فصل: تفسير الآيات (166- 168):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (166- 168):

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)}
{لكن الله يَشْهَدُ} بتخفيف النون ورفع الجلالة، وقرئ بتشديد النونِ ونصبِ الجلالةِ، وهو استدراك عما يُفهم مما قبله كأنهم لما تعنّتوا عليه بما سبق من السؤال واحتَجّ عليهم بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا} الخ، قيل: إنهم لا يشهدون بذلك لكنَّ الله يشهد {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} على البناء للفاعل، وقرئ على البناء للمفعولِ والباءُ صلةٌ للشهادة أي يشهد بحقية ما أنزل إليك من القرآن المعجزِ الناطِقِ بنبوتك، وقيل: لما نزل قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قالوا: ما نشهد لك بذلك فنزل لكنِ الله يشهد.
{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي ملتبساً بعلمه الخاصِّ الذي لا يعلمه غيرُه وهو تأليفُه على نمط بديعٍ يَعجِز عنه كلُّ بليغٍ، أو بعلمه بحال مَنْ أنزله عليه واستعدادِه لاقتباس الأنوارِ القدسية، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناسُ في معاشهم ومعادِهم، فالجارُّ والمجرورُ على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث من المفعولِ، والجملةُ في موقع التفسيرِ لما قبلها وقرئ {نزّله}، وقولُه تعالى: {والملئكة يَشْهَدُونَ} أي بذلك، مبتدأٌ وخبرٌ والجملةُ عطفٌ على ما قبلها، وقيل: حالٌ من مفعول أنزله، أي أنزله والملائكةُ يشهدون بصدقه وحقِّيتِه {وكفى بالله شَهِيداً} على صحة نُبوّتِك حيث نصَبَ لها معجزاتٍ باهرةً وحججاً ظاهرةً مغْنيةً عن الاستشهاد بغيرها.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما أنزل الله تعالى وشهِد به أو بكل ما يجب الإيمانُ به وهو داخلٌ فيه دخولاً أولياً، والمرادُ بهم اليهودُ حيث كفروا به {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} وهو دينُ الإسلام مَنْ أراد سلوكَه بقولهم: ما نعرِف صفةَ محمدٍ في كتابنا، وقرئ {صُدُّوا} مبنياً للمفعول {قَدْ ضَلُّواْ} بما فعلوا من الكفر والصدِّ عن طريق الحق {ضلالا بَعِيداً} لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلالِ ولأن المُضِل يكون أعرقَ في الضلال وأبعدَ من الإقلاع عنه.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما ذكر آنفاً {وَظَلَمُواْ} أي محمداً صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوّتِه وكتمانِ نعوتِه الجليلةِ ووضعِ غيرِها مكانَها، أو الناسَ بصدهم عما فيه صلاحُهم في المعاش والمعاد {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لاستحالة تعلّقِ المغفرةِ بالكافر {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً}.

.تفسير الآيات (169- 170):

{إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}
{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} لعدم استعدادِهم للهداية إلى الحق والأعمالِ الصالحةِ التي هي طريقُ الجنةِ، والمرادُ بالهداية المفهومةِ من الاستثناء بطريق الإشارةِ خلقُه تعالى لأعمالهم السيئة المؤديةِ بهم إلى جهنمَ عند صرفِ قدرتِهم واختيارِهم إلى اكتسابها، أو سوقُهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكةِ والطريقُ على عمومه، والاستثناءُ متصل، وقيل: خاصٌّ بطريق الحقِّ والاستثناءُ منقطع {خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المنصوب والعاملُ فيها ما دل عليه الاستثناءُ دلالةً واضحةً كأنه قيل: يُدخلهم جهنمَ خالدين فيها الخ، وقوله تعالى: {أَبَدًا} نصبٌ على الظرفية رافعٌ لاحتمال حملِ الخلودِ على المكث الطويل {وَكَانَ ذلك} أي جعلهم خالدين في جهنم {عَلَى الله يَسِيراً} لاستحالة أن يتعذّر عليه شيءٌ من مراداته تعالى.
{يأَيُّهَا الناس} بعد ما حكَى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعللَ اليهودِ بالأباطيل واقتراحَهم الباطلَ تعنتاً وردّ عليهم ذلك بتحقيق نبوتِه عليه الصلاة والسلام وتقريرِ رسالتِه ببيان أن شأنَه عليه الصلاة والسلام في أمر الوحي والإرسالِ كشؤون من يعترفون بنبوته من مشاهير الأنبياءِ عليهم السلام وأكد ذلك بشهادته سبحانه وشهادةِ الملائكة أمرَ المكلّفين كافةً على طريق تلوينِ الخطابِ بالإيمان بذلك أمراً مشفوعاً بالوعد بالإجابة، والوعيدِ على الرد تنبيهاً على أن الحجةَ قد لزِمَت ولم يبقَ بعد ذلك لأحد عذرٌ في عدم القَبول، وقولُه عز وجل: {قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ} تكريرٌ للشهادة وتقريرٌ لحقية المشهودِ به وتمهيدٌ لما يعقُبه من الأمر بالإيمانِ، وإيرادُه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ لتأكيد وجوبِ طاعتِه، والمرادُ بالحق هو القرآنُ الكريمُ، والباء متعلقةٌ بجاءكم فهي للتعدية أو بمحذوف وقع حالاً من الرسول أي ملتبساً بالحق، ومِنْ أيضاً متعلقةٌ إما بالفعل وإما بمحذوف هو حالٌ من الحق، أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائناً من عنده تعالى، والتعرُّضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغِهم إلى كمالهم اللائقِ بهم ترغيباً لهم في الامتثال بما بعده من الأمر، والفاء في قوله عز وجل: {فَآمِنُواْ} للدِلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها أي فآمنوا به وبما جاء به من الحق، وقولُه تعالى: {خَيْراً لَّكُمْ} منصوبٌ على أنه مفعولٌ لفعل واجبِ الإضمار كما هو رأيُ الخليل وسيبويهِ، أي اقصِدوا أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر، أو على أنه نعت لمصدر محذوف كما هو رأي الفراء أي آمنوا إيماناً خيراً لكم أو على أنه خبر كان المضمرةِ الواقعةِ جواباً للأمر لا جزاءً للشرط الصناعيّ وهو رأيُ الكسائي وأبي عبيدةَ أي يكنِ الإيمانُ خيراً لكم {وَإِن تَكْفُرُواْ} أي أن تُصِرُّوا وتستمروا على الكفر به {فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات والارض} من الموجودات سواء كانت داخلةً في حقيقتهما وبذلك يُعلم حالُ أنفسِهما على أبلغ وجهٍ وآكَدِه أو خارجةً عنهما مستقرةً فيهما من العقلاء وغيرِهم فيدخلُ في جملتهم المخاطَبون دخولاً أولياً، أي كلُّها له عز وجل خلقاً ومُلكاً وتصرفاً لا يخرُج من ملكوته وقهرِه شيءٌ منها.
فمَنْ هذا شأنُه فهو قادرٌ على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غنيٌّ عنكم وعن غيركم لا يتضرّر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم، وقيل: فمَنْ كان كذلك فله عبيدٌ يعبُدونه وينقادون لأمره {وَكَانَ الله عَلِيماً} مبالِغاً في العلم فهو عالمٌ بأحوال الكلِّ فيدخُل في ذلك علمُه تعالى بكفرهم دخولاً أولياً {حَكِيماً} مراعياً للحِكمة في جميع أفعالِه التي من جملتها تعذيبُه تعالى إياهم بكفرهم.

.تفسير الآية رقم (171):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}
{ياْ أَهْلِ الكتاب} تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالنصارى زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والضلال {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} بالإفراط في رفع شأنِ عيسى عليه السلام وادعاءِ ألوهيتِه، وأما غلوُّ اليهودِ في حط رتبتِه عليه السلام ورميِهم له بأنه وُلد لغير رَشْدةٍ فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أي لا تصِفوه بما يستحيل اتصافُه به من الحلول والاتحادِ واتخاذِ الصاحبةِ والولدِ، بل نزّهوه عن جميع ذلك {إِنَّمَا المسيح} قد مر تفسيرُه في سورة آلِ عمرانَ، وقرئ بكسر الميم وتشديد السين كالسِّكّيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأٌ، وقوله تعالى: {عِيسَى} بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له، وقولُه تعالى: {ابن مَرْيَمَ} صفةٌ له مفيدةٌ لبطلان ما وصفوه عليه السلام به من بُنوَّته لله تعالى، وقوله تعالى: {رَسُولِ الله} خبرٌ للمبتدأ، والجملةُ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل النهي عن القول الباطلِ المستلزِم للأمر بضده، أعني الحقَّ، أي إنه مقصورٌ على رتبة الرسالةِ لا يتخطاها {وَكَلِمَتُهُ} عطف على رسولُ الله أي مُكوَّن بكلمته وأمرِه الذي هو كنْ من غير واسطةِ أبٍ ولا نطفة {ألقاها إلى مَرْيَمَ} أي أوصلها إليها وجعلها فيها بنفخ جبريلَ عليه السلام، وقيل: أعلمها إياها وأخبرَها بها بطريق البِشارةِ وذلك قولُه تعالى: {إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} وقيل: الجملةُ حالٌ من ضميره عليه السلام المستكنِّ فيما دل عليه وكلمتُه من معنى المشتق الذي هو العاملُ فيها وقد مقدَّرة معها.
{وَرُوحٌ مّنْهُ} قيل: هو الذي نفخ جبريلُ عليه السلام في دِرْع مريم فحملت بإذن الله تعالى، سُمِّي النفخُ روحاً لأنه ريحٌ تخرج من الروح، ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً لا تبعيضية كما زعمت النصارى. يُحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً للرشيد ناظر عليَّ بنَ حسين الواقديَّ المَرْوِذيَّ ذاتَ يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدلُّ على أن عيسى عليه السلام جزءٌ منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقديُّ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات والارض جَمِيعاً مّنْهُ} فقال: إذن يلزم أن يكونَ جميعُ تلك الأشياءِ جزءاً منه، تعالى علواً كبيراً، فانقطع النصرانيُّ فأسلم وفرِح الرشيدُ فرحاً شديداً، ووصل الواقديَّ بصلة فاخرة. وهي متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لروح أي كائنةٌ من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريلَ عليه السلام لكون النفخِ بأمره سبحانه، وقيل: سُمِّي روحاً لإحيائه الأمواتَ، وقيل: لإحيائه القلوبَ، كما سمي به القرآنُ لذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} وقيل: أريد بالروح الوحيُ الذي أُوحيَ إلى مريمَ بالبشارة، وقيل: جرت العادةُ بأنهم إذا أرادوا وصفَ شيءٍ بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روحٌ، فلما كان عيسى عليه السلام متكوِّناً من النفخ لا من النطفة وُصِف بالروح، وتقديمُ كونِه عليه السلام رسولَ الله في الذكر من تأخّره عن كونه كلمتَه تعالى وروحاً منه في الوجود لتحقيق الحقِّ من أول الأمرِ بما هو نصٌّ فيه غيرُ محتملٍ للتأويل، وتعيينُ مآلِ ما يحتمله وسدِّ بابِ التأويلِ الزائغ.
{فآمِنُوا باللهِ} وخُصّوه بالألوهية {وَرُسُلِهِ} أجمعين وصِفوهم بالرسالة ولا تُخرجوا بعضَهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة} أي الألهةُ ثلاثةٌ: الله والمسيحُ ومريمُ كما ينبىء عنه قوله تعالى: {قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ} أو الله ثلاثةٌ إن صح أنهم يقولون: الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ: أقنومُ الأبِ وأقنومُ الابنِ وأُقنومُ روحِ القدس، وأنهم يريدون بالأول الذاتَ، وقيل: الوجودَ وبالثاني العلمَ وبالثالث الحياةَ {انتهوا} أي عن التثليث {خَيْراً لَّكُمْ} قد مر وجوهُ انتصابِه {إِنَّمَا الله إله واحد} أي بالذات مُنزَّه عن التعدد بوجهٍ من الوجوه، فالله مبتدأٌ وإله خبرُه وواحدٌ نعتٌ أي منفردٌ في ألوهيته {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي أسبّحه تسبيحاً من أن يكون له ولد أو سبِّحوه تسبيحاً من ذلك فإنه إنما يُتصوَّر فيمن يماثله شيءٌ ويتطرق إليه فناء، والله سبحانه منزّه عن أمثاله، وقرئ {إنْ يكونُ} أي سبحانه ما يكون له ولد، وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل التنزيهِ وتقريرِه، أي له ما فيهما من الموجودات خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يخرُج عن ملكوته شيءٌ من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يُتوَّهم كونُه ولداً له تعالى؟ {وكفى بالله وَكِيلاً} إليه يكِلُ الخلقُ أمورَهم وهو غني عن العالمين فأنى يُتصوَّر في حقه اتخاذُ الولدِ الذي هو شأنُ العَجَزة المحتاجين في تدبير أمورِهم إلى من يَخلُفهم ويقوم مقامهم.

.تفسير الآية رقم (172):

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)}
{لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} استئنافٌ مقررٌ لما سبق من التنزيه، والاستنكافُ الأنَفةُ والترفعُ من نكفتَ الدمعَ إذا نحيتَه عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن يترفع {أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} أي عن أن يكون عبداً له تعالى مستمراً على عبادته وطاعتِه حسبما هو وظيفةُ العبودية، كيف وإن ذلك أقصى مراتبِ الشرفِ، والاقتصارُ على ذكر عدمِ استنكافِه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاةُ به كما يدل عليه أحوالُه ويُفصِحُ عنه أقوالُه، ألا يُرى أن أولَ مقالةٍ قالها للناس قولُه: {قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ الكتاب وَجَعَلَنِى} لوقوعه في موقع الجوابِ عما قاله الكفرة. روي «أن وفد نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ تَعيبُ صاحبَنا، قال: ومن صاحبُكم؟ قالوا: عيسى، قال: وأيُّ شيء أقول؟ قالوا: تقول له عبدُ الله، قال: إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله، قالوا: بلى فنزلت»، وهو السرُّ في جعل المستنكَفِ عنه كونَه عليه السلام عبداً له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحوُ ذلك مع إفادة فائدةٍ جليلةٍ هي كمالُ نزاهتِه عليه السلام عن الاستنكافِ بالكلية فإن كونَه عبداً له تعالى حالةٌ مستمرةٌ مستتبِعةٌ لدوام العبادةِ قطعاً، فعدمُ الاستنكافِ عنه مستلزِمٌ لعدم الاستنكافِ عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادتِه تعالى فإنها حالةٌ متجدِّدة غيرُ مستلزِمةٍ للدوام يكفي في اتّصاف موصوفِها بما يُحققها مرةً، فعدمُ الاستنكافِ عنها لا يستلزِمُ عدمَ الاستنكافِ عن دوامها.
{وَلاَ الملئكة المقربون} عطفٌ على المسيح أي ولا يستنكف الملائكةُ المقربون أن يكونوا عبيداً لله تعالى، وقيل: أن أريد بالملائكة كلُّ واحد منهم لم يُحتَجْ إلى التقدير، واحتَجّ بالآية من زعم فضلَ الملائكةِ على الأنبياء عليهم السلام وقال: مَساقُه لرد النصارى في رفع المسيحِ عن مقام العبوديةِ، وذلك يقتضي أن يكون المعطوفُ أعلى درجةً من المعطوف عليه حتى يكون عدمُ استنكافِهم مستلزماً لعدم استنكافِه عليه السلام، وأجيب بأن مناطَ كفرِ النصارى ورفعِهم له عليه السلام عن رتبة العبوديةِ لمّا كان اختصاصُه عليه السلام وامتيازُه عن سائر أفرادِ البشرِ بالولادة من غير أبٍ وبالعلم بالمُغيِّبات وبالرفع إلى السماء عُطف على عدم استنكافِه عن عبوديته تعالى عدمُ استنكافِ مَنْ هو أعلى درجةً منه فيما ذكر، فإن الملائكةَ مخلوقون من غير أبٍ ولا أمَ، وعالمون بما لا يعلمه البشرُ من المغيبات، ومَقارُّهم السمواتُ العلا، ولا نزاعَ لأحد في علو درجتِهم من هذه الحيثيةِ وإنما النزاعُ في علوّها من حيث كثرةُ الثوابِ على الطاعات، وبأن الآيةَ ليست للرد على النصارى فقط بل على عبَدة الملائكةِ أيضاً فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإنْ سَلِم اختصاصُها بالرد على النصارى فلعله أُريد بالعطف المبالغةُ باعتبار التكثيرِ والتفصيلِ لا باعتبار التكبيرِ والتفضيلِ، كما في قولك: أصبح الأميرُ لا يخالفه رئيسٌ ولا مرؤوسٌ، ولئن سُلّم إرادةُ التفضيلِ فغايةُ الأمرِ الدلالةُ على أفضلية المقربين منهم، وهم الكروبيون الذين حول العرشِ أو من هو أعلى منهم رتبةً من الملائكة عليهم السلام على المسيح من الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فصلُ أحدِ الجنسين على الآخر مطلقاً، وهل التشاجرُ إلا فيه؟ {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي عن طاعته فيشمل جميعَ الكفرةِ لعدم طاعتِهم له تعالى مما لا سبيلَ لهم إلى إنكار اتصلفِهم به.
إن قيل: لم عبّر عن عدم طاعتِهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكارِ كونِ الأمرِ من جهته تعالى لا بطريق الاستنكافِ، قلنا: لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهل هو إلا استنكافٌ عن طاعة الله تعالى؟ إذ لا أمرَ له عليه الصلاة والسلام سوى أمرِه تعالى {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} {وَيَسْتَكْبِرْ} الاستكبارُ الأنَفةُ عما لا ينبغي أن يُؤنَفَ عنه وأصلُه طلبُ الكِبْر لنفسه بغير استحقاقٍ له لا بمعنى طلب تحصيلِه مع اعتقاد عدمِ حصولِه فيه بل بمعنى عدِّ نفسِه كبيراً واعتقادِه كذلك، وإنما عبّر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآلَه محضُ الطلبِ بدون حصولِ المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلب في قوله تعالى: {يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوتَ العِوِجِ لسبيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدّونها ويعتقدونها مُعْوجّةً ويحكمون بذلك ولكن عبّر عن ذلك بالطلب لِما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيءٌ سوى الطلبِ والاستكبارِ دون الاستنكافِ المنبىءِ عن توهم لُحوقِ العارِ والنقصِ من المستنكَفِ عنه.
{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي المستنكِفين ومقابليهم المدلولَ عليهم، ذُكر عدمُ استنكافِ المسيحِ والملائكةِ عليهم السلام، وقد تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في المفصل تعويلاً على إنباء التفصيلِ عنه وثقةً بظهور اقتضاءِ حشرِ أحدِهما لحشر الآخرِ ضرورةَ عمومِ الحشرِ للخلائق كافةً، كما تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله} الآية، مع عموم الخطابِ لهما اعتماداً على ظهور اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر ضرورةَ شمولِ الجزاءِ للكل، وقيل: الضميرُ للمستنكِفين وهناك مقدَّرٌ معطوفٌ عليه، والتقديرُ فسيحشرهم إليه يوم يحشرُ العبادَ لمجازاتهم، وفيه أن الأنسبَ بالتفصيلِ الآتي اعتبارُ حشرِ الكلِّ في الإجمال على نهج واحدٍ، وقرئ {فسِيحشُرهم} بكسسر السين وهي لغة وقرئ {فسنحشرهم} بنون العظمةِ بطريق الالتفات.