فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (20):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان ما فعلت بنو إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاق منهم، وتفصيلِ كيفيةِ نقضِهم له وتعلّقِه بما قبله، من حيث إن ما ذُكر فيه من الأمور التي وصفَ النبيَّ عليه السلام بيانُها، ومن حيث اشتمالُه على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم، و{إذ} نُصب على أنه مفعولٌ لفعل مقدرٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق تلوينِ الخطاب، وصَرْفُه عن أهل الكتاب ليعدِّدَ عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات. أي واذكُر لهم وقت قولِ موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم بإضافتهم إليه {الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجابِ ذكرِها، لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقت مشتملٌ على ما وقع فيه تفصيلاً، فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضِراً بتفاصيله، كأنه مشاهَدٌ عِياناً، و{عليكم} متعلق بنفس النعمة إذا جُعلت مصدراً، وبمحذوف وقع حالاً منها إذا جُعلت اسماً، أي اذكروا إنعامه عليكم، وكذا {إذ} في قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جَعْله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعْلِه فيما بينكم من أقربائكم أنبياءَ ذوِي عددٍ كثير وأُولي شأنٍ خطير، حيث لم يَبْعثْ من أمة من الأمم ما بَعَث من بني إسرائيلَ من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} عطفٌ على {جعل} فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة، فإنه قد تكاثر فيهم الملوكُ تكاثرَ الأنبياء، وإنما حذف الظرف تعويلاً على ظهور الأمر أو جَعْل الكلِّ في مقام الامتنان عليهم ملوكاً، لما أن أقاربَ الملوك يقولون عند المفاخرة: نحن الملوك، وإنما لم يسلُكْ ذلك المسلكَ فيما قبله لما أن منصِبَ النبوةِ مِنْ عِظَم الخطر وعِزَّة المطلب وصعوبة المنال بحيث ليس يليقُ أن يُنْسبَ إليه ولو مجازاً مَنْ ليس ممن اصطفاه الله تعالى له. وقيل: كانوا مملوكين في أيدي القِبْط فأنقذهم الله تعالى فسمَّى إنقاذهم مُلْكاً، وقيل: المَلِكُ مَنْ له مسكنٌ واسع فيه ماء جار، وقيل: من له بيت وخدم، وقيل: من له مال لا يَحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمّل المشاق {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ} من فلْق البحر وإغراقِ العدو وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور العِظام، والمرادُ بالعالمين الأممُ الخالية إلى زمانهم، وقيل: مِنْ عالَمِي زمانِهم.

.تفسير الآيات (21- 22):

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}
{العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ} كرر النداء بالإضافة التشريفية اهتماماً بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به، والأرضُ هي أرضُ بيت المقدس، سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبياء ومسكنَ المؤمنين.
وقيل: هي الطورُ وما حوله، وقيل: دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن، وقيل: هي الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصَوْا: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وقولِه تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين} فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً، أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة، فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا، ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل، قيل: لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكَوْا وقالوا: يل ليتنا مِتْنا بمصر، تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى، وقوله: {فتنقلبوا} إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا، أو منصوبٌ على جواب النهي، والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لاسيما دخولُ ما كتب لهم.
{قَالُوا} استئناف مبنيٌّ نشأ من مَساق الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه؟ فقيل: قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك: {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} متغلِّبين لا يتأتّى منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم. والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناسَ ويقسرهم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان، فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا، فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بسببٍ من الأسباب التي لا تعلُّقَ لنا بها {فَإِنَّا داخلون} حينئذ، أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول بخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالةً على تقرُّر الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة، وإظهاراً لكمال الرغبة فيه، وفي الامتثال بالأمر.

.تفسير الآيات (23- 24):

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}
{قَالَ رَجُلاَنِ} استئنافٌ كما سبق كأنه قيل: هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض؟ فقيل: قال رجلان: {مِنَ الذين يَخَافُونَ} أي يخافون الله تعالى دون العدوِّ ويتّقونه في مخالفة أمرِه ونهيِه، وبه قرأ ابنُ مسعود، وفيه تعريضٌ بأن مَنْ عداهما لا يخافونه تعالى. بل يخافون العدو. وقيل: من الذين يخافون العدو أي منهم في النسب لا في الخوف وهما يوشَعُ بنُ نون وكالب بن يوقنا من النقباء، وقيل: هما رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه السلام، فالواو حينئذ لبني إسرائيلَ، والموصول عبارة عن الجبابرة، وإليهم يعود العائد المحذوف، أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويعضده قراءة من قرأ {يُخافون} على صيغة المبني للمفعول أي المَخُوفين، وعلى الأول يكون هذا من الإحافة أي من الذين يخوِّفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوِّفهم الوعيدُ {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} أي بالتثبيت وربْطِ الجأش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده، أو بالإيمان وهو صفة ثانيةٌ لرجلان، أو اعتراض، وقيل: حال من الضمير في يخافون أو من رجلان لتخصّصه بالصفة، أي قالا مخاطِبين لهم ومشجعين {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي بابَ بلدهم، وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لأن المقصودَ إنما هو دخولُ الباب وهم في بلدهم أي باغِتوهم وضاغِطوهم في المَضيق وامنعوهم من البُروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} أي باب بلدهم وهم فيه {فَإِنَّكُمْ غالبون} من غير حاجة إلى القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدنا أن قلوبَهم ضعيفة، وإن كانت أجسادُهم عظيمة، فلا تخشَوْهم واهجُموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر. وقيل: إنما حَكَما بالغَلَبة لما عَلِماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى: {كَتَبَ الله لَكُمْ} أو لِما علِما من سنّته تعالى في نَصْره ورسلَه وما عهِدا من صُنعه تعالى لموسى عليه السلام من قهر أعدائه، والأول أنسبُ بتعليق الغلَبةِ بالدخول.
{وَعَلَى الله} تعالى خاصةً {فَتَوَكَّلُوا} بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزلٍ من التأثير، وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مؤمنين به تعالى مصدِّقين لوعده فإن ذلك مما يوجبُ التوكل عليه حتماً {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالوا غيرَ مبالين بهما وبمقالتهما مخاطِبين لموسى عليه السلام إظهاراً لإصرارهم على القول الأول وتصريحاً بمخالفتهم له عليه السلام {ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} أي أرضَ الجبابرة فضلاً عن دخول بابهم وهم في بلدهم {أَبَدًا} أي دهراً طويلاً {مَّا دَامُواْ فِيهَا} أي في أرضهم وهو بدل من {أبداً} بدلَ البعض أو عطفُ بيان {فاذهب} الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمر كذلك فاذهب {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} أي فقاتلاهم، إنما قالوا ذلك استهانةً واستهزاء به سبحانه وبرسوله، وعدمَ مبالاةٍ بهما، وقصدوا ذهابَهما حقيقةً كما يُنْبىء عنه غايةُ جهلِهم وقسوةُ قلوبهم، وقيل: أرادوا إرادتَهما وقصْدَهما كما تقول: كلمتُه فذهب يجيبني، كأنهم قالوا: فأَرِيدا قتالَهم واقْصِداهم. وقيل: التقدير فاذهبْ أنت وربُك يُعينُك، ولا يساعده قوله تعالى: {فَقَاتِلا} ولم يذكروا هارون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى: {إِنَّا هاهنا قاعدون} يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدمَ التقدم لا عدمَ التأخر.

.تفسير الآيات (25- 26):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
{قَالَ} عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العِناد على طريقة البثِّ والحُزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلبِ التي بمثلها تُستجلبُ الرحمةُ وتُسْتَنزَلُ النُّصرة {رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} عطف على نفسي، وقيل: على الضمير في {إني} على معنى إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملِكُ إلا نفسَه، وقيل: على الضمير في {لا أملك} للفصل {فافرق بَيْنَنَا} يريد نفسه وأخاه، والفاء لترتيب الفرق أو الدعاءِ به على ما قبله {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} الخارجين عن طاعتك المُصِرّين على عِصيانك بأن تحكُم لنا بما نستحقّه وعليهم بما يستحقونه، وقيل: بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصِنا من صحبتهم.
{قَالَ فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} تحريمَ منعٍ لا تحريمَ تعبُّد، لا يدخُلونها ولا يملِكونها لأن كتابتها لهم كانت مشروطةً بالإيمان والجهاد، وحيث نكصوا على أدبارهم حُرموا ذلك وانقلبوا خاسرين، وقوله تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} إن جُعل ظرفاً لـ {محرمةٌ} يكون التحريمُ مؤقتاً لا مؤبداً، فلا يكون مخالفاً لظاهر قولِه تعالى: {كَتَبَ الله لَكُمْ} فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة، لكن لا بمعنى أن كلَّهم يدخلونها بعدها بل بعضُهم بقيَ حسْبما رُوي أن موسى عليه السلام سار بمن بقيَ من بني إسرائيلَ إلى أريحا، وكان يوشعُ بنُ نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قُبض عليه السلام، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: {لن ندخُلها أبداً}، وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشىءُ من ذرياتهم، فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم، وإنما جُعل تحريمُها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد، وقوله تعالى: {يَتِيهُونَ فِي الارض} أي يتحيرون في البرية، استئناف لبيان كيفية حِرْمانهم، أو حال من ضمير عليهم، وقيل: الظرف متعلق بيتيهون فيكون التيه مؤقتاً والتحريم مطلقاً، قيل: كانوا ستمائة ألف مقاتل، وكان طول البرية تسعين فرسخاً، وقد تاهوا في ستة فراسخَ أو تسعة فراسخَ في ثلاثين فرسخاً، وقيل: في ستة فراسخَ في اثنى عشرَ فرسخاً.
روي أنهم كانوا كلَّ يوم يسيرون جادّين حتى إذا أمسَوا إذا هم بحيث ارتحلوا، وكان الغمامُ يُظلُّهم من حر الشمس، ويطلُع بالليل عمودٌ من نور يضيء لهم، ويَنزِلُ عليهم المن والسلوى، ولا تطول شعورُهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوبٌ كالظُفُر يطول بطوله، وهذه الإنعاماتُ عليهم مع أنهم معاقَبون لِما أن عقابَهم كان بطريق العِراك والتأديب. قيل: كان موسى وهارون معهم ولكن كان ذلك لهما رَوْحاً وسلامة كالنار لإبراهيم وملائكةِ العذاب عليهم السلام، وروي أن هارون مات في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة، ودخل يوشعُ أريحا بعد موته بثلاثة أشهر، ولا يساعده ظاهرُ النظم الكريم، فإنه تعالى بعد ما أقبل على بني إسرائيلَ وعذبهم بالتيه بعيدٌ أن ينجِّيَ بعضَ المدعوِّ عليهم أو ذراريهم ويقدّر وفاتَهما في محل العقوبة ظاهراً، وإن كان ذلك لهما منزِلَ رَوْحٍ وراحةٍ وقد قيل: إنهما لم يكونا معهم في التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق بالمباعدة، ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر الفَرْقَ بما ذُكر من الحُكْمِ بما يستحقّه كلُّ فريق.
{فَلاَ تَأْسَ} فلا تحزن {عَلَى القوم الفاسقين} روي أنه عليه السلام ندِم على دعائه عليهم فقيل: لا تندمْ ولا تحزَن فإنهم أحِقّاءُ بذلك لفسقهم.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}
{واتل عَلَيْهِمْ} عطف على مقدّر تعلق به قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى} الخ، وتعلُقه به من حيث إنه تمهيدٌ لما سيأتي من جِنايات بني إسرائيلَ بعد ما كُتب عليهم ما كُتب وجاءتهم الرسلُ بما جاءت به من البينات {نَبَأَ ابْنَي آدَم} هما قابيلُ وهابيلُ، ونُقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بني إسرائيلَ بقرينةٍ آخِرَ القصة، وليس كذلك. أوحى الله عز وجل إلى آدمَ أن يزوج كلاًّ منهما توأمةَ الآخر وكانت توأمةُ قابيلَ أجملَ واسمُها إقليما فحسدَه عليها أخاه وسخِط، وزعم أن ذلك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدمَ عليه السلام فقال لهما عليه السلام: قرِّبا قُرباناً فمِنْ أيِّكما قُبل تزوّجها، ففعلا، فنزلت نارٌ على قُربانِ هابيلَ فأكلتْه ولم تتعرَّضْ لقُربانِ قابيلَ، فازداد هابيلُ حسَداً وسُخْطاً وفعل ما فعل، {بالحق} متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لمصدرٍ محذوف، أي تلاوةً ملتبسةً بالحق والصِّحة، أو حالاً من فاعلِ {اتْلُ} أو من مفعوله، أي ملتبساً أنت أو {اتل} نبأَهما بالحق والصدقِ حسبما تقرّر في كتب الأولين {إِذْ قَرَّبَا قربانا} منصوب بالنبأ ظرفٌ له أي اتلُ قصتهما ونبأهما في ذلك الوقت، وقيل: بدلٌ منه على حذف المضافِ أي اتلُ عليهم نبأهما نبأَ ذلك الوقت، ورُد عليه بأن {إذ} لا يضاف إليها غيرُ الزمان كوقتئذ وحينئذ، والقُربان اسمٌ لما يُتقرَّب به إلى الله تعالى من نسُكٍ أو صَدَقةٍ كالحُلوان اسمٌ لما يُحْلى أي يعطى، وتوحيدُه لما أنه في الأصل مصدرٌ، وقيل: تقديره إذ قرّب كلٌّ منهما قرباناً {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} هو هابيلُ، قيل: كان هو صاحبَ ضَرْعٍ وقرب جَملاً سميناً فنزلت نارٌ فأكلتْه {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} هو قابيل، قيل: كان هو صاحبَ زرع وقرّب أردأَ ما عنده من القمح فلم تتعرضْ له النارُ أصلاً.
{قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل: فماذا قال من لم يُتقبَّلْ قُربانه؟ فقيل: قال لأخيه لِتضاعُفِ سَخَطِه وحسَدِه لما ظهر فضلُه عليه عند الله عز وجل {لاَقْتُلَنَّكَ} أي والله لأقتلنَّك بالنون المشددة وقرئ بالمخففة{قَالَ} استئناف كما قبله أي قال الذي تُقُبِّل قُربانُه لمّا رأى أن حسَدَه لقَبول قُربانه وعدمِ قَبول قُربانِ نفسِه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} أي القربانَ {مِنَ المتقين} لا من غيرهم، وإنما تقبَّلَ قُرباني وردّ قُربانَك لما فينا من التقوى وعدمِه، أي إنما أُتيتَ من قِبَل نفسِك لا من قِبَلي فلم تقتلني، خلا أنه لم يصرِّحْ بذلك بل سلك مسلكَ التعريضِ حذراً من تهييج غضبه وحملاً له على التقوى والإقلاعِ عما نواه ولذلك أُسند الفعلُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابة، ثم صرح بتقواه على وجهٍ يستدعي سكونَ غيظِه لو كان له عقلٌ وازعٌ حيث قال بطريق التوكيد.