فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (3):

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}
وقوله تعالى: {وَهُوَ الله} جملةٌ من مبتدأ وخبر، معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شُمولِ أحكام إلاهيّته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء إثرَ الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلْقِهم وتقديرِ آجالِهم، وقوله تعالى: {فِي السموات وَفِى الارض} متعلقٌ بالمعنى الوصفيِّ الذي يُنبىء عنه الاسم الجليل، إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل: وهو المعبودُ فيهما، وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةُ المبنيَّةُ على الحِكَم البالغة، فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قيل: وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِى الارض إله} وليس المراد بما ذُكر من الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك، بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله: أسدٌ عليَّ إلخ، ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه، فجَرى مَجرى جريءٌ عليَّ، وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفي الأرض، أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية، بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق، فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفسُ الوصف الذي اشتهر به، إذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به. ألا يُرى أن كلمة {عليّ} في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً، وقيل: هو متعلق بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل: وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما، وقيل: بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل: وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق، من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع، لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية، أو على تقدير القول. وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما، وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما، فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قولُه عز وجل.
{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال أو ما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كان من الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه، وتعليقُ علمِه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً، فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب، وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً، لكن لا لما قيل من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم، إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً، إذ المراد بما ذكره هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل، لا ريبَ في أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً، بل لأن ما ذُكر من العلم غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له، وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً، لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له، بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف في البيانية. وقيل: هو خبر بعد خبر عند من يجوِّز كونَ الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هي حَيَّةٌ تسعى} وقيل: هو الخبر، والاسمُ الجليل بدلٌ من {هو}، وبه يتعلق الظرف المتقدم، ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك: رميتُ الصيدَ في الحرَم، إذا كان هو فيه وأنت في خارجَه، ولعل جعْلَ سرهم وجهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لا يعزُب عن علمه شيءٌ منهما في أي مكان كان، لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً، وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية، وتخصيصُها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها، لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}
{وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ} كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكَهم بالله سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد، وفي الآية الثانية امتراءَهم في البعث وإعراضَهم عن بعض آياته. والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضى أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً، وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم، فما نافية، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو للدلالة على الاستمرار التجدُّديّ، و{مِنْ} الأولى مزيدة للاستغراق، والثانيةُ تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورها صفةً لآية، وإضافةُ الآيات إلى اسم اربِّ المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترأوا عليه في حقها. والمراد بها إما الآياتُ التنزيليةُ فإتيانُها نزولُها، والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنية التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات، وإحاطةِ علمه بجميع أحوالِ الخلقِ وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه، وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيب المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم.
والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذُكر من جلائِلِ شؤونه تعالى الشاهدةِ بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها. المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها، وإيثارُه على أن يقال: إلا أعرضوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} للدَلالة على استمرارهم على الإعراض حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآيات، و{عن} متعلقةٌ {بمعرضين} قُدِّمت عليه مراعاةً للفواصل، والجملة في محل النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعلِه المتخصِّصِ بالوصف لاشتمالها على ضمير كا منهما. وأياً ما كان ففيها دلالة بينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض، وإيقاعِها له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ {لما} في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية منه، عبّر عنه بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به، فإن تكذيب الحقِّ مما لا يُتصوَّرُ صدورُه عن أحد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه، بل على أن الأول هو عينُ الثاني حقيقة، وإنما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباري، و{قد} لتحقيق ذلك المعنى في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً} بعد قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ} فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ، لكنه لما كان مغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تهويلاً لأمره، كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان، فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه، ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به آثرَ ذي أثير له عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة، والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله، ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه، كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِيهِمُ تَأْوِيلِهِ} كما يُنْبىء عنه قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإن {ما} عبارةٌ عن الحق المذكور عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه، وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة، وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد، وفي لفظ {الأنباء} إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع، وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلوِّ كلمتِه تأباه الآياتُ الآتية، و{سوف} لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريره، أي فسيأتيهم البتةَ وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانوا يكذِّبون به قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه، وإنما قيل: {يستهزئون} إيذاناً بأن تكذيبهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه. هذا على أن يرادَ بالآيات الآياتُ القرآنيةُ وهو الأظهر، وأما إن أريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف، والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض، حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات، ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على الآيات كلها أصلاً، وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله.

.تفسير الآية رقم (6):

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)}
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعيين ما هو المرادُ بالإنباء التي سبق بها الوعيد، وتقرير إتيانِها بطريق الاستشهاد، وهمزةُ الإنكار لتقرير الرؤية، وهي عِرْفانية مستدعيةٌ لمفعول واحد، و{كم} استفهاميةً كانت أو خبريةً معلِّقةٌ لها عن العمل مقيِّدةٌ للتكثير سادّةٌ مع ما في حيِّزها مسدَّ مفعولِها، منصوبةٌ بأهلكنا على المفعولية على أنها عبارةٌ عن الأشخاص، و{من قرن} مميِّزٌ لها على أنه عبارةٌ عن أهل عصر من الأعصار، سُمّوا بذلك لاقترانهم بُرهةً من الدهر كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «خيرُ القرون قَرني ثم الذين يلونهم» الحديث. وقيل: هو عبارة عن مدة من الزمان والمضافُ محذوف، أي من أهلَ قرن، وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنها عبارة عن المصدر أو عن الزمان فتعسفٌ ظاهر، و{من} الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرِفوا بمعايَنةِ الآثارِ وسَماعِ الأخبار كم أمةٍ أهلكنا من قبلِ أهل مكة؟ أي من قبلِ خلقِهم، أو من قبل زمانهم على حذف المضاف، وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه، كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم، وقوله تعالى: {مكناهم فِي الارض} استئناف لبيان كيفيةِ الإهلاك وتفصيلِ مباديه مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من صدر الكلام، كأنه قيل: كيف كان ذلك؟ فقيل: مكناهم الخ، وقيل: هو صفةٌ لقرنٍ لِما أن النكرةَ مفتقرةٌ إلى مخصص، فإذا وَلِيهَا ما يصلُح مخصِّصاً لها تعيّن وصفيتُه لها، وأنت خبير بأن تنوينَه التفخيميَّ مُغنٍ له عن استدعاء الصفة، على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونُه ومضمونُ ما عُطف عليه من الجُمل أمراً مفروغاً عنه غيرَ مقصود بسياق النظم، مؤدَ إلى اختلال النظم الكريم، كيف لا والمعنى حينئذٍ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرنٍ موصوفين بكذا وكذا، وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم، وأنه بيِّنُ الفساد. وتمكينُ الشيء في الأرض جعلُه قارّاً فيها، ولمّا لزِمه جعلُها مقراً له، ورد الاستعمالُ بكلَ منهما فقيل: تارةً مكّنه في الأرض، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} وأخرى مكّن له في الأرض ومنه قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الارض} حتى أُجرِيَ كلٌّ منهما مُجرَى الآخرَ.
ومنه قوله تعالى: {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} بعد قوله تعالى: {مكناهم فِي الارض}، كأنه قيل في الأول: مكنا لهم، وفي الثاني: ما لم نمكنْكم. و{ما} نكرةٌ موصوفةٌ بما بعدها من الجملة المنفية، والعائد محذوف، محلُها النصبُ على المصدرية، أي مكناهم تمكيناً لم نمكنْه لكم، والالتفاتُ لما في مواجهتهم بضَعف الحال مزيدُ بيانٍ لشأن الفريقين، ولدفعِ الاشتباه من أول الأمر عن مرجِعَي الضميرين {وَأَرْسَلْنَا السماء} أي المطرَ أو السحابَ أو الظلة لأنها مبدأ المطر {عَلَيْهِمْ} متعلق بأرسلنا {مُّدْرَاراً} أي مِغزاراً حال من السماء {وَجَعَلْنَا الانهار} أي صيّرناها فقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} مفعولٌ ثانٍ لجعلنا، أو أنشأناها فهو حال من مفعوله، و{من تحتهم} متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ: وأجرينا الأنهارَ من تحتهم، وليس المرادُ بتَعدادِ هاتيك النعم العظامِ الفائضةِ عليهم بعد ذكر تمكينهم بيانَ عِظَم جنايتهم في كفرانها واستحقاقَهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيانَ حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادِي الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب، وعدمَ إغناءِ ذلك عنهم شيئاً.
والمعنى: أعطيناهم من البسطة في الأجسام والامتدادِ في الأعمار والسَّعةِ من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضارِّ ما لم نُعط أهلَ مكةَ ففعلوا ما فعلوا {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكنا كلَّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخُصّهم من الذنوب، فما أغنى عنهم تلك العُدَدُ والأسباب، فسيحِلُّ بهؤلاء مثلُ ما حل بهم من العذاب، وهذا كما ترى آخِرُ ما به الاستشهادُ والاعتبار، وأما قولُه سبحانه: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن {قَرْناً آخَرِين} بدلاً من الهالكين فلبيان كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة سُلطانه وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم الكثيرة لم يَنْقُصْ من ملكه شيئاً بل كلما أهلك أمةً أنشأ بدلها أخرى.

.تفسير الآيات (7- 8):

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)}
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} جملةٌ مستأنفة سيقت بطريق تلوينِ الخطاب لبيان شدةِ شكيمتِهم في المكابرة وما يتفرَّع عليها من الأقاويل الباطلةِ إثْرَ بيانِ إعراضِهم عن آياتِ الله تعالى وتكذيبِهم بالحق واستحقاقِهم بذلك لنزولِ العذاب، ونسبةُ التنزيل هاهنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيانِ الآياتِ ومجيءِ الحقِّ فيما سبق إليهم للإشعار بقَدْحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحِهم فيما نزل عليه صريحاً. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في النَّضْر بنِ الحاث وعبدِ اللَّه بنِ أبي أميةَ ونوفلَ بنِ خويلد حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لن نؤمنَ لك حتى تأتيَنا بكتاب من عند الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى، وأنك رسولُه {كتابا} إن جُعل اسماً كالإمام فقوله: {فِى قِرْطَاسٍ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له، أي كتاباً كائناً في صحيفة. وإن جعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلِّق بنفسه {فَلَمَسُوهُ} أي الكتابَ وقيل: القرطاس، وقوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ} مع ظهور أن اللمس لا يكون عادةً إلا بالأيدي لزيادة التعيينِ ودفع احتمالِ التجوُّز الواقعِ في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} أي تفحّصنا، أي فمسُّوه بأيديهم بعد ما رأَوْه بأعينهم، بحيث لم يبقَ لهم في شأنه اشتباه، ولم يقدِروا على الاعتذار بتكسير الأبصار {لَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي لقالوا، وإنما وضع الموصولُ موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسنُ موقعِه باعتبار مفهومه اللغوي أيضاً {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه سحراً، تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره كما هو دأْبُ المُفحَمِ المحجوج، وديدَنُ المكابِرِ اللَّجوج.
{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} شروع في قدحهم في نبوته عليه السلام صريحاً بعد ما أُشير إلى قدحهم فيها ضِمناً. وقيل: هو معطوفٌ على جواب {لو}، وليس بذاك، لما أن تلك المقالةَ الشنعاءَ ليست مما يُقدَّر صدورُه عنهم على تقدير تنزيلِ الكتابِ المذكور، بل هي من أباطيلهم المُحقّقة، وخُرافاتهم المُلفّقة، التي يتعللون بها كلما ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل، أي هلا أُنزل عليه عليه السلام مَلكٌ بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيٌّ حسبما نُقل عنهم فيما رُويَ عن الكلبي ومقاتل، ونظيرُه قولهم: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} ولما كان مدارُ هذا الاقتراح على شيئين: إنزالِ الملَك كما هو وجعلِه معه عليه السلام نذيراً، أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يدخُل تحت الوجود أصلاً، لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود: لِما أن إنزالَ الملَك على صورته يقتضي انتفاءَ جعلِه نذيراً، وجعلُه نذيراً يستدعي عدمَ إنزاله على صورته لا مَحالة.
وقد أشير إلى الأول بقوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر} أي لو أنزلنا ملَكاً على هيئته حسْبما اقترحوه والحالُ أنه مِن هِوْل المنظر بحيث لا تُطيقُ بمشاهدته قوى الآحاد البشرية. ألا يرى أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكةَ ويفاوضونهم على الصور البشرية كضيف إبراهيمَ ولوطٍ وخصْمِ داودَ عليهم السلام وغير ذلك. وحيث كان شأنُهم كذلك وهم مؤيَّدون بالقُوى القدُسية فما ظنُّك بمن عداهم من العوام؟ فلو شاهدوه كذلك لقُضِيَ أمرُ هلاكهم بالكلية، واستحال جعلُه نذيراً، وهو مع كونه خلافَ مطلوبِهم مستلزِمٌ لإخلاءِ العالم عما عليه يدور نظامُ الدنيا والآخرةِ من إرسال الرُّسل، وتأسيسِ الشرائع، وقد قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} وفيه كما ترى إيذانٌ بأنهم في ذلك الاقتراحِ كالباحث عن حَتْفه بظِلْفه، وأن عدم الإجابة إليه للبُقيا عليهم، وبناءُ الفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نونُ العَظمة مع كونه في السؤال مبنياً للمفعول لتهويلِ الأمر وتربية المهابة، وبناء الثاني للمفعول للجري على سَنن الكِبرياء، وكلمةُ {ثم} في قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أي لا يُمْهَلون بعد نزوله طرفةَ عينٍ فضلاً عن أن يُنْذَروا به كما هو المقصودُ بالإنذار، للتنبيه على تفاوت ما بين قضاءِ الأمر وعدمِ الإنظار، فإن مفاجأة العذابِ أشدُّ من نفس العذاب وأشق. وقيل: في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملَك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آيةٌ لا شيءَ أبينُ منها ثم لم يؤمنوا لم يكنْ بدّ من إهلاكهم، وقيل: إنهم إذا رأَوه يزول الاختيارُ الذي هو قاعدةُ التكليف، فيجبُ إهلاكُهم، وإلى الثاني أُشير بقوله تعالى: