تعالَى: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} حالٌ عاملُها معنى الإشارةِ وقيلَ: هو الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ أو عطفُ بيانٍ {بالحق} حالٌ من فاعلِ نتلُو ومن مفعولِه أي نتلُوها مُحِقينَ أو ملتبسةً بالحقِّ {فَبِأَىّ حَدِيثٍ} من الأحاديثِ {بَعْدَ الله وءاياته} أي بعد آياتِ الله، وتقديمُ الاسمِ الجليلِ لتعظيمِها، كَما في قولِهم: أعجبنِي زيدٌ وكرمُه، أو بعدَ حديثِ الله الذي هُو القرآنُ حسبما نطقَ به قولُه تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} وهو المرادُ بآياتِه أيضاً ومناطُ العطفِ التغايرُ العُنوانِي. {يُؤْمِنُونَ} بصيغةِ الغَيبةِ وقرئ بالتاءِ. {وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ} كذابٍ {أَثِيمٍ} كثيرِ الآثامِ. {يَسْمَعُ ءايات الله} صفةٌ أخرى لأفَّاكٍ وقيلَ: حالٌ من الضميرِ في أثيمٍ. {تتلى عَلَيْهِ} حالٌ من آياتِ الله ولا مساغَ لجعلِه مفعولاً ثانياً ليسمعُ، لأنَّ شرطَهُ أنْ يكونَ ما بعَدهُ ممَّا لا يُسمعُ كقولِكَ سمعتُ زيداً يقرأُ. {ثُمَّ يُصِرُّ} أي يقيمُ على كُفره. وأصلُه من إصرارِ الحمارِ على العانة. {مُسْتَكْبِراً} عن الإيمانِ بما سمعهُ من آياتِ الله تعالى والإذعانِ لما تنطقُ بهِ من الحقِّ مُزدرياً لها مُعجَباً بما عندَهُ من الأباطيلِ. وقيلَ: نزلتْ في النَّضرِ بنِ الحارثِ وكان يشترِي من أحاديثِ الأعاجمِ ويشغلُ بها النَّاسَ عن استماعِ القُرآنِ، لكنَّها وردتْ بعبارةٍ عامةٍ ناعية عليهِ وعلى كلِّ من يسيرُ سيرتَهُ ما هم فيه من الشرِّ والفسادِ. وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإصرارِ والاستكبارِ بعد سماعِ الآياتِ التي حقُّها أنْ تُذعنَ لها القلوبُ وتخضعَ لها الرقابُ كَما في قولِ مَنْ قالَ:
يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثمَّ يزورُهَا

{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي كأنَّه لم يسمعْهَا فخففَ وحُذفَ ضميرَ الشأنِ. والجملةُ حالٌ من يُصرُّ أي يصرُّ شبيهاً بغيرِ السامعِ. {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} على إصرارِه واستكبارِه.

.تفسير الآيات (9- 11):

{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً} أي إذا بلغَهُ من آياتِنا شيءٌ وعلم أنَّه من آياتِنا لا أنه علمهُ كما هُو عليهِ فإنَّه بمعزلٍ عن ذلك العلمِ، وقيلَ: إذا علم منها شيئاً يمكنُ أنْ يتشبثَ به المعاندُ ويجدَ له محملاً فاسداً يتوصلُ به إلى الطعنِ والغميزةِ {اتخذها} أي الآياتِ كلَّها {هُزُواً} أي مَهْزُوءاً بَها لا ما سمَعهُ فقطْ، وقيلَ: الضميرُ للشيءِ، والتأنيثُ لأنَّه في معنى الآيةِ. {أولئك} إشارةٌ إلى كلِّ أفاكٍ من حيثُ الاتصافُ بما ذُكرَ من القبائِحِ، والجمعُ باعتبارِ الشمولِ للكلِّ كما في قولِه تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ من الضمائرِ باعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ. {لَهُمْ} بسببِ جناياتِهم المذكورةِ {عَذَابٌ مُّهِينٌ} وصفٌ العذابِ بالإهانةِ توفيةً لحقِّ استكبارِهم واستهزائِهم بآياتِ الله سبحانه وتعالى. {مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أي من قُدامِهم لأنهم متوجهونَ إلى ما أُعدَّ لهُم، أو من خلفِهم لأنهم معرضونَ عن ذلكَ مقبلونَ على الدُّنيا فإن الوراءَ اسمٌ للجهةِ التي يُواريها الشخصُ من خلفٍ وقُدامٍ. {وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفعُ {مَّا كَسَبُواْ} من الأموالِ والأولادِ {شَيْئاً} من عذابِ الله تعالى أو شيئاً من الإغناءِ {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي الأصنامَ، وتوسيطُ حرفِ النفي بينِ المعطوفينِ مع أنَّ عدمَ إغناءِ الأصنامِ أظهرُ وأجلى من عدمِ إغناءِ الأموالِ والأولادِ قطعاً مبنيٌّ على زعمِهم الفاسدِ حيثُ كانُوا يطمعونَ في شفاعتِهم وفيه تهكمٌ. {وَلَهُمْ} فيما وراءَهُم من جهنمَ {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يُقادرُ قدرُه.
{هذا} أي القرآنُ {هُدًى} في غايةِ الكمالِ من الهدايةِ كأنَّه نفسُها {والذين كَفَرُواْ} أي بالقرآنِ وإنما وضعَ موضعَ ضميرِه في قوله تعالى: {بآيات رَبّهِمْ} لزيادةِ تشنيعِ كفرِهم به وتفظيعِ حالِهم {لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ} أي من أشدِّ العذابِ {أَلِيمٌ} بالرفعِ صفةُ عذابٌ، وقرئ بالجرِّ على أنَّه صفة رجزٍ، وتنوينُ عذابٌ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ، ورفعُه إما على الابتداء وإما على الفاعلية.

.تفسير الآيات (12- 14):

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}
{الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} بأنْ جعلَه أملسَ السطحِ يطفُو عليهِ ما يتخللُ كالأخشابٍ ولا يمنعُ الغوضَ والخرقَ لمَيَعانه. {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} وأنتم راكبوها {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارةِ والغوصِ والصيدِ وغيرِها {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكيْ تشكرُوا النعَم المترتبةَ على ذلكَ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي والأرض} من الموجوداتِ بأنْ جعلَها مداراً لمنافعِكم {جَمِيعاً} إما حالٌ مِنْ ما في السمواتِ والأرضِ، أو توكيدٌ له {مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لجميعاً أو حالٌ منْ مَا، أيْ جميعاً كائناً منْهُ تعالَى، أو سخَّر لكُم هذهِ الأشياءَ كائنةً منه مخلوقةً له تعالى أو خبرٌ لمحذوفٍ أيْ هي جميعاً منْهُ تعالَى. وقرئ منه عَلى المفعولِ لَهُ ومنه على أنه فاعلُ سخَّر على الإسنادِ المجازيِّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ منْهُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذُكِرَ من الأمورِ العظامِ {لأَيَاتٍ} عظيمةَ الشأنِ كثيرةَ العددِ {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائعِ صُنْعِ الله تعالى فإنَّهم يقفونَ بذلكَ على جلائلِ نعمهِ تعالى ودقائِقها ويوفقونَ لشكرِها.
{قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} حُذفَ المقولُ لدلالةِ {يَغْفِرُواْ} عليهِ فإنَّه جوابٌ للأمرِ باعتبارِ تعلقهِ به لا باعتبارِ نفسِه فقطْ أي قُلْ لهم اغفِروا يغفروا. {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي يعفُوا ويصفحوا عنِ الذينَ لا يتوقعونَ وقائعَهُ تعالى بأعدائِه من قولِهم أيامُ العربِ لوقائِعها، وقيلَ: لا يأملون الأوقاتَ التي وقَّتها الله تعالى لثوابِ المؤمنينَ ووعدهم الفوزَ فيها. قيلَ: نزلتْ قبلَ آيةِ القتالِ ثمَّ نُسختْ بها، وقيلَ: نزلتْ في عمرَ رضيَ الله عنه حينَ شتمَهُ غفاريٌّ فهَّم أنْ يبطشَ بهِ، وقيلَ: حينَ قالَ ابنُ أُبيِّ ما قالَ، وذلكَ أنَّهم نزلُوا في غزوةِ بني المصطلِقِ على بئرٍ يقالُ لها المرُ يْسِيْعُ فأرسلَ ابنُ أُبيَ غلامَهُ يستَقي فأبطأَ عليهِ فلمَّا أتاهُ قالَ له: ما حبسكَ؟ قال: غلامُ عمرَ قعدَ على طرفِ البئرِ فما تركَ أحداً يستَقي حتى ملأَ قُرَبَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقُرَبَ أبي بكرٍ، فقالَ ابنُ أُبيَ: ما مثلُنا ومثلُ هؤلاءِ إلا كَما قيلَ: سمِّنْ كلْبكَ يأكلْكَ فبلغَ ذلكَ عمرَ رضيَ الله عنه فاشتملَ سيفَهُ يريدُ التوجَه إليهِ فأنزلَها الله تعالَى.
{لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} تعليلٌ للأمرِ بالمغفرةِ، والمرادُ بالقومِ المؤمنونَ والتنكيرِ لمدحِهم والثناءِ عليهم، أي أُمروا بذلكَ ليجزيَ يومَ القيامةِ قوماً أيَّما قومٍ قوماً مخصوصينَ بما كسبوا في الدُّنيا من الأعمالِ الحسنةِ التي من جُملتها الصبرُ على أذيةِ الكفارِ والإغضاءُ عنهم بكظمِ الغيظِ واحتمالِ المكروهِ ما يقصرُ عنه البيانُ من الثوابِ العظيمِ. هذا وقد جُوِّزَ أنْ يرادَ بالقومِ الكفرةُ وبما كانُوا يكسبونَ سيئاتُهم التي من جُملتها ما حُكِيَ من الكلمةِ الخبيثةِ، والتنكيرُ للتحقيرِ، وفيهِ أنَّ مطلقَ الجزاءِ لا يصلحُ تعليلاً للأمرِ بالمغفرةِ لتحققِه على تقديريْ المغفرةِ وعدمِها فلابد من تخصيصِه بالكلِّ بأنْ لا يتحققَ بعضٌ منه في الدُّنيا أو بما يصدرُ عنه تعالى بالذاتِ وفي ذلكَ من التكلفِ ما لا يخفِى وأنْ يرادَ كلا الفريقينِ وهو أكثرُ تكلفاً وأشدُّ تمحلاً. وقرئ: {ليُجْزَى قومٌ} و{ليُجْزَى قوماً} أي ليُجْزَى الجزاءُ قوماً، وقرئ: {لنَجْزِي} بنونِ العظمةِ.

.تفسير الآيات (15- 20):

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} لا يكادُ يسري عملٌ إلى غيرِ عاملِه. {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ} مالكِ أمورِكم {تُرْجَعُونَ} فيجازيكُم على أعمالِكم خيراً كانَ أو شراً {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب} أي التوراةَ {والحكم} أي الحكمةَ النظريةَ والعمليةَ والفقهَ في الدِّينِ أو فصلَ الخصومات بينَ النَّاسِ إذْ كانَ الملكُ فيهم. {والنبوة} حيثُ كثُرَ فيهم الأنبياءُ ما لم يكثرْ في غيرِهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} مما أحلَّ الله تعالى من اللذائذِ كالمنِّ والسلوى {وفضلناهم عَلَى العالمين} حيث آتيناهُم ما لم نؤتِ من عَداهُم من فلقِ البحرِ وإظلالِ الغمامِ ونظائرِهما وقيلَ: على عالَمِي زمانِهم {وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر} دلائلَ ظاهرةً في أمرِ الدينِ ومعجزاتٍ قاهرةً وقال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما هو العلمُ بمبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما بين لهُم من أمرِه وأنَّه يُهاجرُ من تِهامةَ إلى يثربَ ويكونُ أنصارُه أهلَ يثربَ. {فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمرِ {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقتِه وحقِّيتهِ فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي عداوةً وحسداً لا شكاً فيه {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} بالمُؤاخذةِ والجَزَاءِ {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أَمْرِ الدِّينِ.
{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} أي سنةٍ وطريقةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ {مِنَ الأمر} أي أمرِ الدينِ {فاتبعها} بإجراءِ أحكامِها في نفسِك وفي غيرِك من غيرِ إخلالِ بشيءٍ منَها {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي آراءَ الجهلةِ واعتقاداتِهم الزائغةَ التابعةَ للشهواتِ وهم رؤساءُ قريشٍ كانُوا يقولونَ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ارجعْ إلى دينِ آبائِك {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} مما أرادَ بكَ إن اتبعتَهُم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} لا يوُاليهم ولا يتبعُ أهواءَهُم إلا من كانَ ظالماً مثلَهم {والله وَلِىُّ المتقين} الذين أنتَ قدوتُهم فدُمْ على ما أنتَ عليهِ من تولّيه خَاصَّة والإعراضِ عمَّا سواهُ بالكُلِّيةِ. {هذا} أي القرآنُ أو اتباعُ الشريعةِ {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} فإنَّ ما فيهِ من معالمِ الدينِ وشعائرِ الشرائعِ بمنزلةِ البصائرِ في القلوبِ {وهدى} منْ ورطةِ الضلالةِ {وَرَحْمَةً} عظيمةٌ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} منْ شأنِهم الإيقانُ بالأمورِ.

.تفسير الآيات (21- 22):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)}
{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ تباينِ حالَيْ المسيئينَ والمحسنين إثرَ تباينِ حالَيْ الظالمينَ والمتقينَ. وأَمْ منقطعةٌ وما فيها مِنْ مَعْنى بَلْ للانتقالِ من البيانِ الأولِ إلى الثَّانِي. والهمزةُ لإنكارِ الحُسبانِ لكنْ لا بطريقِ إنكارِ الوقوعِ ونفيهِ كَما في قولِه تعالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} بل بطريقِ إنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتوبيخِ عليه، والاجتراحُ الاكتسابُ {أَن نَّجْعَلَهُمْ} أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم على ما هُم عليهِ منْ مَسَاوِي الأحوالِ.
{كالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وهُم فيمَا هُم فيهِ من محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامةِ ورفعِ الدرجةِ. وقولُه تعالَى: {سَوَاء محياهم ومماتهم} أيْ محيَا الفريقينِ جميعاً ومماتُهم. حالٌ من الضميرِ في الظرفِ والموصولِ معاً لاشتمالِه على ضميريِهما على أنَّ السواءَ بمَعْنى المُستوى، ومحياهُم ومماتُهم مرتفعانِ بهِ على الفاعليةِ. والمعَنْى أمْ حسبُوا أنْ نجعلَهم كائنينَ مثلَهمُ حالَ كونِ الكُلِّ مستوياً محياهُم ومماتُهم، كلاَّ لا يستوونَ في شيءٍ منهُمَا فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالَى ورضوانِه في المماتِ وأولئكَ في ذُلِّ الكُفرِ والمَعَاصِي وهوانِهما في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ شتانَ بينهما. وقد قيلَ: المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما استَووا في الحياةِ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستوٍ محياهُم في الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقونَ في المماتِ. وَقرئ: {محياهم ومماتَهم} بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ، وسواءً حالٌ على حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم وقد ذُكرَ في الآيةِ الكريمةِ وجوُهُ أُخرُ من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالةِ التنزيلِ هُو الأولُ فتدبرْ. وقرئ: {سواءٌ} بالرفعِ على أنَّه خبرٌ ومحياهُم مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل: حالٌ وأيَّا ما كانَ فنسبةُ حسبانِ التَّساوي إليهم في ضمنِ الإنكارِ التوبيخيِّ مع أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم على المؤمنينَ للبمالغةِ في الإنكارِ والتشديدِ في التوبيخِ فإنَّ إنكارَ حسبانِ التَّساوِي والتوبيخِ عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه. {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساءَ حكمُهم هَذا أو بئسَ شيئاً حكموا به ذلكَ. {وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} استئنافٌ مقررٌ لما سبقَ من الحكمِ فإنَّ خلقَ الله تعالى لَهُما وَلِما فيهما بالحقِّ المُقتضِي للعدلِ يستدعِي لا محالةَ تفصيلَ المُحْسنِ على المُسيءِ في المَحْيا والمَمَاتِ وانتصارَ المظلومِ من الظالمِ وإذَا لم يطّردْ ذلك في المَحيا فهُو بعد المماتِ حَتْماً {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عطفٌ عَلى بالحقِّ لأنَّ فيهِ مَعْنى التعليلِ إذْ معناهُ خلَقَها مقرونةً بالحكمةِ والصوابِ دُونَ العبثِ والباطلِ فحاصلُه خلقَها لأجلِ ذلكَ ولتُجزَى إلخ أو على علةٍ محذوفةٍ مثلُ ليدلَّ بَها على قدرتِه أو ليعدل ولتُجزى {وَهُمْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكلِّ نفسٍ {لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أو بزيادةِ عقابٍ، وتسميةُ ذلكَ ظُلماً معَ أنَّه ليسَ كذلكَ على ما عُرفَ من قاعدةِ أهلِ السنةِ لبيانِ غايةِ تنزهِ ساحةِ لُطفهِ تعالى عمَّا ذُكرَ تنزيلُه منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى.