فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (3):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} شروعٌ في بيان المُحرَّمات التي أشير إليها بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} والميتة ما فارقه الروحُ من غير ذبح {والدم} أي المسفوحُ منه لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} وكان أهلُ الجاهلية يصُبّونه في الأمعاء ويشْوونه، ويقولون: لم يُحرَّمْ مِنْ فَزْدٍ له أي من فصْدٍ له {وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفعُ الصوت لغير الله عند ذبحِه، كقولهم: باسم اللات والعزى {والمنخنقة} أي التي ماتت بالخنق {والموقوذة} أي التي قُتلت بالضرب بالخشب ونحوِه، مِنْ وَقَذْتُه إذا ضربته {والمتردية} أي التي تردّت مِنْ علوَ أو إلى بئرٍ فماتت {والنطيحة} أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح، والتاء للنقل، وقرئ {والمنطوحة} {وَمَا أَكَلَ السبع} أي وما أكل منه السبُعُ فمات وقرئ بسكون الباء، وقرئ و{أكيلُ السبع}، وفيه دليلٌ على أن جوارحَ الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحِلّ {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} إلا ما أدركتم ذَكاتَه وفيه بقيةُ حياةٍ يضطرِبُ اضطرابَ المذبوح. وقيل: الاستثناء مخصوص بما أكل السبع.
والذَكاةُ في الشرع بقطع الحُلقومِ والمَرِيء بمُحدَّد {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قيل: هو مفردٌ، وقيل: جمع نِصاب، وقرئ بسكون الصاد، وأياً ما كان فهو واحد الأنصاب، وهي أحجار كانت منصوبةً حول البيت يَذبَحون عليها ويعدّون ذلك قُربة، وقيل: هي الأصنام {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام} جمع زَلَم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالقِداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة قداحٍ مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، وعلى الثالث غُفْل، فإن خرج الآمرُ مضَوا ذلك، وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه، وإن خرج الغافل أجالوها مرة أخرى، فمعنى الاستقسام طلبُ معرفةِ ما قُسِم لهم بالأزلام، وقيل: هو استقسامُ الجَزورِ بالأقداح على الأنْصِباء المعهودة {ذلكم} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بُعد منزلتِه في الشر {فِسْقٌ} تمرّدٌ وخروجٌ عن الحد ودخولٌ في علم الغيب، وضلال باعتقاد أنه طريق إليه، وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي، وشركٌ وجهالة إن كان هو الصنم، وقيل: ذلكم إشارةٌ إلى تناول المحرَّماتِ المعدودةِ لأن معنى تحريمها تحريمُ تناولِها.
{اليوم} اللام للعَهْد، والمراد به الزمان الحاضرُ وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية وقيل: يومُ نزولِها، وقد نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حَجةِ الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفاتٍ على العضباء، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت، وأياً ما كان فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى: {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} أي من إبطالِه ورُجوعِكم عنه بتحليل هذه الخبائِثِ أو غيرِها، أو مِنْ أن يغلِبوكم عليه لِمَا شاهدوا من أن الله عز وجل وفى بوعدِه حيث أظهره على الدين كلِّه وهو الأنسب بقوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي أنْ يظهرَوا عليكم {واخشون} أي وأخْلِصوا إليّ الخشية {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيفِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد.
وتقديمُ الجار والمجرور للإيذان من أول الأمرِ بأن الإكمالَ لمنفعتهم ومصلحتهم، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وعليكم في قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} متعلِّقٌ بأتممت لا بنعمتي لأن المصدرَ لا يتقدم عليه معمولُه، وتقديمه على المفعول الصريح لما مرّ مراتٍ، أي أتممتُها بفتح مكةَ ودخولِها آمنين ظاهرين، وهدمِ منارِ الجاهلية ومناسكِها والنهْيِ عن حجِّ المشرك وطوافِ العُرْيان، أو بإكمال الدينِ والشرائع، أو بالهداية والتوفيق، قيل: معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزتُ لكم وعدي بقولي: {وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} أي اخترتُه لكم من بين الأديان وهو الدينُ عند الله لا غيرُ. عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذْنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} الآية. قال عمر رضي الله تعالى عنه: قد عرفنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي أنزلت فيه على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قائم بعرفَةَ يومَ الجمعة، أشار رضي الله تعالى عنه إلى أن ذلك اليومَ عيدٌ لنا، ورُوي أنه «لما نزلت هذه الآيةُ بكى عمرُ رضي الله تعالى عنه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما يُبكيك يا عمر؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادةٍ من دينِنا، فإذا كَمَلَ فإنه لا يكملُ شيءٌ إلا نقَصَ، فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت فكانت هذه الآيةُ نعْيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما لبِثَ بعد ذلك إلا أحداً وثمانين يوماً».
{فَمَنِ اضطر} متصلٌ بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراضٌ بما يوجبُ أن يُجتنَبَ عنه، وهو أن تناوُلَها فسوقٌ، وحرمتُها من جملة الدينِ الكاملِ والنعمةِ التامةِ والإسلامِ المَرْضِيِّ، أي فمن اضطُر إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات {فِى مَخْمَصَة} أي في مجاعة يَخافُ معها الموتَ أو مبادِيَه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} قيل: غيرَ مائلٍ ومنحرفٍ إليه، بأن يأكُلَها تلذُّذاً أو مُجاوِزٍ حدَّ الرُّخصة أو ينتزِعَها من مضطرٍ آخَرَ كقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بذلك.

.تفسير الآية رقم (4):

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} شروع في تفصيل المحلَّلاتِ التي ذَكَر بعضَها على وجه الإجمال إِثْرَ بيانِ المحرمات كأنهم سألوا عنها عند بيان أضدادِها، ولِتَضَمُّنِ السؤال معنى القولِ أوقعُ على الجملة، ف {ماذا} مبتدأ و{أحل لهم} خبرُه، وضميرُ الغَيْبَة لِمَا أنّ يسألون بلفظ الغيبة فإنه كما يُعتبرُ حالُ المحكيِّ عنه فيقال: أقسمَ زيدٌ لأفعلَنّ، يُعتبرُ حالُ الحاكي، فيقال: أقسمَ زيدٌ ليفعَلَنّ، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي ما لم تستخبثْه الطّباعُ السليمة ولم تنفِرْ عنه كما في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطفٌ على الطيبات بتقدير المضاف على أن (ما) موصولٌ والعائد محذوف، أي وصيدُ ما علَّمتُموه، أو مبتدأ على أن (ما) شرطيةٌ والجوابُ فكلوا، وقد جوَّزَ كونَها مبتدأً على تقديرِ كونِها موصولةً أيضاً والخبرُ كلوا، وإنما دخلته الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط و{من الجوارح} حالٌ من الموصول أو ضميرِه المحذوف، والجوارحُ الكواسبُ من سباع البهائم والطير، وقيل: سميت بها لأنها تجرَحُ الصيدَ غالباً {مُكَلّبِينَ} أي معلِّمين لها الصيدَ والمكلِّبُ مؤدّبُ الجوارحِ ومُضْرِيها بالصيد، مشتقٌ من الكَلْب لأن التأديب كثيراً ما يقع فيه، أو لأن كلَّ سبُعٍ يسمى كَلْباً لقوله عليه الصلاة والسلام في حق عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ حين أراد سفرَ الشأم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلِّطْ عليه كلباً من كلابك» فأكلَه الأسد. وانتصابُه على الحالية من فاعلِ {علَّمتم} وفائدتُها المبالغةُ في التعليم لما أن اسم المكلّب لا يقع إلا على التحرير في علمِه. وقرئ {مُكْلِبين} بالتخفيف والمعنى واحد {تُعَلّمُونَهُنَّ} حال ثانية منه أو حالٌ من ضمير مكلِّبين أو استئناف {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من الحِيَل وطُرُق التعليم والتأديب، فإن العلمَ به إلهامٌ من الله تعالى أو مكتسَبٌ بالعقل الذي هو منحةٌ منه أو مما عرَّفَكم أن تعلموه من اتباعِ الصيدِ بإرسالِ صاحبِه وانزجارِه بزَجْرِه وانصرافِه بدعائه وإمساكِ الصيد عليه وعدمِ أكلِه منه {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} قد مر فيما سبق أن هذه الجملةَ على تقدير كونِ ما شرطيةً جوابُ الشرط، وعلى تقدير كونِها موصولةً مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرٌ لها، وأما على تقدير كونِها عطفاً على الطيبات فهي جُملةٌ متفرِّعةٌ على بيان حلِّ صيدِ الجوارح المُعْلَمة مبيِّنةٌ للمضاف المقدَّر الذي هو المعطوف، وبه يتعلق الإحلالُ حقيقةً، ومشيرةٌ إلى نتيجةِ التعليم وأثره، داخلةٌ تحت الأمر، فالفاء فيها كما في قوله:
أمرتُك الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به

ومِنْ تبعيضيةٌ لما أن البعضَ مما لا يتعلق به الأكلُ كالجلودِ والعظامِ والريش وغير ذلك، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ حذِفَ عائدُها و(على) متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسَكْنه عليكم وهو الذي لم يأكُلْن منه، وأما ما أكلن منه فهو مما أمسَكْنه على أنفسِهن لقوله عليه الصلاة والسلام لعديِّ بن حاتم:
«وإن أكل منه فلا تأكل، إنما أمْسَكَ على نفسِهِ» وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء.
وقال بعضُهم: لا يشترط عدمُ الأكل في سباعِ الطير لما أن تأديبَها إلى هذه الدرجة متعذِّر، وقال آخرون: لا يُشترط ذلك مطلقاً، وقد رُوي عن سَلمانَ وسعدِ بن أبي وقاص، وأبي هريرة، رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلبُ ثلثيه وبقيَ ثلثُه وقد ذكرتَ اسم الله عليه فكُل {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} الضميرُ لما عَلَّمتم أي سمُّوا عليه عند إرسالِه، أو لِما أمسكنه، أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاتَه {واتقوا الله} في شأن محرماته {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي سريعُ إتيانِ حسابه، أو سريعُ تمامِه، إذا شرَعَ فيه يتِمُّ في أقربِ ما يكون من الزمان، والمعنى على التقديرين أنه يؤاخِذُكم سريعاً في كل ما جل ودق، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وتعليلِ الحُكْم.

.تفسير الآية رقم (5):

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
{اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} قيل: المرادُ بالأيام الثلاثة وقتٌ واحدٌ، وإنما كرر للتأكيد، ولاختلافِ الأحداثِ الواقعةِ فيه حَسُنَ تكريرُه، والمراد بالطيبات ما مر {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي اليهود والنصارى واستثنى عليٌّ رضي الله تعالى عنه نصارَى بني تغلِبَ، وقال: ليسوا على النصرانية، ولم يأخُذوا منها إلا شرْبَ الخمر، وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه، والمراد بطعامهم ما يتناولُ ذبائِحَهم وغيرَها {لَكُمُ الطيبات} أي حلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأسَ، وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابُه، وحُكمُ الصابئين حكْمُ أهلِ الكتاب عنده. وقال صاحباه: هما صنفان، صنفٌ يقرؤون الزَّبورَ ويعبُدون الملائكة عليهم السلام، وصنفٌ لا يقرؤون كتاباً، ويعبُدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما المجوسُ فقد سُنَّ بهم سُنةَ أهل الكتاب في أخذ الجزيةِ منهم دون أكل ذبائحهم ونكاحِ نسائهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «سُنوا بهم سُنّةَ أهلِ الكتاب غيرَ ناكِحِي نسائِهم» {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا عليكم أن تُطعِموهم وتَبيعوه منهم، ولو حُرِّم عليهم لم يجز ذلك.
{والمحصنات مِنَ المؤمنات} رفع على أنه مبتدأ حُذف خبرُه لدلالةِ ما تقدم عليه أي حِلٌّ لكم أيضاً، والمرادُ بهن الحرائرُ العفائِف، وتخصيصُهن بالذكر للبعث على ما هو الأَوْلى لا لنَفْيِ ما عداهن، فإن نكاحَ الإماءِ المسلماتِ صحيحٌ بالاتفاق، وكذا نكاحُ غيرِ العفائِفِ منهن، وأما الإماءُ الكتابياتُ فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة رضي الله عنه، خلافاً للشافعي رضي الله عنه {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي هن أيضاً حل لكم، وإن كنّ حَرْبيات، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «لا تَحِلُّ الحربيات» {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ} أي مُهورَهن، وتقييدَ الحِلِّ بإيتائِها لتأكيد وجوبها، والحثِّ على الأولى، وقيل: المرادُ بإيتائها التزامُها، وإذا ظرفيةٌ عاملُها حَلَّ المحذوف، وقيل: شرطية حُذِف جوابُها، أي إذا آتيتموهن أجورهن حَلَلْنَ لكم {مُّحْصِنِينَ} حال من فاعل آتيتموهن أي حال كونِكم أعفّاءَ بالنكاح وكذا قوله تعالى: {غَيْرَ مسافحين} وقيل: حال من ضمير محصنين، وقيل: صفة لمحصِنين، أي غيرَ مجاهِرين بالزنا {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} أي ولا مُسرِّين به والخِدْنُ الصديق يقع على الذكر والأنثى، وهو إما مجرورٌ عطفاً على مسافحين وزِيدت لا لتأكيد النفي المستفادِ من غير، أو منصوبٌ عطفاً على {غير مسافحين} باعتبار أوجُهِهِ الثلاثة {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي ومن ينكرْ شرائعَ الإسلام التي من جملتها ما بُيِّن هاهنا من الأحكام المتعلقة بالحِلِّ والحرمة، ويمتنعْ عن قَبولها {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الصالح الذي عمِلَه قبل ذلك {وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} هو مبتدأ {من الخاسرين} خبرُه، و(في) متعلِّقةٌ بما تعلق به الخبرُ من الكون المطلق، وقيل: بمحذوف دل عليه المذكورُ أي خاسر في الآخرة، وقيل: بالخاسرين على أن الألف واللام للتعريف لا موصولة، لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وقيل: يُغتفرُ في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله:
ربَّيْتُه حتى إذا تمَعْددا ** كان جزائي بالعَصا أن أُجْلدا

.تفسير الآية رقم (6):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
{يأيها الذين آمنوا} شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بدِينهم بعد بيانِ ما يتعلقُ بدنياهم {إذا قمتم إلى الصلاة} أي أردتم القيامَ إليها كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبَّبِ عنها مَجازاً للإيجاز، والتنبيه على أن من أراد الصلاةَ حقُّه أن يبادِرَ إليها بحيث لا ينفك عن إرادتها، أو إذا قصدتم الصلاةَ إطلاقاً لاسمِ أحدِ لازميها على لازمِها الآخَرِ، وظاهرُ الآية الكريمةِ يوجبُ الوضوءَ على كل قائمٍ إليها وإن لم يكنْ محدِثاً، لما أن الأمرَ للوجوب قطعاً، والإجماعُ على خلافِه، وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الصلواتِ الخمسَ يومَ الفتح بوُضوءٍ واحد، فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه: صنعتَ شيئاً لم تكنْ تصنَعُه، فقال عليه الصلاة والسلام: «عمداً فعلتُه يا عمر» يعني بياناً للجواز، وحُمل الأمرُ بالنسبة إلى غيرِ المحدثِ على الندب مما لا مَساغَ له، فالوجهُ أن الخِطابَ خاصٌّ بالمُحْدِثين بقرينةِ دَلالةِ الحال، واشتراطِ الحدَثِ في التيمم الذي هو بدلُه، وما نُقل عن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء من أنهم كانوا يتوضّؤون لكل صلاةٍ فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يفعلونه بطريق الوجوبِ أصلاً، كيف لا وما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «من توضَّأ على طُهْرٍ كتبَ الله له عشرَ حسنات» صريحٌ في أن ذلك كان منهم بطريق الندب، وما قيل من أنه كان ذلك أولَ الأمرِ ثم نُسخ يردُّه قوله عليه الصلاة والسلام: «المائدةُ من آخِرِ القرآن نزولاً فأحِلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها» {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} أي أمِرُّوا عليها الماء، ولا حاجةَ إلى الدلك خلافاً لمالك {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} الجمهورُ على دخول المِرْفَقَين في المغسول، ولذلك قيل: (إلى) بمعنى مَعَ كما في قوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} وقيل: هي إنما تُفيد معنى الغاية مطلقاً، وأما دخولُها في الحُكْم أو خروجُها منه فلا دلالة لها عليه، وإنما هو أمرٌ يدور على الدليلِ الخارجي، كما في حفِظْتُ القرآنَ من أولِه إلى آخِرِه، وقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} فإن الدخولَ في الأول والخروجَ في الثاني مُتيقَّنٌ بناءً على تحقُّق الدليل، وحيث لم يتحققْ ذلك في الآية وكانت الأيدي متناوِلةً للمرافِقِ حُكِمَ بدخولها فيها احتياطاً، وقيل: (إلى) من حيث إفادتُها للغاية تقتضي خروجَها، لكن لما لم تتميَّزِ الغايةُ هاهنا عن ذي الغايةِ وجبَ إدخالُها احتياطياً.
{وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} الباءُ مزيدةٌ وقيل: للتبعيض، فإنه الفارقُ بين قولِك مسَحْتُ المِنْديلَ ومسحتُ بالمنديل، وتحقيقُه أنها تدل على تضمينِ الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصِقوا المسحَ برؤوسِكم، وذلك لا يقتضي الاستيعابَ كما يقتضيه ما لو قيل: وامسحُوا رؤوسَكم، فإنه كقوله تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} واختلف العلماء في القدر الواجب، فأوجب الشافعيُّ أقلَّ ما ينطلِقُ عليه الاسمُ أخذاً باليقين، وأبو حنيفةَ ببيانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث مسح على ناصيته وقدِّرها برُبُعِ الرأس، ومالكٌ مسَحَ الكُلَّ أخذاً بالاحتياط {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} بالنْصب عطفاً على {وجوهَكم}، ويؤيده السنةُ الشائعةُ وعَمَلُ الصحابةِ وقولُ أكثرِ الأئمةِ والتحديدُ، إذِ المسْحُ لم يُعهَدْ محدوداً، وقرئ بالجرِّ على الجِوار، ونظيرُه في القرآن كثير، كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ونظائرِه، وللنحاة في ذلك بابٌ مفرَدٌ، وفائدتُه التنبيهُ على أنه ينبغي أن يقتصِدَ في صبِّ الماء عليها ويغسِلَها غسلاً قريباً من المسح، وفي الفصل بينه وبين أخواتِه إيماءٌ إلى أفضلية الترتيب، وقرئ بالرفع أي وأرجلُكم مغسولةٌ {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} أي فاغتسِلوا وقرئ {فاطْهُروا} أي فطهِّروا أبدانَكم وفي تعليق الأمرِ بالطهارة الكبرى بالحدثِ الأكبر إشارةٌ إلى اشتراط الأمر بالطهارةِ الصغرى بالحدث الأصغر.
{وَإِنْ كُنتُم مرضى} مرضاً يُخاف به الهلاكُ أو ازديادُه باستعمال الماء {أَوْ على سَفَرٍ} أي مستقرِّين عليه {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ} مِنْ لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، وهي متعلقةٌ بامسحوا، وقرئ {فأمُوُّا صعيداً} وقد مر تفسيرُ الآية الكريمة مشبَعاً في سورة النساء فليرجَعْ إليه، ولعل التكريرَ ليتّصِلَ الكلامُ في أنواع الطهارة {مَا يُرِيدُ الله} أي ما يريد بالأمرِ بالطهارة للصلاةِ أو بالأمرِ بالتيمم {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} من ضيقٍ في الامتثال به.
{ولكن يُرِيدُ} ما يريد بذلك {لّيُطَهّرَكُمْ} أي ليُنظِّفَكم أو ليطهِّرَكم عن الذنوب، فإن الوضوءَ مكفِّرٌ لها، أو ليطهرَكم بالتراب إذا أعْوَزَكم التطَهُّر بالماء، فمفعولُ {يريد} في الموضعين محذوفٌ، واللام للعلة، وقيل: مزيدة، والمعنى ما يريد الله أن يجعلَ عليكم من حرجٍ في باب الطهارة حتى لا يُرَخَّصَ لكم في التيمم، ولكن يريد أن يطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهّرُ بالماء {وَلَّيْتُم} بشرعه ما هو مُطَهِّرَةٌ لأبدانكم ومُكفِّرةٌ لذنوبكم {نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في الدين، أو ليُتم برُخَصِه إنعامَه عليكم بعزائمِه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته.
ومن لطائف الآية الكريمة أنها مشتملةٌ على سبعةِ أمور كلُّها مثنى، طهارتانِ: أصلٌ وبدلٌ، والأصلُ اثنان: مستوعَبٌ وغيرُ مستوعبٍ، وغيرُ المستوعَبِ باعتبار الفعل غسلٌ ومسح، وباعتبار المحلِّ محدودٌ وغيرُ محدود، وأن آلتَهما مائعٌ وجامِد، وموجِبُهما حدثٌ أصغرُ وأكبرُ، وأن المبيحَ للعُدول إلى البدلِ مَرَضٌ وسفر، وأن الموعودَ عليهما تطهيرُ الذنوب وإتمامُ النعمة.