فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (52):

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}
وقوله تعالى: {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بيان لكيفية توليهم، وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم، والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية، والخطابُ إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له، وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع، أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ، وإنما وُضع موضعَ الضمير الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين، وقوله تعالى: {يسارعون فِيهِمْ} حال من الموصول والرؤية بصرية، وقيل: مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية، والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم، أي تراهم مسارعين في موالاتهم، وإنما قيل: فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، وإيثارُ كلمة {في} على كلمة {إلى} للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يسارعون فِي الخيرات} لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} وقرئ {فيَريَ} بياء الغَيْبة على أن الضمير لله سبحانه، وقيل: لمن تصِحُّ منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي ويرى القومُ الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم، فلما حُذفت أنْ انقلب الفعلُ مرفوعاً كما في قول من قال:
ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أحْضُرُ الوغى

والمراد بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأضرابُه الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ، وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون، والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها، أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار، وقيل: نخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض. روي «أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي مواليَ من اليهود كثيراً عددُهم وإني أبرأ إلى الله ورسولِه من وَلايتهم، وأُوالي الله ورسوله. فقال عبد اللَّه بنُ أُبي: إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية مواليَّ» وهم يهودُ بني قَيْقُناع، ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ لأطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر، فإن {عسى} منه سبحانه وعدٌ محتوم، لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنك بأكرمِ الأكرمين؟ و{أن يأتي} في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش، أو على أنه مفعول به وهو رأيُ سيبويه، لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك: عسى زيد أن يقوم، والمراد بالفتح فتحُ مكةَ، قاله الكلبي والسُّديّ، وقال الضحاك: فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك، وقال قَتادة ومقاتِلٌ: هو القضاءُ الفصلُ بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزازِ الدين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء {فَيُصْبِحُواْ} أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على ما يأتي داخلٌ معه في حيز خبرِ عسى، وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها، فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك، فإنها تجعل الجملتين كجملة واحدة {على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نادمين} وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره عليه الصلاة والسلام، وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفرة لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}
{وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ} كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة وقرئ بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرئ {ويقولَ} بالنصب عطفاً على يصبحوا، وقيل: على {يأتيَ} باعتبار المعنى كأنه قيل: فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ، لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به، تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي بالنصر والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم {وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم} واسمُ الإشارة مبتدأ وما بعده خبرُه، والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك، أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم؟ فالخطابُ في {معكم} لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل: إنا معكم، وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدر ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم، فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه، ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدر أي أقسموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى: {حَبِطَتْ أعمالهم فَأَصْبَحُواْ خاسرين} إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري، وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هي حَيَّةٌ تسعى} أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة، فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم، والمعنى بطلتْ أعمالُهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفي، وقيل: قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما منّ الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص: أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بأغلظِ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار؟ بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلّفونها في رأيِ أعينِ الناس، وأنت خبير بأن هذا الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتُضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين المؤمنين، ولا ريب في أنهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك، فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك، وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم، فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشيةَ إصابةِ الدائرة.

.تفسير الآية رقم (54):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} وقرئ {يرتدِدْ} بالفك على لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم، لمّا نهيَ فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبيّن أن موالاتَهم مستدعيةٌ للارتداد عن الدين وفصَّل مصيرَ أمْرِ من يواليهم من المنافقين شَرَع في بيان حال المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآنُ قبل وقوعِها. روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فِرقةً، ثلاثٌ في عهد رسولِ الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخِمار، وهو الأسود العنْسي، كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عُمّالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذِ بنِ جبلٍ وإلى ساداتِ اليمنِ فأهلكه الله تعالى على يَدَيْ فيروزَ الدَّيْلمي، بيَّته فقتله، وأخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتلِه ليلةَ قُتل، فسُرَّ به المسلمون وقُبضَ عليه الصلاة والسلام من الغدِ، وأتى خبرُه في آخرِ شهرِ ربيع الأول، وبنو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلِمةَ رسولِ الله إلى محمدٍ رسولِ الله أما بعد فإن الأرضَ نصفُها لي ونصفُها لك.
فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمدٍ رسولِ الله إلى مسيلِمَةَ الكذاب، أما بعد فإن الأرضَ لله يورثُها من يشاء من عباده والعاقبةُ للمتقين» فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنودِ المسلمين، وقتل على يدَيْ وحشيَ قاتلِ حمزةَ رضي الله عنه. وكان يقول: قتلتُ في جاهليتي خيرَ الناس وفي إسلامي شرَّ الناس، وبنو أسد قومُ طليحةَ بنِ خويلد، تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالدَ بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشامِ فأسلم وحسُنَ إسلامُه، وسبعٌ في عهد أبي بكر رضي الله عنه فَزارةُ قومُ عيينةَ بنِ حِصْن، وغطَفانُ قوم قرَّةَ بنِ سلمة القشيري، وبنو سُلَيم قومُ الفُجاءة بنُ عبدِ ياليلَ، وبنو يَرْبوعٍ قومُ مالكِ بنِ نُوَيرة، وبعضُ تميم قومُ سَجاح بنتِ المنذر المتنبّئة، التي زوَّجَتْ نفسها من مسيلِمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب {استغفرْ واستغفري}:
آمتْ سَجاحِ ووالاها مسيلِمة ** كذابةٌ في بني الدنيا وكذّابُ

وكِندةُ قومُ الأشعث بن قيس، وبنو بكر بنِ وائل بالبحرَيْن قومُ الحطَمِ بنِ زيد، وكفى الله تعالى أمرَهم على يد أبي بكر رضي الله عنه، وفِرقة واحدةٌ في عهد عمرَ رضي الله عنه غسانُ قومُ جَبَلةَ بنِ الأيهم نصَّرتْه اللطمة، وسيَّرتْه إلى بلاد الروم وقصتُه مشهورة وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِى الله} جواب الشرط والعائد إلى اسم الشرط محذوفٌ أي فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} أي يريد بهم خيري الدنيا والآخرة، ومحل الجملة الجرُّ على أنها صفة لقوم، وقوله تعالى: {وَيُحِبُّونَهُ} أي يريدون طاعته ويتحرّزون عن معاصيه، معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها، قيل: هم أهلُ اليمن لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال قومُ هذا، وقيل: هم الأنصارُ رضي الله عنهم، وقيل: هم الفرسُ لما روي أنه عليه السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سَلمان رضي الله عنه وقال: «هذا وذوُوه» ثم قال: «لو كان الإيمانُ معلقاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارسَ» وقيل: هم ألفان من النخَع وخمسةُ آلافٍ من كِندةَ وثلاثةُ آلاف من أفياءِ الناس جاهدوا يوم القادسية.
{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} جمع ذليلٍ لا ذلول، فإن جمعه ذُلُلٌ أي أرِقّاءَ رحماءَ متذللين ومتواضعين لهم، واستعماله بـ {على} إما لتضمين معنى العطف والحُنُوّ، أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتِهم وفضلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتَهم، أو لرعاية المقابلة بينه وبين على في قوله تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أي أشداء متغلبين عليهم من عزّه إذ غلبه كما في قوله عز وعلا: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} وهما صفتان أُخريان لقومٍ تُرك بينهما العاطفُ للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما، وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة من الجملة والظرف، كما في قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ} وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ} وما ذهب إليه من لا يجوِّزه من أن قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} كرم معترِضٌ وأن {مبارك} خبرٌ بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وأن {من ربهم} و{من الرحمن} حالان مقدمتان من ضمير {محدَثٍ} تكلفٌ لا يخفى، وقرئ {أذلةً} و{أعزةً} بالنصب على الحالية من قوم لتخصصه بالصفة.
{يجاهدون فِي سَبِيلِ الله} صفة أخرى لقومٍ مترتبةٌ على ما قبلها مُبيِّنةٌ مع ما بعدها لكيفية عزتهم، أو حالٌ من ضميرٍ في {أعزة} {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين وفيه تعريضٌ بالمنافقين، فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ فلا يكادون يعملون شيئاً يلحقهم فيه لومٌ من جهتهم، وقيل: هو حال من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالُهم خلافُ حال المنافقين، واعتُرض عليه بأنهم نصُّوا على أن المضارعَ المنفيَّ بلا أو ما كالمُثْبَت في عدم جواز مباشرة واو الحال له واللَّوْمةُ المرةُ من اللوم، وفيها وفي تنكيرِ لائمٍ مبالغة لا تخفى.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها في الفضل {فَضَّلَ الله} أي لطفُه وإحسانُه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} إيتاءً إياه ويوفقُه لكسبه وتحصيلِه حسبما تقتضيه الحِكْمةُ والمصلحة {والله واسع} كثيرُ الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها مَنْ هو أهلٌ للفضل والتوفيق، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله، وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية.

.تفسير الآيات (55- 56):

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ} لما نهاهم الله عز وجل عن موالاة الكفرة وعلّله بأن بعضَهم أولياءُ بعض لا يُتصوَّرُ ولايتُهم للمؤمنين، وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم، بيَّن هاهنا من هو وليُّهم بطريقٍ قصَرَ الولايةَ عليه كأنه قيل: لا تتخذوهم أولياءَ، لأن بعضَهم أولياءُ بعضٍ وليسوا بأوليائكم، إنما أولياؤكم الله ورسولُه والمؤمنون فاختصُّوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى غيرهم، وإنما أفرد الوليَّ مع تعدده للإيذان بأن الولايةَ أصالةً لله تعالى وولايتُه عليه السلام، وكذا ولايةُ المؤمنين بطريقِ التبعية لولايتِه عز وجل {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة} صفة للذين آمنوا لجرَيانه مجرى الاسمِ أو بدلٌ منه أو نصْبٌ على المدح أو رفعٌ عليه {وَهُمْ رَاكِعُونَ} حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى، وقيل: هو حال مخصوصةٌ بإيتاء الزكاة، والركوعُ ركوعُ الصلاة، والمراد بيانُ كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه، ورُوي أنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكعٌ فطرح إليه خاتمه كأنه كان مرجاً في خِنْصَرِه غيرَ محتاجٍ في إخراجه إلى كثير عمل يؤدِّي إلى فساد الصلاة، ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس في مثل فعلِه رضي الله عنه، وفيه دلالة على أن صدقة التطوُّع تسمّى زكاةً {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءامَنُواْ} أُوثرَ الإظهارُ على أن يقال: ومن يتولَّهم رعايةً لما مر من نُكتةِ بيانِ أصالتِه تعالى في الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} حيث أضيفَ الحِزبُ إليه تعالى خاصة وهو أيضاً من باب وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضمير العائد إلى {من}، أي فإنهم الغالبون لكنهم جُعِلوا حزبَ الله تعالى تعظيماً لهم وإثباتاً لغَلَبتهم بالطريق البرهاني، كأنه قيل: ومن يتولَّ هؤلاء فإنهم حزبُ الله وحزبُ الله هم الغالبون.